يؤمن الشاعر الكرواتي دامر شودان (Damir Šodan) بأن الشعر "الحقيقي" يرفض الإبهام وأن يكون مرجع ذاته، ويرغب في أن يُسْلم نفسه إلى العالم. هذا الإيمان يقف وراء خياراته وممارسته كشاعر وكاتب ومترجم للشعر، ووراء تفاؤله بوضعية الشعر الكرواتي المعاصر.
في منتصف تسعينيات القرن الماضي بدأ شودان (1964) بنشر قصائده، وأظهر منذ البداية أسلوباً متقناً وشعرية دالة متميزة أصبحت بمرور الزمن تحمل طابعاً دالاً على شخصيته لا يمكن أن يخطئها النظر.
ولا يخفي سعادته بالإشارات النقدية إلى فرادة أسلوبه وشعريته، لأنه يعتقد بأن الشعر ذاته هو نوع من رحلة داخلية تقود الإنسان، خلال نفق الذات، نحو ضوء العالم الخارجي، وأن للشعراء الجيدين أصواتاً خاصة بهم كما يتضح من قراءة شعراء مثل روبرت فروست وأودن وجوزيف برودسكي وديريك والكوت.
كتابه الأول، وعنوانه "تغيرات صوت" (1996)، كان محاولة تجريبية تُلقي الضوء على تعدّد اهتمامات الذات الغنائية، بدلاً من أن تكون انعكاساً لانشطار الذات أو تشتّتها وتمزّقها كما تقول مختلف نظريات ما بعد الحداثة الشائعة.
ولأنه نشط شعرياً في منتصف التسعينيات، أي خلال الحرب في وطنه كرواتيا" (1991-1995)، فقد طبعت هذه الحرب تجربته بطوابع متعدّدة، انعكست على حياته وشعره.
في زمن الحرب كان يدرّس اللغة الإنكليزية (اختصاصه الأكاديمي) في المدرسة الثانوية في "شازما" شمال شرقي كرواتيا، كعمل إلزامي من قبل الدولة غير مناسب لأن الراتب كان ضئيلاً، بالكاد يكفي للسفر إليها من زغرب حيث كان يعيش.
ومع ذلك اعتبر نفسه محظوظاً لأن معظم أصدقائه كانوا في الخنادق في مختلف خطوط القتال، وبعد أن دخلت قوات الأمم المتحدة إلى المنطقة التي مزّقتها الحرب، استطاع الحصول على عمل يدوي، ثم تمكن تدريجياً من شقّ طريقه من وظيفة إدارية إلى أخرى، إلى أن حصل على وظيفة مترجم في "المحكمة الجنائية الدولية" في لاهاي في هولندا حيث ما زال يعيش ويعمل. وعلى هذا يعلّق بالقول إن حبّه للغة الإنكليزية ومعرفته بها شكّلت حياته بالفعل.
ولكن الأكثر أهمية من كل هذا أن زمن الحرب أحدث تغييراً عميقاً في شعره، فأصبح أقل غموضاً، وتزايدت شفافيته وقربُه من القارئ، ولم يكن وحيداً في هذا، بل شاركه في ذلك أفراد جيله الذي شهد ورأى الكثير، بدءاً من خلق دولة أمة جديدة، فانهيار النظام الشيوعي، وصولاً إلى ظهور الدولة الرأسمالية التي يسمّونها مازحين في كرواتيا "نظام رأس المال الكرواتي".
وكان من الطبيعي بسبب هذا الواقع المتطفل على حياتهم كما يقول، أن تصبح كتابة هذا الجيل أقل تجريداً، وأن يقفز هو قفزة "كوانتمية"، أي قفزة غير متوقعة ولا محسوبة ولكنها نوعية، من كونه شاعراً منعزلاً، إلى وضعية شاعر ذي جمهور.
وفي وصفه لوضعية الشعراء والكتاب في يوغوسلافيا الثمانينيات، يرى شودان، أن للتيارات التفكيكية وما بعد البنيوية تأثيراً بالغاً على الأدب اليوغسلافي في الثمانينيات، فكانت وجهة الأدب هي الذات والجوهر. التغيرات الكبيرة حدثت مع أواخر التسعينيات، حين اجتاحت الأدب موجة واقعية جديدة، تلت ما بعد الحداثة وأطلقت عليها تسمية "ما بعد - الواقعية"، لأنها تضمّ سماتٍ من الأساليب السابقة عليها، وتبعاً لذلك أصبحت وجهة الأدب، من جديد، هي القارئ.
ولم يكن هذا هو سبب التغيّر الوحيد، فالترجمة بالنسبة له أحدثت تغيرات مهمة في كتابته وفهمه، حين انهمك في ترجمة الكثير من الشعر الأميركي لجون آشبري وتشارلز سيميك وريموند كارفر وتشارلز بوكوفسكي، وتأثر بالروح البسيطة الناسكة الإيطالية والمتواضعة لدى شاعرين إيطاليين أحبهما هما، مونتالي وأونغاريتي، وانتهى الأمر بكتابته إلى أن أصبحت "ممتعة" وفي متناول القراء.
للشاعر شودان مراجعاته أيضاً، فهو ما زال يثمّن تثميناً عالياً نسيج التعدّد الثقافي المدهش الذي عاش في ظله شعراء يوغوسلافيا السابقة، شعراء كرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا وصربيا.. إلخ، بحيث بدا وكأنهم يمتلكون لغة واحدة ولكن بلهجات مختلفة، فكلهم يفهم بعضهم بعضاً.
والآن مع عدم إنكاره للتاريخ المشترك على صعيد ثقافي بين شعراء ما كان ذات يوم وطناً واحداً يجمع السلافيين الجنوبيين (ومن هنا اسم يوغو الذي يعني الجنوب، وسلافيا)، إلا أنه يتلمّس ظاهرة الانفتاح على العالم والتفاعل معه، بحيث يشعر أنه قريب ثقافياً مع الكثير من الأدباء العالميين بغض النظر عن الاختلافات الشعرية.
وفي ما يخص الشعر الكرواتي، يرى أنه مختلف اختلافاً كبيراً عن شعر السلاف الآخرين، صرباً كانوا أو بوسنيين أو مقدونيين.. إلخ، فلديه مَيل نحو الاحتكام إلى معيار فلسفي وثقافي، وأحياناً إلى معيار غير سليم لسوء الحظ.
وكان الشعر الكرواتي في الزمن الاشتراكي ملجأ آمناً لما يسمّيها الأرواح الحرة التي لا تتقيّد بالأيديولوجيا، ومن جانب آخر كان منفتحاً حتى في ذلك الزمن على مؤثرات خارجية، إيطالية وفرنسية وألمانية وأنكلو-سكسونية بوضوح، وخصوصاً منذ ستينيات القرن العشرين.
ويلاحظ شودان أن هذا هو ما أنتج اليوم المشهد البالغ التنوّع والتلوّن، فهناك شعراء سيمانتيكيون (مهتمون باللغة)، وشعراء واقعيون وروحانيون وشكلانيون، وعدد ممّن ما زال يكتب في إطار الأوزان والقوافي التقليدية، وما بعد- طليعيين.. إلخ.
إضافة إلى أن هناك تشابهات مع المشهد الصربي المعاصر، ويشير هنا إلى مختارات من الكتابات الجديدة جمعتها رادميلا لازيتش (1949) تحت عنوان مثير للفضول: "النجوم جميلة ولكن لا وقت لدي لأنظر إليها"، وتأثراً بهذه المختارات قام هو من جانبه بجمع مختارات من الشعر الواقعي الكرواتي الجديد تحت عنوان "طبل مختلف".
الأمر الجميل لدى هذا الشاعر هو قوله إنه رغم عيشه سنوات طويلة خارج وطنه، إلا أنه لحسن الحظ لم يكن خارج لغته، لأن اللغة التي يُترجمها يومياً هي في غالب الأحيان اللغة الكرواتية. هذا الوضع غريب إلى حد ما حسب رأيه؛ أن يكون لديك عمل مع لغتك في بلد أجنبي.
اللغة الكرواتية تسكن فضاءه الداخلي، ومن الصعب بالنسبة له التعبير عن نفسه تعبيراً تاماً في لغة أخرى، إضافة إلى أنه عضو نشط في الوسط الأدبي الكرواتي، وفي أوساط بلدان يوغوسلافيا السابقة الأدبية، وتُترجم أعماله إلى لغاتها ولديه أصدقاء كثر فيها.
والخلاصة أنه يعتبر نفسه شاعراً كرواتياً أولاً، وعالمياً ثانياً، وهذا بسبب أسلوب حياته وجغرافية الأمكنة التي عاش فيها أزماناً طويلة. ولا يفوته أن يشير في بعض أحاديثه إلى أن الكتاب الكلاسيكيين المفضلين لديه مثل جويس وبيكيت وإليوت وباوند وغومبروفتش.. كانوا كلهم مغتربين، ويتذكر أن جرترود شتاين المغتربة أيضاً قالت ذات يوم: "ينبغي أن يكون لأي كاتب وطنان، واحد ينتمي إليه، وآخر يعيش فيه". وأشار أحدهم محقاً إلى أن الكتابة بحد ذاتها "شكل من أشكال المنفى".