بغضّ النظر عن حقيقة "الكونت دراكولا" التاريخية، وإذا كان فعلاً مصّاص دماء، أو أميراً حقيقياً قاسياً في حكمه ودموياً في قتال أعدائه، إلا أنّ أجيالاً كثيرة عرفته، من خلال السينما الأميركية، على أنّه "مصّاص دماء يخاف من الصليب ولا يمكن قتله إلا بطعنة في القلب مباشرة، وتحرقه شمس النهار فيعيش في الليل عيشة الخفافيش".
هكذا كانت "مشكلة" دراكولا مع "الصليب". وكان، في القرن الـ15 بعد الميلاد، جزءاً من تاريخ العصور الوسطى المسيحية، حيث السحر الأسود والكنيسة التي تلاحق "المشعوذين" وتحاربهم. ولم تكن مرّة مشكلته مع "المسلم" أو مع "المشرقي".
لكن في الفيلم الجديد الذي يُعرَض في الصالات حالياً، بعنوان: "دراكولا، القصّة غير المرويّة"، يدخل المشاهد إلى صالة السينما ليشاهد فيلماً عن "دراكولا"، ويخرج منها ليتحدّث عن "داعش". فالفيلم يقول إنّ الكونت دراكولا هو أمير أوروبي قتل السلطان العثماني التركي المسلم محمد الثاني حين حاول اجتياح بلاده بجحافل المسلمين. وهذا بالطبع تحريف للتاريخ.
لا يتوقّف التحريف هنا. ففي العودة إلى كتب التاريخ وإلى الويكيبيديا وبعض أساتذة التاريخ في الجامعة اللبنانية، تبيّن أنّ ارتباط قصّة "دراكولا" بالمسلمين حقيقة تاريخية. فالأمير "فلاد الرهيب" كان حاكماً على فالاكيا، التي هي جزء من رومانيا اليوم.
وكما يُكتَب التاريخ بانتقائية، فإنّ ما وَصَلَنا من حكاية هذا الحاكم صورة مقسومة، نصفها تصوّره "بطلاً" كان يصدّ هجمات العثمانيين ويحمي الأقليات الأوروبية، ونصفها يصوّره "مجرماً" قتل ما يزيد على 100 ألف من شعبه ومن أعدائه.
بعض الحكايات تقول إنّه فعلاً، كما يروي الفيلم الجديد، أرسل فلاد الثاني ابنه فلاد الثالث، الذي سيصير "فلاد الرهيب"، ليتربّى لدى السلطان العثماني، عربون وفاء وولاء واحترام. وحين توفي الوالد عاد فلاد الثالث إلى فالاكيا ليحكم بالسيف والقتل.
الرواية التاريخية تقول إنّ هذا الحاكم كان دموياً بطش بأبناء شعبه لتثبيت أركان حكمه وبسط سلطان الرعب في أرجاء مملكته. وليس فقط، كما قدّمه الفيلم، على أنّه كان يقتل غزاة عثمانيين مسلمين يدكّون أسوار أوروبا.
كان فعلًا سدّاً منيعاً أمام الغزوات التركية لأوروبا، لكنّه كان يقتل و"يُخَوْزِق" الجنود العثمانيين، ومثلهم من يتمرّد عليه أو يشمّ منه شبهة تآمر في الداخل. وحظِيَ هذا الحاكم بمساندة أمراء الممالك المجاورة لأنّه "حارب الأتراك". كان "ممانعاً" إذاً، لكن ليس على طريقة الممانعين العرب الذين يدّعون العداء للولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، وهم في العمق يحرصون على أمنهما ويعقدون الصفقات معهما.
كان "فلاد دراكولا" يقاتل الأتراك فعلاً ويدافع عن ثغور أوروبا، ولهذا غضّ ملوكها النظر عن مجازره بحقّ شعبه وعن خروجه على أبسط تعاليم الدين. إذ كان يجفّف الجثث التي يخوزقها ويقطّر دمها وأحياناً يغمّس الخبز في الدم ويأكلها. ومن هنا وُلِدَت فكرة رواية "دراكولا" التي خرجت إلى النور في عام 1897 على يد الكاتب البريطاني برام ستوكر.
واسم "دراكولا"، الذي لازم فلاد لاحقاً، اكتسبه من والده. فـ"دراكولا" يعني "ابن التنّين"، بالرومانية. إذ كان والده عضواً في تنظيم سريّ معادٍ للعثمانيين بأوروبا، يضمّ النبلاء والأمراء، اسمه "التنّين".
الرواية استوحاها ستوكر من علاقته ببروفسور هنغاري كان يخبره أساطير هنغارية ورومانية عن مصّاصي الدماء. فخلط هذه الأساطير بقصّة "فلاد الرهيب" وجعلها "رسالة" حول الصراع الأبدي الأزلي بين الخير والشرّ. وينتصر الخير في النهاية.
إذ يموت دراكولا، في الرواية الأصلية، بطعنة خشبية في قلبه وهو نائم نهاراً، في تابوته، ثم يُفصَل رأسه عن جسده. وهو موت يحاكي موت "فلاد الرهيب" الحقيقي، الذي ما زال قصره موجوداً في رومانيا. فقد قُتِلَ بفصل رأسه عن جسده من قبل قاتل ظلّ مجهولًا، وقيل إنّ السلطان العثماني محمد الثاني أرسله إليه في عام 1476، بعدما أتعبه في صدّ هجمات جيوشه.
في أفلام دراكولا، خلال السنوات الخمسين الأخيرة، كان يتمّ تصويره بين الرواية الخرافية، على أنّه مصّاص دماء تلقّى عضّة خفّاش، وبين أنّه عقد اتفاقاً مع الشيطان للقضاء على البشر. لكن ولا مرّة صُوِّرَ على أنّه حارب المسلمين وكان بطلاً قومياً أوروبياً.
في الفيلم الجديد يعقد حاكم ترانسلفانيا اتفاقاً مع الشيطان ليحظى بقواه الخارقة، بهدف صدّ هجوم محمّد الثاني على مملكته. محمّد (وتمعّنوا في معنى اسم "محمّد" هذه الأيّام، في الشرق والغرب) الغاضب لأنّ "فلاد الرهيب" لم يرسل إليه ألف مراهق لتحويلهم إلى مقاتلين، ومعهم ابنه. تماماً كما فعل والد فلاد الثاني حين أرسل فلاد الثالث إلى والد السلطان محمد.
في الفيلم الجديد، المعروض حالياً في صالات السينما حول العالم، يصير دراكولا بطلاً قوميّاً يحارب جحافل المسلمين، الذين يجعلك الفيلم تكرههم وتفرح لموتهم. جحافل الجيوش المسلمة التي تتساقط على أبواب ترانسلفانيا.
هكذا جعلنا الفيلم نحبّ دراكولا، مصّاص الدماء الجديد، الطيب القلب الذي يحبّ شعبه، ونتقرّب منه على اعتباره "مقاوِماً" ضدّ الاحتلال والغزو المسلم لأوروبا. رغم أنّه تحالف مع "الشيطان" ليمصّ دماء البشر. لكن ربّما لا بأس إذا كانوا مسلمين.
هكذا يصير التحالف مع الشيطان مقبولاً، في وجه المسلمين، بعدما كانت أفلام "دراكولا" كلّها تنتهي بقتله بـ"الصليب" و"الإيمان". وكان دائماً "البطل" الهوليوودي عدوّ دراكولا، الكافر الذي يزعجه الصليب ويؤذيه.
دائماً كانت هوليوود تركب موجات عالمية. فحيناً يكون الإرهابي هو العربي، وأحياناً الروسي، أو الشيوعي، أو الكوري، أو الصيني... اليوم هو "المسلم" و"التركي". ولا بأس من قتله، ولو استدعى الأمر التحالف مع الشيطان، ولو استدعى الأمر أن نحبّ مصّاصي الدماء، إذا كانت دماءً مسلِمة تلك التي سيمصّها بطلنا الجديد: دراكولا.
هكذا كانت "مشكلة" دراكولا مع "الصليب". وكان، في القرن الـ15 بعد الميلاد، جزءاً من تاريخ العصور الوسطى المسيحية، حيث السحر الأسود والكنيسة التي تلاحق "المشعوذين" وتحاربهم. ولم تكن مرّة مشكلته مع "المسلم" أو مع "المشرقي".
لكن في الفيلم الجديد الذي يُعرَض في الصالات حالياً، بعنوان: "دراكولا، القصّة غير المرويّة"، يدخل المشاهد إلى صالة السينما ليشاهد فيلماً عن "دراكولا"، ويخرج منها ليتحدّث عن "داعش". فالفيلم يقول إنّ الكونت دراكولا هو أمير أوروبي قتل السلطان العثماني التركي المسلم محمد الثاني حين حاول اجتياح بلاده بجحافل المسلمين. وهذا بالطبع تحريف للتاريخ.
لا يتوقّف التحريف هنا. ففي العودة إلى كتب التاريخ وإلى الويكيبيديا وبعض أساتذة التاريخ في الجامعة اللبنانية، تبيّن أنّ ارتباط قصّة "دراكولا" بالمسلمين حقيقة تاريخية. فالأمير "فلاد الرهيب" كان حاكماً على فالاكيا، التي هي جزء من رومانيا اليوم.
وكما يُكتَب التاريخ بانتقائية، فإنّ ما وَصَلَنا من حكاية هذا الحاكم صورة مقسومة، نصفها تصوّره "بطلاً" كان يصدّ هجمات العثمانيين ويحمي الأقليات الأوروبية، ونصفها يصوّره "مجرماً" قتل ما يزيد على 100 ألف من شعبه ومن أعدائه.
بعض الحكايات تقول إنّه فعلاً، كما يروي الفيلم الجديد، أرسل فلاد الثاني ابنه فلاد الثالث، الذي سيصير "فلاد الرهيب"، ليتربّى لدى السلطان العثماني، عربون وفاء وولاء واحترام. وحين توفي الوالد عاد فلاد الثالث إلى فالاكيا ليحكم بالسيف والقتل.
الرواية التاريخية تقول إنّ هذا الحاكم كان دموياً بطش بأبناء شعبه لتثبيت أركان حكمه وبسط سلطان الرعب في أرجاء مملكته. وليس فقط، كما قدّمه الفيلم، على أنّه كان يقتل غزاة عثمانيين مسلمين يدكّون أسوار أوروبا.
كان فعلًا سدّاً منيعاً أمام الغزوات التركية لأوروبا، لكنّه كان يقتل و"يُخَوْزِق" الجنود العثمانيين، ومثلهم من يتمرّد عليه أو يشمّ منه شبهة تآمر في الداخل. وحظِيَ هذا الحاكم بمساندة أمراء الممالك المجاورة لأنّه "حارب الأتراك". كان "ممانعاً" إذاً، لكن ليس على طريقة الممانعين العرب الذين يدّعون العداء للولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، وهم في العمق يحرصون على أمنهما ويعقدون الصفقات معهما.
كان "فلاد دراكولا" يقاتل الأتراك فعلاً ويدافع عن ثغور أوروبا، ولهذا غضّ ملوكها النظر عن مجازره بحقّ شعبه وعن خروجه على أبسط تعاليم الدين. إذ كان يجفّف الجثث التي يخوزقها ويقطّر دمها وأحياناً يغمّس الخبز في الدم ويأكلها. ومن هنا وُلِدَت فكرة رواية "دراكولا" التي خرجت إلى النور في عام 1897 على يد الكاتب البريطاني برام ستوكر.
واسم "دراكولا"، الذي لازم فلاد لاحقاً، اكتسبه من والده. فـ"دراكولا" يعني "ابن التنّين"، بالرومانية. إذ كان والده عضواً في تنظيم سريّ معادٍ للعثمانيين بأوروبا، يضمّ النبلاء والأمراء، اسمه "التنّين".
الرواية استوحاها ستوكر من علاقته ببروفسور هنغاري كان يخبره أساطير هنغارية ورومانية عن مصّاصي الدماء. فخلط هذه الأساطير بقصّة "فلاد الرهيب" وجعلها "رسالة" حول الصراع الأبدي الأزلي بين الخير والشرّ. وينتصر الخير في النهاية.
إذ يموت دراكولا، في الرواية الأصلية، بطعنة خشبية في قلبه وهو نائم نهاراً، في تابوته، ثم يُفصَل رأسه عن جسده. وهو موت يحاكي موت "فلاد الرهيب" الحقيقي، الذي ما زال قصره موجوداً في رومانيا. فقد قُتِلَ بفصل رأسه عن جسده من قبل قاتل ظلّ مجهولًا، وقيل إنّ السلطان العثماني محمد الثاني أرسله إليه في عام 1476، بعدما أتعبه في صدّ هجمات جيوشه.
في أفلام دراكولا، خلال السنوات الخمسين الأخيرة، كان يتمّ تصويره بين الرواية الخرافية، على أنّه مصّاص دماء تلقّى عضّة خفّاش، وبين أنّه عقد اتفاقاً مع الشيطان للقضاء على البشر. لكن ولا مرّة صُوِّرَ على أنّه حارب المسلمين وكان بطلاً قومياً أوروبياً.
في الفيلم الجديد يعقد حاكم ترانسلفانيا اتفاقاً مع الشيطان ليحظى بقواه الخارقة، بهدف صدّ هجوم محمّد الثاني على مملكته. محمّد (وتمعّنوا في معنى اسم "محمّد" هذه الأيّام، في الشرق والغرب) الغاضب لأنّ "فلاد الرهيب" لم يرسل إليه ألف مراهق لتحويلهم إلى مقاتلين، ومعهم ابنه. تماماً كما فعل والد فلاد الثاني حين أرسل فلاد الثالث إلى والد السلطان محمد.
في الفيلم الجديد، المعروض حالياً في صالات السينما حول العالم، يصير دراكولا بطلاً قوميّاً يحارب جحافل المسلمين، الذين يجعلك الفيلم تكرههم وتفرح لموتهم. جحافل الجيوش المسلمة التي تتساقط على أبواب ترانسلفانيا.
هكذا جعلنا الفيلم نحبّ دراكولا، مصّاص الدماء الجديد، الطيب القلب الذي يحبّ شعبه، ونتقرّب منه على اعتباره "مقاوِماً" ضدّ الاحتلال والغزو المسلم لأوروبا. رغم أنّه تحالف مع "الشيطان" ليمصّ دماء البشر. لكن ربّما لا بأس إذا كانوا مسلمين.
هكذا يصير التحالف مع الشيطان مقبولاً، في وجه المسلمين، بعدما كانت أفلام "دراكولا" كلّها تنتهي بقتله بـ"الصليب" و"الإيمان". وكان دائماً "البطل" الهوليوودي عدوّ دراكولا، الكافر الذي يزعجه الصليب ويؤذيه.
دائماً كانت هوليوود تركب موجات عالمية. فحيناً يكون الإرهابي هو العربي، وأحياناً الروسي، أو الشيوعي، أو الكوري، أو الصيني... اليوم هو "المسلم" و"التركي". ولا بأس من قتله، ولو استدعى الأمر التحالف مع الشيطان، ولو استدعى الأمر أن نحبّ مصّاصي الدماء، إذا كانت دماءً مسلِمة تلك التي سيمصّها بطلنا الجديد: دراكولا.