أفتّش عن حفلة جاز
أفتّش عن حفلة جاز
في دغلٍ من الأقراص
كمن يبحث عن سَكّاتةِ طفل
بين أنقاض زلزال
بقوة عشر درجات.
أفتّش عن سطل ثلج
أُفرغه على رأسي،
المبنّج تماماً منذ ليلة أمس،
ليبعثني من قبري الزجاجي
ويقذف بي عارياً
نحو الطفولة
في ما يُشبه القيامة بعد الصّلب.
أفتّش عن قُفل في الجيب ومفتاحه في يدي
وأعرف ذلك،
عن قنديل منسيّ وضوئِه المتردّد
على منحدر مكبّ للنفايات،
أفتّش عن قواقع خاوية
تضجّ بصمتي
تحت مياه النهر العكرة،
عن امرأة خلاسية في جزيرة
تسترق نظرة واحدة
إلى شعرة بيضاء نافرة
خلف الأُذن،
أفتّش عن موسيقى هجينة
تُزوّج الأحلام للمخاوف
والأفراح للمآتم في نفس الوقت،
أفتّش عن تفسير واضح للقنط
بلا استعارات أو رموز،
عن حبٍّ مرقّط بخواتم سوداء
مثل سمكة بيرانا عملاقة
تسبح بيننا بلا خوف،
عن مياه بحيرة آسنة في لوحة زيتية
على جدار هيكل مقدس،
عن رائحة عطر
مرشُوش على نصف تمثالِ
ينتصب في مقبرة،
أفتّش عن حياد نظرةِ إزميل
في يد النحّات
أمام صخرة في واد
تُخفي أناي المُضمرة بإتقان
وراءَ الشفق،
هناك، بعيداً بعيداً
عن عيون صرّاري اللّيل
السّائرين نياماً
فوق جسر
دعائمُه الناس والحضارة.
شجرةٌ تُبدّد المخاوف
شجرةٌ في حديقة عامة
تُبدّد مخاوفي
أفضل ممّا تفعل، عادةً،
قيثارةٌ أندلسية.
لكن فكرتي مع ذلك
تظلّ سطحيةً
مثل علكة قذِرة ويابسة
على جانبِ الرصيف.
أحتاج إلى حروف الصّمغ
الّذي نسيه جدّي
في دَواة مكسورة
بين أطلال التلّة البعيدة،
إلى ذلك القطّ الأسود
الّذي أطلّ عليه من نافذة الفجر
ورتَّل معه سُوَراً مطوّلة من القرآن
وها هو الآن يحوّم ويموءُ
حول قدمي اليسرى
ويتمسّح بشبشبي الأزرق.
لقد أطعمتُه ليتراً من الحليب
وأضأتُ شمعةً
في كلّ نافذة
لكنّ الثّور الأبيض
لم يظهر له أثرٌ
حتّى الآن.
خُفّاش يائس
خُفّاش يائس
يسكن معي
في هذه الغرفة الباردة.
أقول له:
لا تهلك أسىً من الظلام
لا تَشُكّ في ما تراه
عيونُ قلبكَ
من ثقوبٍ سوداء هائلة
اتّسع لها صدري حتّى الآن
كاللّطخات،
اُشكُر اللّيل فقط
من أجلِ لا أحد
من أجلِ لا شيء
أَصغ بمِلء جوفك
إلى صوتِ الينبوع الأليف
النّائم تحت الأرض.
دعوةٌ إلى عشاء صيفي
سأعودُ ذات صيفٍ
بعد عام
بعد ألف عام
وأجلس في غرفة صغيرة
تُطلّ على مراكب صيد قديمة
وهي عائدة في الغروب
من مضيقٍ هائج.
وحيداً، سأنتظرُ هناك
حتّى ينتصف اللّيل
لأفتحَ آخر علبة سردين
وأخلطها مع بَقولة مجمّدة
منذ قرون
مُتعمّداً
دعوة نفسي إلى العشاء
بصوتٍ عال
قبل أن أزدرد بنَهم
وأغرق من جديد
في السّرير
لأحلم
ببلاد خضراء.
غرفةٌ بسرير واحد
أنت غريبٌ وطارئ
في هذه الليلة المُمطرة
على مدينة بعيدة
لا تعرف حتّى أين يوجد
موقعها في "غوغل إيرث"
ولم يسبق لك قطُّ
أن حلِمتَ بزيارتها.
وحيداً
تُساوم صاحبَ الفندق
ذا اللّحية البيضاء
ومعطفِ الصّوف الأسود
على ثمنِ غرفة
بسريرٍ واحد
دخلَتها شعوبٌ وقبائل
ولم يُغادرها أحد.
ذُبابة شِبه نائمة
ذبابةٌ شبه نائمة
فوق هذه الشّاشة
هي الوحيدة الّتي بإمكانها
أن تتعرّف عليّ بصِدق.
سوف لن أفزع
حين تلقي نظرة خاطفة
على العالم الصغير
من حولنا
أو حين تُحملق طويلاً
في وجهي الشّاحب،
بنظراتها الكاسحة للضّوء،
فتنكشف لها
أسرارُ كلِّ شيء:
كيف كُنتُ
وكيف أنا الآن
وكيف سأصير
بعد أن تطرُدني الرّوح
من النافذة.
الغوّاصة
قبل بضع سنواتٍ، كنت أسكُن غوّاصة. لم يكن بيتاً صغيراً عائماً في نهر، وإنّما غوّاصة بحرية بكلّ تجهيزاتها المعقّدة. كانت المياه الدّاكنة تبتلعُ الجسد الكبير الذي يحمل بداخله جسدي الصغير، مثل لُعبة دُميةٍ روسية، فيما يشبه اختصاراً إلى العدم، مخاضَ ولادة ثانية، أو مجرّد نزوة خاطفة للعودة إلى رحم الأمّ. كنتُ كلَّ ليلة، ونحن ننزلق عميقاً في الأغوار السحيقة، أعيدُ على مسامع الجدران نفس السؤال: إلى أين نحن ذاهبون؟ فيأتيني الجواب آلياً من الغُرف السفلى: نحو الماضي العميق، إلى نَواة الأرض اللّزجة، إلى حيث سنظلّ سعداء في الظّلام.
الرحّالة
الرّحالة لا يمرّون مرور الكرام، ولا يُكذّبون ما في الصور من مشاهد وآثار. حين يتعبون من السّير، يتحلّقون حول نار ضئيلة ويتسامرون بفيديوهات اليوتيوب. لكنهم في النهار، رغم وضوح الرؤية، لا يصلون في السراب إلى نهايته ولا يقفزون إلى الظّلال. هم عقلانيون، هادئون ومتفائلون جدّاً. عند كل استراحة، يغسلون جواربهم في الغدير بلا خوف. يهرقون مياهاً عَذبة فوق ظُهور الجياد. ومن شدّةِ الحرّ يحطُّ غرابٌ أسود فوق رأس نخلة ويردّد حكمة اليوم: لا تغادروا أحذيتكم مهما كلّف الأمر. الأعداء متربّصون خلف التّلال، ولن يُخطئ الرّمحُ العينَ التي انسحرت أوّلاً بجمال الواحة.
* شاعر مغربي
أفتّش عن حفلة جاز
في دغلٍ من الأقراص
كمن يبحث عن سَكّاتةِ طفل
بين أنقاض زلزال
بقوة عشر درجات.
أفتّش عن سطل ثلج
أُفرغه على رأسي،
المبنّج تماماً منذ ليلة أمس،
ليبعثني من قبري الزجاجي
ويقذف بي عارياً
نحو الطفولة
في ما يُشبه القيامة بعد الصّلب.
أفتّش عن قُفل في الجيب ومفتاحه في يدي
وأعرف ذلك،
عن قنديل منسيّ وضوئِه المتردّد
على منحدر مكبّ للنفايات،
أفتّش عن قواقع خاوية
تضجّ بصمتي
تحت مياه النهر العكرة،
عن امرأة خلاسية في جزيرة
تسترق نظرة واحدة
إلى شعرة بيضاء نافرة
خلف الأُذن،
أفتّش عن موسيقى هجينة
تُزوّج الأحلام للمخاوف
والأفراح للمآتم في نفس الوقت،
أفتّش عن تفسير واضح للقنط
بلا استعارات أو رموز،
عن حبٍّ مرقّط بخواتم سوداء
مثل سمكة بيرانا عملاقة
تسبح بيننا بلا خوف،
عن مياه بحيرة آسنة في لوحة زيتية
على جدار هيكل مقدس،
عن رائحة عطر
مرشُوش على نصف تمثالِ
ينتصب في مقبرة،
أفتّش عن حياد نظرةِ إزميل
في يد النحّات
أمام صخرة في واد
تُخفي أناي المُضمرة بإتقان
وراءَ الشفق،
هناك، بعيداً بعيداً
عن عيون صرّاري اللّيل
السّائرين نياماً
فوق جسر
دعائمُه الناس والحضارة.
شجرةٌ تُبدّد المخاوف
شجرةٌ في حديقة عامة
تُبدّد مخاوفي
أفضل ممّا تفعل، عادةً،
قيثارةٌ أندلسية.
لكن فكرتي مع ذلك
تظلّ سطحيةً
مثل علكة قذِرة ويابسة
على جانبِ الرصيف.
أحتاج إلى حروف الصّمغ
الّذي نسيه جدّي
في دَواة مكسورة
بين أطلال التلّة البعيدة،
إلى ذلك القطّ الأسود
الّذي أطلّ عليه من نافذة الفجر
ورتَّل معه سُوَراً مطوّلة من القرآن
وها هو الآن يحوّم ويموءُ
حول قدمي اليسرى
ويتمسّح بشبشبي الأزرق.
لقد أطعمتُه ليتراً من الحليب
وأضأتُ شمعةً
في كلّ نافذة
لكنّ الثّور الأبيض
لم يظهر له أثرٌ
حتّى الآن.
خُفّاش يائس
خُفّاش يائس
يسكن معي
في هذه الغرفة الباردة.
أقول له:
لا تهلك أسىً من الظلام
لا تَشُكّ في ما تراه
عيونُ قلبكَ
من ثقوبٍ سوداء هائلة
اتّسع لها صدري حتّى الآن
كاللّطخات،
اُشكُر اللّيل فقط
من أجلِ لا أحد
من أجلِ لا شيء
أَصغ بمِلء جوفك
إلى صوتِ الينبوع الأليف
النّائم تحت الأرض.
دعوةٌ إلى عشاء صيفي
سأعودُ ذات صيفٍ
بعد عام
بعد ألف عام
وأجلس في غرفة صغيرة
تُطلّ على مراكب صيد قديمة
وهي عائدة في الغروب
من مضيقٍ هائج.
وحيداً، سأنتظرُ هناك
حتّى ينتصف اللّيل
لأفتحَ آخر علبة سردين
وأخلطها مع بَقولة مجمّدة
منذ قرون
مُتعمّداً
دعوة نفسي إلى العشاء
بصوتٍ عال
قبل أن أزدرد بنَهم
وأغرق من جديد
في السّرير
لأحلم
ببلاد خضراء.
غرفةٌ بسرير واحد
أنت غريبٌ وطارئ
في هذه الليلة المُمطرة
على مدينة بعيدة
لا تعرف حتّى أين يوجد
موقعها في "غوغل إيرث"
ولم يسبق لك قطُّ
أن حلِمتَ بزيارتها.
وحيداً
تُساوم صاحبَ الفندق
ذا اللّحية البيضاء
ومعطفِ الصّوف الأسود
على ثمنِ غرفة
بسريرٍ واحد
دخلَتها شعوبٌ وقبائل
ولم يُغادرها أحد.
ذُبابة شِبه نائمة
ذبابةٌ شبه نائمة
فوق هذه الشّاشة
هي الوحيدة الّتي بإمكانها
أن تتعرّف عليّ بصِدق.
سوف لن أفزع
حين تلقي نظرة خاطفة
على العالم الصغير
من حولنا
أو حين تُحملق طويلاً
في وجهي الشّاحب،
بنظراتها الكاسحة للضّوء،
فتنكشف لها
أسرارُ كلِّ شيء:
كيف كُنتُ
وكيف أنا الآن
وكيف سأصير
بعد أن تطرُدني الرّوح
من النافذة.
الغوّاصة
قبل بضع سنواتٍ، كنت أسكُن غوّاصة. لم يكن بيتاً صغيراً عائماً في نهر، وإنّما غوّاصة بحرية بكلّ تجهيزاتها المعقّدة. كانت المياه الدّاكنة تبتلعُ الجسد الكبير الذي يحمل بداخله جسدي الصغير، مثل لُعبة دُميةٍ روسية، فيما يشبه اختصاراً إلى العدم، مخاضَ ولادة ثانية، أو مجرّد نزوة خاطفة للعودة إلى رحم الأمّ. كنتُ كلَّ ليلة، ونحن ننزلق عميقاً في الأغوار السحيقة، أعيدُ على مسامع الجدران نفس السؤال: إلى أين نحن ذاهبون؟ فيأتيني الجواب آلياً من الغُرف السفلى: نحو الماضي العميق، إلى نَواة الأرض اللّزجة، إلى حيث سنظلّ سعداء في الظّلام.
الرحّالة
الرّحالة لا يمرّون مرور الكرام، ولا يُكذّبون ما في الصور من مشاهد وآثار. حين يتعبون من السّير، يتحلّقون حول نار ضئيلة ويتسامرون بفيديوهات اليوتيوب. لكنهم في النهار، رغم وضوح الرؤية، لا يصلون في السراب إلى نهايته ولا يقفزون إلى الظّلال. هم عقلانيون، هادئون ومتفائلون جدّاً. عند كل استراحة، يغسلون جواربهم في الغدير بلا خوف. يهرقون مياهاً عَذبة فوق ظُهور الجياد. ومن شدّةِ الحرّ يحطُّ غرابٌ أسود فوق رأس نخلة ويردّد حكمة اليوم: لا تغادروا أحذيتكم مهما كلّف الأمر. الأعداء متربّصون خلف التّلال، ولن يُخطئ الرّمحُ العينَ التي انسحرت أوّلاً بجمال الواحة.
* شاعر مغربي