07 اغسطس 2024
دروس من كورونا
يخوض العالم أجمع تحدّيا من نوع جديد ضد فيروس قاتل ينتشر في العالم بسرعة فائقة، فيصيب الآلاف ويقتل المئات كل يوم، غير مفرّق بين دول غنية وفقيرة، أو بين عالم أول وثالث. خلال فترة قصيرة، أجبر فيروس كورونا عشرات الدول على غلق حدودها، وحظر تجول مواطنيها، وإعادة تقييم أولوياتها الداخلية والخارجية. وهو ما يطرح أسئلة كثيرة بشأن تبعات ما يحدث على البلدان المختلفة والعالم؟ هل نحن أمام لحظة تاريخية فارقة، أم أمام فيروس سرعان ما ينحسر انتشاره وتبعاته؟ وما الذي يمكن أن نتعلمه من التجربة الراهنة؟ ولعل الإجابة عن السؤال الأخير تكمن في ثلاث ملاحظات أساسية.
أولا: نحن أمام أزمة صحية بامتياز. الأزمة الراهنة ناجمة عن انتشار فيروس جديد بدأ في الصين في أواخر العام الماضي، لينتشر حول العالم خلال حوالي أربعة شهور تاركا آلاف القتلى ومئات آلاف من المصابين. سرعة انتشار الفيروس وشراسته في مهاجمة ضحاياه، خصوصا بين كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، وضعا ضغطا هائلا على الأنظمة الصحية في مختلف الدول، نظرا إلى ما يتطلبه من أدوات تعقيم وأجهزة تنفس وغرف عناية مركزة، وأطقم طبية ضخمة ومجهزة. كشف الفيروس ضعف استعداد أكبر الدول، بما في ذلك أميركا نفسها، في ما يتعلق بتجهيزات الطوارئ والاستعداد لجائحة كبرى ككورونا.
هذا لا يعني أن الفيروس صحي محض، بلا روابط بيئية أو اقتصادية، فالواضح أنه يرتبط
بالعلاقة بين الإنسان وبيئته ونمط استهلاكه ومدى استنزافه موارده الطبيعية، ولكنه يختلف عن الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تشغل العالم باستمرار، فعلى الرغم من الاهتمام الذي أولته الدول الكبرى خلال السنوات الأخيرة بقضايا المناخ تحت ضغط المنظمات البيئة، إلا أن قضايا البيئة لم تتحول بعد إلى أزمة دولية كأزمة فيروس كورونا. فلأول مرة تتوقف الحياة في العالم كله تقريبا لأسباب صحية بالأساس. وهذا يعني أن الأزمة الراهنة غير مسبوقة، ومن شأنها أن تفرض وعيا دوليا جديدا بقضية الصحة، وكيف أنها أولوية لاستمرار الاقتصاد (الشاغل الأكبر للنخب الدولية). الأزمة درس يقول إن الانشغال بزيادة الإنتاج وفتح أسواق جديدة لزيادة الاستهلاك لا يعد ضمانة كافية لاستمرار النمو الاقتصادي والتقدّم، فقد يتعطل كل شيء، ويتعرّض الاقتصاد الدولي لخسائر فادحة، إن لم نهتم بشكل كاف بقضايا الصحة والبيئة وتبادل المعلومات عن الأوبئة وانتشارها وتوفير حد أدنى من أنظمة الإنذار المبكر الصحية، والموارد اللازمة لمواجهة الأزمات الصحة الطارئة.
درس كورونا الأول يقول إن على دول العالم المختلفة زيادة ميزانياتها واستعداداتها الصحية والعلمية كضمانة أساسية للحفاظ على اقتصادها وأمنها واستقرارها.
ثانيا: أثبتت الأزمة الحاجة لمؤسسات دولة قوية تتمتع بالكفاءة والشفافية. ظهر الفيروس في الصين في أواخر العام الماضي، ولكن حكومتها تعاملت معه بعدم شفافية خلال الأسابيع الأولى لانتشاره، وقمعت الأصوات القليلة الداخلية التي حاولت التحذير من خطورته، وربما أضاعت على نفسها والعالم فرصة القضاء على الفيروس في مدينة ووهان، مكان ظهوره، والحيلولة دون انتشاره خارج المدينة والصين.
وللأسف، وقعت دول مختلفة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، في أخطاء سياسية واضحة في التعامل مع الأزمة، حيث حاولت حكومات مختلفة التقليل من خطر الفيروس، حتى لا تتوقف عجلة الاقتصاد، وظهر ضعف التنسيق بين الحكومة المركزية والولايات في بلد كأميركا، وغياب استراتيجيات التعامل مع الطوارئ الصحية في مختلف الدول الغربية، وضعف الاستجابة العلمية للأزمة، كما هو الحال في بلد كبريطانيا التي تبنت استراتيجية أولية في مواجهة الفيروس، سمتها "مناعة القطيع"، وتراجعت عنها سريعا بعد أن حذرت دراسة لجامعة بريطانية من خطورة الاستراتيجية، وأنها قد تؤدي لوفاة قرابة نصف مليون بريطاني.
على صعيد آخر، أعادت الأزمة المؤسسات الحكومية المركزية (الدولة) إلى الواجهة وبؤرة الاهتمام السياسية، فقد تخطى حجم الكارثة الصحية، وكذا سرعة انتشار الفيروس، قدرة أي مؤسسات أهلية أو دولية، ودفعا الشعوب إلى النظر نحو حكوماتها المركزية لقيادتها من الخروج من الأزمة. بحث الناس عمن يغلق الحدود ويوقف الطيران ويفرض حظر التجوال يوفر الرعاية الصحية لآلاف المرضى والعقاقير القادرة على علاجه، وكلها مهام أعادت الدولة أو الحكومات المركزية إلى الواجهة، وجعلت الشعوب تنصت باهتمام للمؤتمرات الإعلامية التي يعقدها مسؤولوها، وخفضت أيضا من حدّة الخلافات السياسية، وأجلت كثير منها.
ولعل الأزمة تذكّر الجميع بدرس ثان مهم، وهو أهمية الحياة في دولةٍ تتمتع حكومتها بقدر كبير
من الكفاءة والشفافية، فدور الحكومة المركزية على قدر كبير من الأهمية، ويصعب الاستغناء عنه أو تخطيه في الشدة أو الرخاء. ولكن الحكومات ليست سواء، منها التي لا تتمتع بالشفافية ولا بالكفاءة، وبالتالي تعرّض حياة شعوبها للخطر، ولو ادّعت غير ذلك، واحتفلت فترة بعقد المؤتمرات الإعلامية والتفاف الناس حولها. بعد الأزمة، سوف تقيم الشعوب المختلفة طبيعة استجابة حكوماتها لها ولن تنسى المقصّرين.
ثالثا: أزمة فيروس كورونا دولية بامتياز، بدأت في دولة واحدة، وانتشرت في بقية دول العالم في أقل من أربعة أشهر، كاشفة حجم التواصل والاعتماد المتبادل بين الدول، خصوصا على الصعيد الاقتصادي، فعلى مدى العقود الثلاثة الأخيرة، أدت العولمة الاقتصادية إلى نقل مصانع كثيرة خارج الدول الغربية، نحو دول جنوب شرق آسيا، حيث العمالة الرخيصة، حتى باتت مصنع العالم. وأظهرت الأزمة مدى تأثر الشركات الغربية بتوقف خطوط إنتاجها الموجودة في الصين ودول جنوب شرق آسيا، ومدى انكشاف المجتمعات الغربية نفسها للأزمات الكبرى، وكيف أنها سوف تعجز عن إنتاج كثير من احتياجاتها الأساسية في حالة الأزمات الكبرى والطارئة. وهنا تجب الإشارة إلى أن الدول الأوروبية الأكثر معاناة من الفيروس لم تتوجه إلى أميركا لطلب المساعدة في توفير أجهزة التنفس الصناعية والملابس الوقائية، بل توجهت إلى الصين، لأن أميركا نفسها تعاني من نقص تلك المواد وغيرها من العقاقير الطبية الضرورية وتبحث عمن يزودها بها. ولذا تعالت أصوات غربية مطالبة بتقليل الاعتماد على الدول الأجنبية في توفير السلع الأساسية، وبإعادة افتتاح مصانع داخلية توفر تلك السلع. وتبقى معضلة أساسية، أنه لا توجد دولة قادرة على الاعتماد الكلي على نفسها والاستغناء عن الآخرين، كما أن تركيز المصانع داخليا قد يجعلها أكثر عرضةً للأزمات بدلا من نشرها في العالم، فإذا تعرّضت دولة لأزمة ما استطاعت دول أخرى مساعدتها. وهذا يعني أن تركيز الموارد والإمكانات في دول قليلة يعرضها أكثر للخطر. ويقول درس كورونا الثالث إن توزيع الموارد والإمكانات الاقتصادية على أكبر عدد من الدول يحمي العالم أكثر.
الواضح أن الظروف الدولية الراهنة لا تقود في اتجاه التعلم من الدروس الثلاثة السابقة، لأن العالم يسير بوضوح أخيرا نحو الانشغال بالاقتصاد عن الصحة، وبالاستبداد عن الديمقراطية وما تفترضه من كفاءة وشفافية، وبمراكمة الثروة داخليا والحروب الاقتصادية عن بناء التحالفات وتوزيع الموارد والثروة وبناء عالم أكثر تعاضدا. وهذا يعني أن نخبا كثيرة لن تتعلم دروس كورونا، وستصر على تجاهلها، فالصين تحاول حاليا التغطية على أخطائها الأولية من خلال حملات دعائية تركز على تقديم المساعدات للدول المتضررة. وأميركا تعاني بشكل غير مسبوق من تردّي قيادتها السياسية والانكفاء على نفسها، والحكومات اليمينية والاستبدادية في صعود. ويبقى الأمل في أن تبث الأزمة وما نجم عنها من معاناة وعيا جديدا وسط الشعوب بمدى تضحياتها وبحاجتها للعلم والأطباء، والإنفاق على الصحة والبحث العلمي، ولحكومات تتمتع بالكفاءة والشفافية ونظام دولي أكثر تعاونا وأقل تركيزا لمصادر الثروة والقوة، وليس العكس.
هذا لا يعني أن الفيروس صحي محض، بلا روابط بيئية أو اقتصادية، فالواضح أنه يرتبط
درس كورونا الأول يقول إن على دول العالم المختلفة زيادة ميزانياتها واستعداداتها الصحية والعلمية كضمانة أساسية للحفاظ على اقتصادها وأمنها واستقرارها.
ثانيا: أثبتت الأزمة الحاجة لمؤسسات دولة قوية تتمتع بالكفاءة والشفافية. ظهر الفيروس في الصين في أواخر العام الماضي، ولكن حكومتها تعاملت معه بعدم شفافية خلال الأسابيع الأولى لانتشاره، وقمعت الأصوات القليلة الداخلية التي حاولت التحذير من خطورته، وربما أضاعت على نفسها والعالم فرصة القضاء على الفيروس في مدينة ووهان، مكان ظهوره، والحيلولة دون انتشاره خارج المدينة والصين.
وللأسف، وقعت دول مختلفة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، في أخطاء سياسية واضحة في التعامل مع الأزمة، حيث حاولت حكومات مختلفة التقليل من خطر الفيروس، حتى لا تتوقف عجلة الاقتصاد، وظهر ضعف التنسيق بين الحكومة المركزية والولايات في بلد كأميركا، وغياب استراتيجيات التعامل مع الطوارئ الصحية في مختلف الدول الغربية، وضعف الاستجابة العلمية للأزمة، كما هو الحال في بلد كبريطانيا التي تبنت استراتيجية أولية في مواجهة الفيروس، سمتها "مناعة القطيع"، وتراجعت عنها سريعا بعد أن حذرت دراسة لجامعة بريطانية من خطورة الاستراتيجية، وأنها قد تؤدي لوفاة قرابة نصف مليون بريطاني.
على صعيد آخر، أعادت الأزمة المؤسسات الحكومية المركزية (الدولة) إلى الواجهة وبؤرة الاهتمام السياسية، فقد تخطى حجم الكارثة الصحية، وكذا سرعة انتشار الفيروس، قدرة أي مؤسسات أهلية أو دولية، ودفعا الشعوب إلى النظر نحو حكوماتها المركزية لقيادتها من الخروج من الأزمة. بحث الناس عمن يغلق الحدود ويوقف الطيران ويفرض حظر التجوال يوفر الرعاية الصحية لآلاف المرضى والعقاقير القادرة على علاجه، وكلها مهام أعادت الدولة أو الحكومات المركزية إلى الواجهة، وجعلت الشعوب تنصت باهتمام للمؤتمرات الإعلامية التي يعقدها مسؤولوها، وخفضت أيضا من حدّة الخلافات السياسية، وأجلت كثير منها.
ولعل الأزمة تذكّر الجميع بدرس ثان مهم، وهو أهمية الحياة في دولةٍ تتمتع حكومتها بقدر كبير
ثالثا: أزمة فيروس كورونا دولية بامتياز، بدأت في دولة واحدة، وانتشرت في بقية دول العالم في أقل من أربعة أشهر، كاشفة حجم التواصل والاعتماد المتبادل بين الدول، خصوصا على الصعيد الاقتصادي، فعلى مدى العقود الثلاثة الأخيرة، أدت العولمة الاقتصادية إلى نقل مصانع كثيرة خارج الدول الغربية، نحو دول جنوب شرق آسيا، حيث العمالة الرخيصة، حتى باتت مصنع العالم. وأظهرت الأزمة مدى تأثر الشركات الغربية بتوقف خطوط إنتاجها الموجودة في الصين ودول جنوب شرق آسيا، ومدى انكشاف المجتمعات الغربية نفسها للأزمات الكبرى، وكيف أنها سوف تعجز عن إنتاج كثير من احتياجاتها الأساسية في حالة الأزمات الكبرى والطارئة. وهنا تجب الإشارة إلى أن الدول الأوروبية الأكثر معاناة من الفيروس لم تتوجه إلى أميركا لطلب المساعدة في توفير أجهزة التنفس الصناعية والملابس الوقائية، بل توجهت إلى الصين، لأن أميركا نفسها تعاني من نقص تلك المواد وغيرها من العقاقير الطبية الضرورية وتبحث عمن يزودها بها. ولذا تعالت أصوات غربية مطالبة بتقليل الاعتماد على الدول الأجنبية في توفير السلع الأساسية، وبإعادة افتتاح مصانع داخلية توفر تلك السلع. وتبقى معضلة أساسية، أنه لا توجد دولة قادرة على الاعتماد الكلي على نفسها والاستغناء عن الآخرين، كما أن تركيز المصانع داخليا قد يجعلها أكثر عرضةً للأزمات بدلا من نشرها في العالم، فإذا تعرّضت دولة لأزمة ما استطاعت دول أخرى مساعدتها. وهذا يعني أن تركيز الموارد والإمكانات في دول قليلة يعرضها أكثر للخطر. ويقول درس كورونا الثالث إن توزيع الموارد والإمكانات الاقتصادية على أكبر عدد من الدول يحمي العالم أكثر.
الواضح أن الظروف الدولية الراهنة لا تقود في اتجاه التعلم من الدروس الثلاثة السابقة، لأن العالم يسير بوضوح أخيرا نحو الانشغال بالاقتصاد عن الصحة، وبالاستبداد عن الديمقراطية وما تفترضه من كفاءة وشفافية، وبمراكمة الثروة داخليا والحروب الاقتصادية عن بناء التحالفات وتوزيع الموارد والثروة وبناء عالم أكثر تعاضدا. وهذا يعني أن نخبا كثيرة لن تتعلم دروس كورونا، وستصر على تجاهلها، فالصين تحاول حاليا التغطية على أخطائها الأولية من خلال حملات دعائية تركز على تقديم المساعدات للدول المتضررة. وأميركا تعاني بشكل غير مسبوق من تردّي قيادتها السياسية والانكفاء على نفسها، والحكومات اليمينية والاستبدادية في صعود. ويبقى الأمل في أن تبث الأزمة وما نجم عنها من معاناة وعيا جديدا وسط الشعوب بمدى تضحياتها وبحاجتها للعلم والأطباء، والإنفاق على الصحة والبحث العلمي، ولحكومات تتمتع بالكفاءة والشفافية ونظام دولي أكثر تعاونا وأقل تركيزا لمصادر الثروة والقوة، وليس العكس.