دارفور أيضاً وأيضاً

13 ديسمبر 2014

مخيم نازحين في شمال دارفور (26 سبتمبر/2010/أ.ف.ب)

+ الخط -

عادت قضية إقليم دارفور مجدداً إلى واجهة الأحداث الدولية، عبر بوابة قرية صغيرة في شمال دارفور، اسمها تابت، أهميتها الكبرى والوحيدة موقعها القريب من جبل مرة، حيث معاقل قوات تقاتل الحكومة السودانية.  الأخبار التي راجت من هناك عن عمليات اغتصاب جماعي، قامت بها القوات الحكومية، وطالت مائتي امرأة هناك. والتقت الحكومة السودانية، أول مرة، وبعثة الامم المتحدة والاتحاد الإفريقي "يوناميد" عند نفي الأخبار التي ترددت في وسائل الإعلام، داخل السودان وخارجه. وافترقا عندما عادت البعثة الأممية لتجدد طلبها بإعادة تقصّي الحقائق لمعرفة ما جرى. هنا، عاد التاريخ، مرة أخرى، ليتيح الفرصة مجدداً للحكومة السودانية، عساها تعالج أخطاء الماضي والتصرف بشيء من الحكمة والاحترام للإنسان السوداني. في الحالة الأولى عام 2003، وما بعدها، واجهت الحكومة السودانية الاتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور بصياح ولطم وعويل عن المؤامرة التي تستهدف السودان والحكم الإسلامي "الراشد" فيه. وانتهى الأمر إلى مواجهة خسرها السودان، وأصبح الرئيس عمر البشير مطارداً من المحكمة الجنائية الدولية، متهماً بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور. 

وفي الحالتين، كان العقل يقول أن تعمل الحكومة القانون ليأخذ مجراه. لم يكن الأمر وقتها يتطلب سوى الأخذ بمحصلة قانونية راقية، توصلت اليها لجنة القانوني، دفع الله الحاج يوسف، وتقدم مرتكبي الفظائع أمام المحاكم السودانية وبعدالة. وقد قال لي لويس مورينو أوكامبو المدعي العام للجنائية الدولية السابق، في أحد لقاءاتي التي تكررت معه، إنه يرى أن ما توصلت اليه لجنة دفع الله عمل ممتاز، ويصلح لأن يكون أساساً جيداً لمحاكمة المجرمين في السودان. وقال إنه على قناعة بمن عرفهم من السودانيين، بتوفر كفاءات قانونية قادرة على القيام بتلك المهمة.

اليوم، عادت الخرطوم إلى إطلاق الصراخ وإظهار بائس للصورة النمطية التي دأبت عليها بتصوير السودان "المستضعف، المسكين المستهدف من القوى الظالمة التي لا تحب أن ترى السودان يتقدم". وكما اعتبر أحد المتحدثين باسم الحكومة، قبل أيام قليلة، ما جرى في تابت "هي أخبار كاذبة، يراد من ورائها إثارة الرأي العام الدولي على الحكومة"، أو القول إن "إعادة التحقيق في قضية الاغتصاب الجماعي في منطقة تابت هو بمثابة إذلال وانتهاك حرمة الدولة". والقضية ليست هينة حتى تحاول الخرطوم طي ملفها هكذا، من دون التحقق والتثبت من حقيقة ما جرى. ولا يعيب الخرطوم أن يجري تحقيق ثان وثالث، لأنه اتهام يطال الدولة وقواتها المسلحة بالقدر نفسه الذي يطال نساء دارفور وأهلها. ولو افترضنا أن شيئاً من ذلك لم يحدث، فإن الأمر أدعى لأن تحرص الخرطوم على التيقن من براءة قواتها بالقانون، وليس بخطوات فيها سذاجة شديدة، كالتي تمت حينما رتبت لعدد من الصحفيين زيارة تابت، فالتجربة الصحفية السودانية، وحدها، تؤكد أن الحكومة لن تسمح لأحد من الصحفيين بالخروج عن خط السير المختار بعناية، وهو ربما المسار نفسه الذي تنكّبه الموظفون الأمميون، ثم تبين، فيما بعد، أنهم حادوا عن جادة الصواب، فعدد الصحف السودانية التي تكرر إغلاقها وإيقافها، في الماضي، نتيجة تخطيها ما تعتبره الحكومة خطاً أحمر بشأن دارفور، يدلل بما لا يدع مجالاً للشك أن الخرطوم لن تتوانى عن إغلاقها، هذه المرة، أيضاً. والمفارقة، هنا، استنجاد الحكومة بالصحافة، محلية وعالمية، وهي التي تحظر على الصحافة السودانية مجرد التعرض لما يجري في دارفور. وإذا كانت الحكومة السودانية جادة حقاً في الكشف عن الحقيقة، وواثقة من أن شيئاً لم يحدث في تابت، فلماذا لا تسمح للبعثة الأممية التوجه إلى تابت ثانية وثالثة.

وقناعتي أن لا أحد يثق في ما تقوله الحكومة السودانية، لا في داخل السودان، حيث تمارس حظراً ثابتاً على النشر حول الشأن الدارفوري، الذي يتجاوز الخط المرسوم من الدولة. ولا يثق أحد في نهج الخرطوم الذي مارسته، ليس في تابت، وإنما في كل المناطق التي تعاني من ويلات الحرب والقصف بالطائرات والجرائم التي ترتكب ضد المدنيين. ولهذا، وبدلاً من الطلب الذي قدمته الخارجية السودانية للبعثة الأممية "يوناميد" أن تحزم حقائبها، والدخول في مواجهة مع الأسرة الدولية، عليها أن تساعد على إرسال بعثة تقصّ للحقائق، حتى بمشاركة أطراف سودانية، وبعيداً عن الوجود العسكري الكثيف الذي يحيط بمسرح الجريمة المزعومة، فالحقيقة يمكن أن تخدم مصالح الخرطوم، طالما كانت على قناعة بأن القضية ملفقة من أساسها. 

وتثبيت الحقيقة حول تابت يفيد في إعادة شيء من المصداقية التي فقدت جراء اندفاع الحكومة، أو الناطقين باسمها، وباسم القوات المسلحة، إلى طمس الحقائق ونفيها، والتي سرعان ما يتبين صحتها، وبالدرجة التي أصبح معها الناس في السودان على يقين بأن ما من نفي حكومي، إلا وراءه حقيقة مجلجلة. ولتبق الحقيقة وحدها، فهي منجاة من أعظم الشرور ومجنبة للسودان تنكب مغامرات ثبت خسرانها في مواجهة المجتمع الدولي. 

0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.