24 فبراير 2017
خيارات إيران في الهلال الخصيب
يعكف المسؤولون الإيرانيون، المنشغلون بالمفاوضات النووية وإعادة الاصطفافات التي سيرتبها أي اتفاق داخل هيكلية النظام في إيران، على إعادة ترتيب أوراقهم في منطقة الهلال الخصيب، بغرض مواجهة ضغوط منافسيهم الإقليميين هناك.
وبداية، أكد الساسة الإيرانيون، الذين يعتبرون سورية درة تاج نفوذهم الإقليمي في العالم العربي، أنهم سيواصلون تقديم الدعم لبشار الأسد "حتى النهاية"، على خلفية سقوط إدلب وتدمر، بالترافق مع زيادة دعمهم مليشيا الحشد الشعبي، عقب استيلاء تنظيم داعش على مدينة الرمادي، مركز محافظة الأنبار العراقية. وعلى الأغلب، إنهم ينتظرون انتهاء المفاوضات النووية، لكي يتفرغوا للوضع في سورية.
وعلى طاولة المرشد الأعلى للثورة في إيران، علي خامنئي، أربعة خيارات للتعامل مع المستجدات في سورية والعراق. أولها، إعادة الهيمنة الإيرانية على الهلال الخصيب. ثانيها، الإقرار بانهيار الهيمنة الإيرانية هناك، والعمل على إشاعة الفوضى الإقليمية لاستنزاف المنطقة وتشتيتها، تمهيداً لتقسيمها. ثالثها، الدفع وراء تسوية منفردة مع الأميركيين حول سورية والعراق. رابعها، تحسين المواقع الإيرانية، استعداداً للحظة التسوية الجماعية. لكن، ربما كان في دروس الواقع، والماضي، عبرة للإيرانيين.
إعادة عقارب الساعة
يتمثل الخيار الأول بالنسبة لإيران في استعادة الهيمنة الشاملة على الهلال الخصيب، عبر مساعدة النظامين في دمشق وبغداد على استعادة سيطرتهما المطلقة على سورية والعراق على التوالي. ولكن، وبناء على التراجع في قوة الجيش النظامي وحزب الله ومليشيات الدفاع الوطني في سورية، سيتطلب هذا الخيار التزاماً إيرانياً كبيراً، مدعوماً بعشرات آلاف الجنود من الجيش والحرس الثوري الإيرانيين.
اكتفت إيران، إلى الآن، بتدخل محدود في سورية، يعتمد أساساً على المستشارين العسكريين والمتطوعين وحشد المقاتلين الأجانب. ومع ذلك، أزعج هذا التدخل المحدود السعودية وتركيا، اللتين ردتا بزيادة دعمهما الثوار، ووضع خطوط حمراء داخل الأراضي السورية، يُمنع اجتيازها.
وعلى الأرجح إن تطور التدخل الإيراني، من وضعه الاستشاري الراهن، إلى العسكري المباشر، سيثير غضب الدول الإقليمية، ويدفعها إلى إنشاء مناطق عازلة داخل سورية، وتزخيم دعمها الثوار من أجل استنزاف إيران بشدة أكبر.
وإذا كانت طهران قد احتاجت إلى ضوء أخضر أميركي وروسي مزدوج، من أجل إتمام تدخلها "المحدود" في سورية، فإن إرسال عشرات الآلاف من الجنود الإيرانيين إلى هذه الدولة سيتطلب ما هو أكثر من الضوء الأخضر، إذ على الأرجح أن تطلب إيران تكليفاً دولياً أو على الأقل ضمانات دولية.
وسبق لدمشق أن جربت التدخل العسكري المباشر في جارتها الضئيلة لبنان، والذي انتهى باتفاق الطائف، وبوصاية سورية على الشأن اللبناني، أُخضعت لقيود الشراكة مع السعودية من جهة، ومع إيران من جهة أخرى، فضلاً عن الإشراف الأميركي. وعلى الأرجح أن ينتهي أي مسعى إيراني لاستعادة الهيمنة على سورية بشيء مماثل لاتفاق الطائف، وهي نتيجة محددة منذ الآن في بيان جنيف.
علاوة على ذلك، سيقود التدخل الإيراني المباشر، الذي سيتم بذريعة محاربة الإرهاب، إلى خوض إيران حرباً برية ضد تنظيم داعش، الأمر الذي رفضته القوى الدولية والإقليمية. وبناء على تجارب الغزو الأميركي لكل من أفغانستان والعراق، وتجربة التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن ضد داعش، فإن الصراع العسكري مع هذا التنظيم لن يكون نزهة بالنسبة للجيش الإيراني، حتى لو تم بالتنسيق الكامل مع قوات التحالف الذي تقوده واشنطن.
وتتضح مخاطر سعي دولة من الدول إلى استعادة هيمنتها الشاملة بعد انهيارها، من حادثة وقعت قبل حوالي أربعمائة عام، فقد رفض آل هابسبرغ حكام الإمبراطورية الرومانية المقدسة وإسبانيا، الإقرار بنتائج الإصلاح الديني، وأصروا على إعادة الهيمنة الشاملة للسلطة الإمبراطورية والكنيسة الكاثوليكية على مناطق الاعتراف البروتستاني في شمال ألمانيا. في نهاية المطاف، تسبب تحجر آل هابسبرغ وعنادهم، وضيق أفقهم في خسارتهم هيمنتهم التقليدية على أوروبا لصالح آل بوربون حكام فرنسا. فكان ذلك أهم نتيجة لحرب الثلاثين عاماً (1618 – 1648)، والتي كرسها صلح وستفاليا. ولم يفت مستشار النمسا، كليمانس فون مترنيخ، الدرس بعد نحو قرنين. لقد أجبرت هزيمة آل هابسبرغ أمام الإمبراطور نابليون بونابرت على تصفية الإمبراطورية الرومانية المقدسة (عام 1806). وعندما عرضت روسيا على النمسا استعادة الإمبراطورية ثمناً لاشتراك فيينا في الحرب ضد بونابرت، بعد حريق موسكو، أبى مترنيخ ذلك، وفضل تأسيس الاتحاد الألماني الذي تترأسه النمسا.
أما محاولات بونابرت نفسه للهيمنة على أوروبا، فقد انتهت بتكتل الدول الأوروبية ضده، وهزيمته، وانهيار امبراطوريته.
تغذية الفوضى وصولاً إلى التقسيم
لإيران مصلحة في تشتيت العرب في الهلال الخصيب وتقسيمهم. وهي تملك خياراً في أن تستثمر الفوضى الراهنة في المنطقة، والتي سببها الانهيار المزدوج لمشروع الهيمنة الإيرانية ولاتفاقية سايكس بيكو. يتطلب هذا الخيار من إيران تبني نهج إدارة الأزمة، وقياساً دقيقاً لموازين القوى على الأرض، كي لا تفلت الأمور وتؤدي إلى خروج أعدائها منتصرين، كما يقتضي التقسيم وجود قوات احتلال إيرانية. وضمن الوقائع الحالية، تحتاج طهران كي تُفعّل خيارها هذا إلى رصد قوة عسكرية معتبرة من حوالي 25 ألف جندي، وعليها أن تحتل محافظة ديالى فعلياً، كي تضمن تحصين الأراضي الإيرانية من الفوضى.
واحتمال أن ترضخ القوى الإقليمية للاستراتيجية الإيرانية وارد، خصوصاً إذا ما ترافقت مع تصعيد الجهود الإيرانية لزعزعة استقرار الخليج واليمن وتركيا. لكن الاحتمال الأكبر يتمثل في زيادة التعاون والتنسيق بين القوى الإقليمية لمواجهتها، وهو أمر سيقض مضاجع الإيرانيين.
كما أن إيران، التي تعول كثيراً على العودة إلى الاقتصاد العالمي، ربما تريد بعض الاستقرار من أجل تحريك عجلة اقتصادها الراكد. وفوضى إقليمية قد تكبل الاقتصاد الإيراني، وتعافيه الضروري من أجل تأمين الموارد الكفيلة بتنفيذ خطة "تفكيك الهلال الخصيب". وعلى الأرجح، إن تقسيم دول الهلال الخصيب، على الرغم من جاذبيته للساسة الإيرانيين، لا يشكل خياراً تعمل طهران حقيقة على تنفيذه (فضلاً عن واقعية تطبيقه، في ظل رفض قطاعات كبيرة في دول الهلال نفسها للتقسيم، وعدم قبول القوى الإقلميية والدولية به)، وذلك لأن تداعيات التقسيم في الهلال الخصيب ستعود، من دون أدنى، شك بتداعيات خطيرة على وحدة الأراضي الإيرانية نفسها.
التسوية المنفردة مع واشنطن
لهذا الخيار جاذبيته الكبرى بالنسبة لطهران. فالإيرانيون مقتنعون بافتراق المصالح بين واشنطن وحلفائها الإقليميين (تركيا والسعودية وإسرائيل)، وأن لكل من هذه الأطراف رؤى متناقضة بالنسبة لشكل المنطقة ومستقبلها، ومحاربة داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى. لذلك، يعوّل المسؤولون الإيرانيون على الاتفاق النووي المفترض أن يتم التوصل إليه قريباً، من أجل فتح أبواب الصفقة الإقليمية مع الولايات المتحدة، يكون عنوانها التحالف ضد داعش.
وكي تظفر طهران بهكذا صفقة، عليها أن تثبت لواشنطن قدراتها في محاربة داعش، وتحكمها بسلطة اتخاذ القرار في كل من العراق وسورية.
وفي الوقت الراهن، تشير الدلائل إلى أن طهران سائرة في هذا الاتجاه، إذ تنشط الدبلوماسية الإيرانية من أجل تصليب المحور الإيراني العراقي السوري، عبر إبرام اتفاق أمني، يجمع الأطراف الثلاثة، يمكنها من وضع ترتيبات عسكرية وأمنية مشتركة، من أجل مكافحة داعش، وبذلك، تزيد من جاذبية الاختيار الإيراني في نظر الأميركيين. ولكن، إذا كانت القوى الإقليمية قد نجحت، إلى حد كبير، بوضع العصي في دواليب المفاوضات النووية، فكيف ستكون ردة فعلها على صفقة إقليمية بين أميركا وإيران، تهدد مصالحها المباشرة، وتحيلها إلى مجرد قوى ثانوية هامشية الدور في المنطقة؟
وربما كان لمجريات الأحداث في العام 2015 درس عميق للإيرانيين، فمع اقتراب التوصل إلى اتفاق نووي، تناست تركيا والسعودية وروسيا خلافاتها، وتلمست طريقها نحو صوغ تفاهمات مشتركة، وما لبثت أن ظهرت النتائج في اليمن وسورية. وإذا ما اشتمل الاتفاق النووي على جزء إقليمي، أو أدى إلى صفقة إقليمية، فإنه سيدفع تلك الدول إلى مزيد من التعاون.
وبحلول العام (2016)، ستكون الدول الإقليمية قد تحررت من وطأة يد الرئيس الأميركي، باراك أوباما الثقيلة، الذي سيتحول إلى "بطة عرجاء". وبذلك، ستكون قادرة على تقويض أي صفقة إيرانية أميركية منفردة حول المنطقة. وبدفع من القوى الإقليمية، قد يلجأ الكونغرس الأميركي إلى تشديد ضغوطه على إيران، ويربط تنفيذ الاتفاق النووي بتنازلات إقليمية.
وعلى الأرجح، ستتريث إدارة أوباما قبل الإقدام على هكذا صفقة. فتمرير الاتفاق النووي مع إيران داخل أروقة الكونغرس سيستنفد موارد هائلة من الإدارة. كما أن أوباما لن يكون في وضع يمكنه من تسليم إيران مطالبها، بموجب صفقة إقليمية، ولو أراد، لاقتراب ولايته من نهايتها واشتعال السباق على البيت الأبيض مع بداية العام المقبل.
وأخيراً، وحتى لو كانت إدارة أوباما حريصة على التوصل إلى اتفاق حول البرنامج النووي الإيراني، لكنها تريده وسيلة لإدماج إيران في المنظومة الدولية، وأحد اللبنات في بناء نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط، يقوم على التوازن بين الفرس والعرب والأتراك والأكراد.
تحسين المواقع قبل التسوية الجماعية
الإقرار بانهيار مشروعه للهيمنة على الهلال الخصيب هو أمر ثقيل الوطأة على خامنئي، بل وعلى كل النخب الإيرانية. والأشد منه وطأة عليهم هو الدخول في صفقة دولية إقليمية جماعية، لإعادة ترتيب المنطقة وإنشاء نظام إقليمي جديد. ومع ذلك، تملك إيران هذا الخيار. وعلى الأرجح أن تكون هذه الصفقة على نسق اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، في أواخر العقد التاسع من القرن العشرين، ولكن، هذه المرة، على صعيد الهلال الخصيب ككل.
ستشمل هكذا صفقة أطرافاً دولية، كالولايات المتحدة وروسيا، وإقليمية (تركيا - إيران – السعودية) ومحلية، السنة والعلويين والأكراد في سورية، والشيعة والسنّة والأكراد في العراق، والشيعة والسنة والمسيحيين في لبنان. ستستند هذه الصفقة في عملية إعادة تنظيم دول الهلال الخصيب إلى مكونات كل دولة من هذه الدول. ولكن، من دون الوصول إلى تقسيمها. وربما تكون الفيدرالية أحد الحلول.
تتحسس إيران الخطر من هكذا صفقة، فهي تؤدي إلى تراجع نفوذها الراجح في العراق ولبنان، وتقلص نفوذها في سورية إلى حد خطير. لذلك، قد تسعى إلى تحسين شروطها في هذه الصفقة، عبر سياسة من شعبتين. الأولى، دفع الحشد الشعبي بعيداً في مجاهل الأنبار، وصولاً إلى الموصل، وفرض الأمر على الجميع. الثانية، تعزيز صمود النظام في "سورية المفيدة"، وترسيخ المليشيات عبر مزيد من تفتيت الجيش، وتنظيم الأقليات والعشائر في جيوش صغيرة تكفلها طهران.
بهذا، تتمكن إيران من زيادة نصيبها في كل من العراق وسورية في أي تسوية جماعية.
معضلة الخيارات
يبدو أن هذه الخيارات المطروحة أمام خامنئي، وسواء طبقت بشكل منفرد، أو جرى إيجاد مزيج منها، ستعود في النهاية إلى المعضلة الراهنة نفسها. إن الحلول العسكرية وهم، واجتراح الحلول السياسية أمر في غاية التعقيد.
كما أن دروس التاريخ توضح لإيران مخاطر التشدد في تطبيق سياسةٍ، لا تملك مواردها، إضافة إلى استحالة فرض أمر واقع إقليمي بالقوة. وربما بقي أمام إيران منفذ واحد، هو استخدام نفوذها لإنهاء الفوضى في الهلال الخصيب، عبر المساهمة في وضع ترتيب دولي وإقليمي شرعي، يراعي علاقات حسن الجوار والصلات التاريخية والثقافية، بين العرب وجيرانهم الإيرانيين. والسؤال: هل تملك طهران الخيال والجرأة لتنفيذ هكذا مقاربة؟
وعلى طاولة المرشد الأعلى للثورة في إيران، علي خامنئي، أربعة خيارات للتعامل مع المستجدات في سورية والعراق. أولها، إعادة الهيمنة الإيرانية على الهلال الخصيب. ثانيها، الإقرار بانهيار الهيمنة الإيرانية هناك، والعمل على إشاعة الفوضى الإقليمية لاستنزاف المنطقة وتشتيتها، تمهيداً لتقسيمها. ثالثها، الدفع وراء تسوية منفردة مع الأميركيين حول سورية والعراق. رابعها، تحسين المواقع الإيرانية، استعداداً للحظة التسوية الجماعية. لكن، ربما كان في دروس الواقع، والماضي، عبرة للإيرانيين.
إعادة عقارب الساعة
يتمثل الخيار الأول بالنسبة لإيران في استعادة الهيمنة الشاملة على الهلال الخصيب، عبر مساعدة النظامين في دمشق وبغداد على استعادة سيطرتهما المطلقة على سورية والعراق على التوالي. ولكن، وبناء على التراجع في قوة الجيش النظامي وحزب الله ومليشيات الدفاع الوطني في سورية، سيتطلب هذا الخيار التزاماً إيرانياً كبيراً، مدعوماً بعشرات آلاف الجنود من الجيش والحرس الثوري الإيرانيين.
اكتفت إيران، إلى الآن، بتدخل محدود في سورية، يعتمد أساساً على المستشارين العسكريين والمتطوعين وحشد المقاتلين الأجانب. ومع ذلك، أزعج هذا التدخل المحدود السعودية وتركيا، اللتين ردتا بزيادة دعمهما الثوار، ووضع خطوط حمراء داخل الأراضي السورية، يُمنع اجتيازها.
وعلى الأرجح إن تطور التدخل الإيراني، من وضعه الاستشاري الراهن، إلى العسكري المباشر، سيثير غضب الدول الإقليمية، ويدفعها إلى إنشاء مناطق عازلة داخل سورية، وتزخيم دعمها الثوار من أجل استنزاف إيران بشدة أكبر.
وإذا كانت طهران قد احتاجت إلى ضوء أخضر أميركي وروسي مزدوج، من أجل إتمام تدخلها "المحدود" في سورية، فإن إرسال عشرات الآلاف من الجنود الإيرانيين إلى هذه الدولة سيتطلب ما هو أكثر من الضوء الأخضر، إذ على الأرجح أن تطلب إيران تكليفاً دولياً أو على الأقل ضمانات دولية.
وسبق لدمشق أن جربت التدخل العسكري المباشر في جارتها الضئيلة لبنان، والذي انتهى باتفاق الطائف، وبوصاية سورية على الشأن اللبناني، أُخضعت لقيود الشراكة مع السعودية من جهة، ومع إيران من جهة أخرى، فضلاً عن الإشراف الأميركي. وعلى الأرجح أن ينتهي أي مسعى إيراني لاستعادة الهيمنة على سورية بشيء مماثل لاتفاق الطائف، وهي نتيجة محددة منذ الآن في بيان جنيف.
علاوة على ذلك، سيقود التدخل الإيراني المباشر، الذي سيتم بذريعة محاربة الإرهاب، إلى خوض إيران حرباً برية ضد تنظيم داعش، الأمر الذي رفضته القوى الدولية والإقليمية. وبناء على تجارب الغزو الأميركي لكل من أفغانستان والعراق، وتجربة التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن ضد داعش، فإن الصراع العسكري مع هذا التنظيم لن يكون نزهة بالنسبة للجيش الإيراني، حتى لو تم بالتنسيق الكامل مع قوات التحالف الذي تقوده واشنطن.
وتتضح مخاطر سعي دولة من الدول إلى استعادة هيمنتها الشاملة بعد انهيارها، من حادثة وقعت قبل حوالي أربعمائة عام، فقد رفض آل هابسبرغ حكام الإمبراطورية الرومانية المقدسة وإسبانيا، الإقرار بنتائج الإصلاح الديني، وأصروا على إعادة الهيمنة الشاملة للسلطة الإمبراطورية والكنيسة الكاثوليكية على مناطق الاعتراف البروتستاني في شمال ألمانيا. في نهاية المطاف، تسبب تحجر آل هابسبرغ وعنادهم، وضيق أفقهم في خسارتهم هيمنتهم التقليدية على أوروبا لصالح آل بوربون حكام فرنسا. فكان ذلك أهم نتيجة لحرب الثلاثين عاماً (1618 – 1648)، والتي كرسها صلح وستفاليا. ولم يفت مستشار النمسا، كليمانس فون مترنيخ، الدرس بعد نحو قرنين. لقد أجبرت هزيمة آل هابسبرغ أمام الإمبراطور نابليون بونابرت على تصفية الإمبراطورية الرومانية المقدسة (عام 1806). وعندما عرضت روسيا على النمسا استعادة الإمبراطورية ثمناً لاشتراك فيينا في الحرب ضد بونابرت، بعد حريق موسكو، أبى مترنيخ ذلك، وفضل تأسيس الاتحاد الألماني الذي تترأسه النمسا.
أما محاولات بونابرت نفسه للهيمنة على أوروبا، فقد انتهت بتكتل الدول الأوروبية ضده، وهزيمته، وانهيار امبراطوريته.
تغذية الفوضى وصولاً إلى التقسيم
لإيران مصلحة في تشتيت العرب في الهلال الخصيب وتقسيمهم. وهي تملك خياراً في أن تستثمر الفوضى الراهنة في المنطقة، والتي سببها الانهيار المزدوج لمشروع الهيمنة الإيرانية ولاتفاقية سايكس بيكو. يتطلب هذا الخيار من إيران تبني نهج إدارة الأزمة، وقياساً دقيقاً لموازين القوى على الأرض، كي لا تفلت الأمور وتؤدي إلى خروج أعدائها منتصرين، كما يقتضي التقسيم وجود قوات احتلال إيرانية. وضمن الوقائع الحالية، تحتاج طهران كي تُفعّل خيارها هذا إلى رصد قوة عسكرية معتبرة من حوالي 25 ألف جندي، وعليها أن تحتل محافظة ديالى فعلياً، كي تضمن تحصين الأراضي الإيرانية من الفوضى.
واحتمال أن ترضخ القوى الإقليمية للاستراتيجية الإيرانية وارد، خصوصاً إذا ما ترافقت مع تصعيد الجهود الإيرانية لزعزعة استقرار الخليج واليمن وتركيا. لكن الاحتمال الأكبر يتمثل في زيادة التعاون والتنسيق بين القوى الإقليمية لمواجهتها، وهو أمر سيقض مضاجع الإيرانيين.
كما أن إيران، التي تعول كثيراً على العودة إلى الاقتصاد العالمي، ربما تريد بعض الاستقرار من أجل تحريك عجلة اقتصادها الراكد. وفوضى إقليمية قد تكبل الاقتصاد الإيراني، وتعافيه الضروري من أجل تأمين الموارد الكفيلة بتنفيذ خطة "تفكيك الهلال الخصيب". وعلى الأرجح، إن تقسيم دول الهلال الخصيب، على الرغم من جاذبيته للساسة الإيرانيين، لا يشكل خياراً تعمل طهران حقيقة على تنفيذه (فضلاً عن واقعية تطبيقه، في ظل رفض قطاعات كبيرة في دول الهلال نفسها للتقسيم، وعدم قبول القوى الإقلميية والدولية به)، وذلك لأن تداعيات التقسيم في الهلال الخصيب ستعود، من دون أدنى، شك بتداعيات خطيرة على وحدة الأراضي الإيرانية نفسها.
التسوية المنفردة مع واشنطن
لهذا الخيار جاذبيته الكبرى بالنسبة لطهران. فالإيرانيون مقتنعون بافتراق المصالح بين واشنطن وحلفائها الإقليميين (تركيا والسعودية وإسرائيل)، وأن لكل من هذه الأطراف رؤى متناقضة بالنسبة لشكل المنطقة ومستقبلها، ومحاربة داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى. لذلك، يعوّل المسؤولون الإيرانيون على الاتفاق النووي المفترض أن يتم التوصل إليه قريباً، من أجل فتح أبواب الصفقة الإقليمية مع الولايات المتحدة، يكون عنوانها التحالف ضد داعش.
وكي تظفر طهران بهكذا صفقة، عليها أن تثبت لواشنطن قدراتها في محاربة داعش، وتحكمها بسلطة اتخاذ القرار في كل من العراق وسورية.
وفي الوقت الراهن، تشير الدلائل إلى أن طهران سائرة في هذا الاتجاه، إذ تنشط الدبلوماسية الإيرانية من أجل تصليب المحور الإيراني العراقي السوري، عبر إبرام اتفاق أمني، يجمع الأطراف الثلاثة، يمكنها من وضع ترتيبات عسكرية وأمنية مشتركة، من أجل مكافحة داعش، وبذلك، تزيد من جاذبية الاختيار الإيراني في نظر الأميركيين. ولكن، إذا كانت القوى الإقليمية قد نجحت، إلى حد كبير، بوضع العصي في دواليب المفاوضات النووية، فكيف ستكون ردة فعلها على صفقة إقليمية بين أميركا وإيران، تهدد مصالحها المباشرة، وتحيلها إلى مجرد قوى ثانوية هامشية الدور في المنطقة؟
وربما كان لمجريات الأحداث في العام 2015 درس عميق للإيرانيين، فمع اقتراب التوصل إلى اتفاق نووي، تناست تركيا والسعودية وروسيا خلافاتها، وتلمست طريقها نحو صوغ تفاهمات مشتركة، وما لبثت أن ظهرت النتائج في اليمن وسورية. وإذا ما اشتمل الاتفاق النووي على جزء إقليمي، أو أدى إلى صفقة إقليمية، فإنه سيدفع تلك الدول إلى مزيد من التعاون.
وبحلول العام (2016)، ستكون الدول الإقليمية قد تحررت من وطأة يد الرئيس الأميركي، باراك أوباما الثقيلة، الذي سيتحول إلى "بطة عرجاء". وبذلك، ستكون قادرة على تقويض أي صفقة إيرانية أميركية منفردة حول المنطقة. وبدفع من القوى الإقليمية، قد يلجأ الكونغرس الأميركي إلى تشديد ضغوطه على إيران، ويربط تنفيذ الاتفاق النووي بتنازلات إقليمية.
وعلى الأرجح، ستتريث إدارة أوباما قبل الإقدام على هكذا صفقة. فتمرير الاتفاق النووي مع إيران داخل أروقة الكونغرس سيستنفد موارد هائلة من الإدارة. كما أن أوباما لن يكون في وضع يمكنه من تسليم إيران مطالبها، بموجب صفقة إقليمية، ولو أراد، لاقتراب ولايته من نهايتها واشتعال السباق على البيت الأبيض مع بداية العام المقبل.
وأخيراً، وحتى لو كانت إدارة أوباما حريصة على التوصل إلى اتفاق حول البرنامج النووي الإيراني، لكنها تريده وسيلة لإدماج إيران في المنظومة الدولية، وأحد اللبنات في بناء نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط، يقوم على التوازن بين الفرس والعرب والأتراك والأكراد.
تحسين المواقع قبل التسوية الجماعية
الإقرار بانهيار مشروعه للهيمنة على الهلال الخصيب هو أمر ثقيل الوطأة على خامنئي، بل وعلى كل النخب الإيرانية. والأشد منه وطأة عليهم هو الدخول في صفقة دولية إقليمية جماعية، لإعادة ترتيب المنطقة وإنشاء نظام إقليمي جديد. ومع ذلك، تملك إيران هذا الخيار. وعلى الأرجح أن تكون هذه الصفقة على نسق اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، في أواخر العقد التاسع من القرن العشرين، ولكن، هذه المرة، على صعيد الهلال الخصيب ككل.
ستشمل هكذا صفقة أطرافاً دولية، كالولايات المتحدة وروسيا، وإقليمية (تركيا - إيران – السعودية) ومحلية، السنة والعلويين والأكراد في سورية، والشيعة والسنّة والأكراد في العراق، والشيعة والسنة والمسيحيين في لبنان. ستستند هذه الصفقة في عملية إعادة تنظيم دول الهلال الخصيب إلى مكونات كل دولة من هذه الدول. ولكن، من دون الوصول إلى تقسيمها. وربما تكون الفيدرالية أحد الحلول.
تتحسس إيران الخطر من هكذا صفقة، فهي تؤدي إلى تراجع نفوذها الراجح في العراق ولبنان، وتقلص نفوذها في سورية إلى حد خطير. لذلك، قد تسعى إلى تحسين شروطها في هذه الصفقة، عبر سياسة من شعبتين. الأولى، دفع الحشد الشعبي بعيداً في مجاهل الأنبار، وصولاً إلى الموصل، وفرض الأمر على الجميع. الثانية، تعزيز صمود النظام في "سورية المفيدة"، وترسيخ المليشيات عبر مزيد من تفتيت الجيش، وتنظيم الأقليات والعشائر في جيوش صغيرة تكفلها طهران.
بهذا، تتمكن إيران من زيادة نصيبها في كل من العراق وسورية في أي تسوية جماعية.
معضلة الخيارات
يبدو أن هذه الخيارات المطروحة أمام خامنئي، وسواء طبقت بشكل منفرد، أو جرى إيجاد مزيج منها، ستعود في النهاية إلى المعضلة الراهنة نفسها. إن الحلول العسكرية وهم، واجتراح الحلول السياسية أمر في غاية التعقيد.
كما أن دروس التاريخ توضح لإيران مخاطر التشدد في تطبيق سياسةٍ، لا تملك مواردها، إضافة إلى استحالة فرض أمر واقع إقليمي بالقوة. وربما بقي أمام إيران منفذ واحد، هو استخدام نفوذها لإنهاء الفوضى في الهلال الخصيب، عبر المساهمة في وضع ترتيب دولي وإقليمي شرعي، يراعي علاقات حسن الجوار والصلات التاريخية والثقافية، بين العرب وجيرانهم الإيرانيين. والسؤال: هل تملك طهران الخيال والجرأة لتنفيذ هكذا مقاربة؟