وكأن البعض لا يقرأ التاريخ، ولا يطَّلع على تجارب الشعوب والأمم، حتى يعلم أن سياسات الحصار لم تكن لتجبر شعباً أو دولة على الركوع، مهما كانت هذه الدولة صغيرة جغرافياً وسكانياً. ولعل من المفيد استحضار بعض التجارب التي انتصر فيها المُحاصَر على المٌحاصِر، ولو بعد حين.
هذا قطاع غزة الفلسطيني، الصغير بمساحته، والأكثر اكتظاظاً بسكانه من أي بقعة جغرافية في العالم، يتعرض إلى حصار مزدوج من الأعداء و"الأصدقاء" لأكثر من عقد. مرة تُقطع عنه الكهرباء، ومرة يُحرم من المحروقات والغاز، ومرة تُغلق عليه المعابر والأنفاق، ومرة يُخنق بالجوع إلى حافة الموت، ويُقصف مرات، وتعتدي عليه إسرائيل يومياً، ناهيك عن ثلاث حروب بشعة شنتها إسرائيل ضد القطاع. ومع ذلك ظل القطاع صامداً ثابتاً مقاوماً، رافضاً المساومة أو التسليم للاحتلال، منتصراً بمقاومته على الحصار بإبداع مُبهر للعدو قبل الصديق، ما دفع مبعوث اللجنة الرباعية الدولية للسلام في الشرق الأوسط، رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير، للاعتراف بأن سياسة الحصار على غزة "فشلت"، ودعا إلى "استراتيجية مختلفة".
وبعيداً عن قطاع غزة، هناك على تخوم الولايات المتحدة الأميركية، لا تزال كوبا عالية شامخة، رغم تعرضها لحصار أميركي ظالم، بدأ في 19 أكتوبر/تشرين الأول 1960، أي بعد سنتين من قيام الثورة الكوبية. ويعتبر هذا الحصار هو الأطول في التاريخ الحديث. ورغم كل ما لحق بالدولة اللاتينية من أضرار اقتصادية وتأخر تنموي إلا أنها استطاعت الانتصار على الحصار الأميركي، بل وسجلت من صور الإبداع الإنساني، ما جعل قطاعها الصحي أكثر تطوراً من نظيره الأميركي. وبعد أكثر من 50 سنة اعترف الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، بفشل سياسة العزل التي ينتهجها البيت الأبيض ضد الجزيرة الكاريبية. وشدد في خطابه الأخير أمام الكونغرس على أهمية استعادة العلاقات الدبلوماسية مع كوبا. وما بين غزة وكوبا، كان هناك حصار عالمي طويل ضد إيران، انتهى أخيراً على طاولة المفاوضات، وقبله كان هناك حصار عالمي على العراق، انتهى بحروب حرقت الأخضر واليابس، لم ينتصر فيها إلا الموت والإرهاب. لعل في هذه التجارب الكثير من الدروس لمن شاء أن يقرأ ويتعلم.