30 ديسمبر 2021
دليلك إلى محو مذبحة من الذاكرة
هل يمكن أن تمحو مذبحة من ذاكرة شعب بأكمله؟ يمكن للكثير أن يجادلوا باستحالة حدوث ذلك في عصر الإنترنت، لكن إيان بريمر الأستاذ بجامعة نيويورك والمتخصص في الشأن الصيني، يرى أن قادة الصين أصبحوا أقرب ما يمكن تقنياً، إلى محو كل تسجيل لما حدث في مذبحة ميدان (تيان آنمين) في وسط بكين عام 1989، وإذا كنت ستعترض على رأيه بالإشارة إلى مئات المواقع التي يمكن أن تجد فيها على شبكة الإنترنت توثيقاً للمذبحة وضحاياها، فقد غابت عنك النقطة التي يشير إليها الكاتب في مقاله، وهي أن قادة الصين ليسوا أصلاً معنيين بما لا يمكن أن يصل إليه ملايين الصينيين الذين يعيشون خلف الستار المعلوماتي الحديدي الذي فرضه النظام الصيني على مواقع الإنترنت بصرامة مذهلة، صارت نموذجاً يحتذى به لجميع الأنظمة البوليسية عبر العالم وعلى رأسها أنظمة عالمنا العربي التعيس.
في عالم أصبحت فيه المذابح تُنسي بعضها بعضاً، يتوقع إيان بريمر أن قراءه ـ خصوصاً من جيل الشباب ـ ربما لن يكونوا على علم بما حدث في ميدان تيان آنمين في 4 يونيو 1989، ولذلك يبدأ مقاله في مجلة (تايم) الأمريكية بالإشارة إلى مظاهرات الطلبة الصينيين التي بدأت بشكل عفوي عقب وفاة الزعيم الإصلاحي هو ياوبانج، لتتحول من تجمع حزين على رحيل الرجل، إلى تجمع احتجاجي على الفساد والقمع ومطالب بالمزيد من الحريات السياسية، لتحدث زخماً في المجتمع الصيني جعلها تستمر على مدار ستة أسابيع في وسط بكين، وتمتد إلى مدن صينية أخرى، بشكل أثار قلق قادة الحزب الشيوعي الحاكم من استفحال الاحتجاجات بشكل يهدد هيمنتهم السياسية على البلاد، ليبدأوا ما وصفه بلعبة القط والفأر مع المتظاهرين، حيث حاولت قوات الأمن زيادة عدد ضباطها وجنودها المتواجدين في الميدان بطرق مختلفة، لكن ذلك لم يضعف من عزيمة المتظاهرين الذين اعتمدوا على وجود تغطيات صحفية وإعلامية للمظاهرات جعلتها محط أنظار العالم بأسره.
أدركت قيادة الحزب الشيوعي الصيني أن المزيد من الصبر على المتظاهرين سيكون له تداعيات خطيرة، لذلك قررت إنهاء المظاهرات بالقوة، وفي 4 يونيو 1989 دخلت الدبابات تحت جنح الظلام إلى ساحة الميدان، وبدأت وقائع قتل المئات على الأقل من المعتصمين، معظمهم من الطلاب، دون أن يكون هناك حتى الآن أرقام قاطعة لعدد الضحايا الذين سقطوا في ذلك اليوم الدامي، الذي لم تبق منه في ذاكرة العالم سوى صورة ذلك الطالب الأعزل الذي يقف أمام دبابة لم تتردد في سحقه، وإن كانت وثيقة بريطانية سرية نشرت قبل سنتين قد قدرت عدد القتلى في ذلك اليوم بما يقرب من عشرة آلاف قتيل.
على مدار السنين التي أعقبت المذبحة، التي أصبح البعض يطلق عليها اسم (مذبحة ميدان السلام السماوي) نسبة إلى ذلك الميدان اللعين، امتنع كبار المسئولين الصينيين عن إبداء أي تعليقات على المذبحة وما يثار حولها في وسائل الإعلام الغربية، مع أن كل ما نشر عن المذبحة لم يؤد إلى حصار الصين دولياً، ولم يدفع دول العالم "الحر والمتقدم" إلى اتخاذ مواقف أبعد من التنديد والشجب، لذلك توقف الكاتب طويلاً عند التصريحات التي أدلى بها وزير الدفاع الصيني في ذكرى مرور ثلاثة عقود على المذبحة، والتي وصف فيها ما جرى في ميدان تيان آنمين بأنها كانت مجرد "اضطرابات سياسية كانت الحكومة محتاجة إلى تهدئتها"، واصفة ما فعلته الحكومة بأنه "ثبت كونه صحيحاً وبسببه تتمتع الصين بالاستقرار، وإذا قمت بزيارة الصين يمكن لك أن تفهم هذا الجزء من التاريخ".
لم يكن المسئول الصيني يحدث شعبه بالطبع، بل كان يتحدث إلى وسائل الإعلام الغربية التي لا زالت تثير ذكرى المذبحة من حين إلى آخر، أما داخل الصين فلن يكون حديث المذبحة أمراً يشغله هو وغيره من المسئولين، فمع أن الشعب الصيني يتمتع اليوم بقدرة أكبر على الوصول إلى المعلومات عما كان عليه الحال في عام 1989، بسبب وجود شبكة الإنترنت، لكن ذلك لا ينطبق على موضوع مثل مذبحة الميدان السماوي، وغيرها من الانتهاكات التي ارتكبت بحق معارضي النظام، لأن الدولة الصينية تحكم قبضتها على الإنترنت، وبالأخص على وسائل التواصل الاجتماعي التي يجب على من يستخدمها في الصين أن يسجل حسابات باسمه الحقيقي فقط، لتتمكن السلطات من الوصول إليه وقت ما تشاء.
في الوقت نفسه تستخدم السلطات الصينية أدوات رقابة متطورة على الإنترنت يتم تحديثها باستمرار، تساعدها على محو ذكر أي مادة ترد فيها أي كلمات يتم البحث عنها، لها علاقة بقائمة المحظورات التي وضعتها السلطات، وعلى رأسها بالطبع كل ما له علاقة بالمذبحة، حيث يتم حجب تلك المواد بشكل تلقائي، أو يتم إعادة توجيه المستخدم الذي يبحث عنها نحو مواضيع أخرى، كما تم تطوير برامج رقابية تتعرف على الصور المتعلقة بمذبحة الميدان أياً كانت طبيعتها، ليتم حظرها ومنع مستخدم الإنترنت من الإطلاع عليها، ومع أن تلك السيطرة تشهد حدوث بعض الثغرات والاختراقات، لكن السلطات الصينية مصممة على تطوير أدائها الرقابي بشكل مستمر، وهو ما يجعلها كما قال الكاتب "أقرب ما يمكن تقنياً إلى محو كل سجل لما حدث" داخل الصين.
تدرك السلطات الصينية أن ما سيساعدها على تحقيق هدفها هو النتائج التي تحدث عن أكبر توسع اقتصادي في تاريخ البشرية، فالاقتصاد الصيني الذي حقق في عام المذبحة 4.11 في المائة فقط من إجمالي الناتج المحلي العالمي، أصبح الآن يمثل 19.24 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي، وهو ما استفاد منه مئات الملايين من الصينيين الذين انتشلتهم الإصلاحات الاقتصادية من الفقر، فطبقاً لما ينقله الكاتب من ارقام معتمدة دولياً، لم يعد ما يقرب من ثلثي السكان يعيشون على 1.90 دولار في اليوم أو أقل، كما كان عليه الحال في عام 1990، ففي عام 2015 تراجع ذلك الرقم كثيراً، وزاد دخل الفرد بأكثر من 900 في المائة خلال السنوات التي أعقبت المذبحة، وانخفضت معدلات وفيات الرضع بأكثر من 80 في المائة، ومع أن هذه الأرقام البراقة تخفي خلفها كماً مهولاً من وقائع الظلم والفساد واختلال موازين العدالة وتضخم الثروات لدى أقلية متنفذة، إلا أن تلك الوقائع لا تجد بالطبع طريقها إلى العلن، مثلها مثل وقائع المذبحة التي لا يمكن لأحد أن يعترف علناً بأنها حدثت، إلا إذا فعل ذلك خارج الصين، ليفقد قدرته على دخولها بعد ذلك.
كل هذه التفاصيل، تجعل التجربة الصينية ملهمة لمرتكبي المذابح في بلادنا من رابعة العدوية إلى ماسبيرو، ومن دارفور إلى إدلب، لكن انعدام كفاءة طغاتنا الاقتصادية والإدارية الذي يترافق مع جشع فاحش في تكديس الثروات النانجة عن عمولات صفقات الأسلحة وأرباح التكليف بالأمر المباشر، يجعلهم بشكل رئيسي حريصين على النجاح في ما يخص الرقابة وحجب المواقع الإلكترونية وإسكات الأصوات التي يمكن أن تذكر بالمذابح أو تشير إلى وقائع الفساد، وهم يحرصون في ذلك على الاستفادة التقنية والمخابراتية من تجارب السلطات الصينية، تماماً كما يحرصون على الاستفادة التقنية والمخابراتية من تجارب النظام الروسي في التعامل مع وسائل الإعلام والأحزاب المعارضة، لينجحوا في النهاية في فرض حالة الأمر الواقع التي تخفض من سقف أحلام وطموحات الجميع، ليصبح الحلم القومي للملايين هو مجرد الرغبة في البقاء على قيد الحياة، أياً كانت رداءة وانحطاط الظروف التي يعيشون فيها، وفي ظل فرض أمر واقع كهذا لا يصبح التفكير في المذابح والجرائم ضد الإنسانية مجرد رفاهية، بل يصبح عاملاً محفزاً على المزيد من الخوف والخنوع والرضا باستمرار الحفر على الناشف، خاصة وأن الذين شاركوا في تبرير مذابح السلطة التي ارتكبت في حق خصومهم، يعرفون أنهم حين يضعون أنفسهم تحت مقصلة السلطة، سيجدون من يبرر ذبحهم أيضاً.
لكن التاريخ القريب قبل البعيد يعلمنا أن ذلك ليس نهائياً وليس أبدياً، وأن الذاكرة الجمعية مدهشة في قدرتها على رفض الأمر الواقع، وفي فتحها المفاجئ ـ والانتقائي أحياناً ـ لملفات الماضي، وفي استعادتها الحتمية لذكرى المذابح وفضائح الجلادين، صحيح أن ذلك يحدث في أحيان كثيرة بعد رحيل الجلادين معززين مكرمين، لكنه حين يحدث يبقى عاملاً مهماً للمساعدة في صنع واقع مختلف أقل ظلماً وأكثر عدالة، إن أرادت الشعوب صنعه.
في عالم أصبحت فيه المذابح تُنسي بعضها بعضاً، يتوقع إيان بريمر أن قراءه ـ خصوصاً من جيل الشباب ـ ربما لن يكونوا على علم بما حدث في ميدان تيان آنمين في 4 يونيو 1989، ولذلك يبدأ مقاله في مجلة (تايم) الأمريكية بالإشارة إلى مظاهرات الطلبة الصينيين التي بدأت بشكل عفوي عقب وفاة الزعيم الإصلاحي هو ياوبانج، لتتحول من تجمع حزين على رحيل الرجل، إلى تجمع احتجاجي على الفساد والقمع ومطالب بالمزيد من الحريات السياسية، لتحدث زخماً في المجتمع الصيني جعلها تستمر على مدار ستة أسابيع في وسط بكين، وتمتد إلى مدن صينية أخرى، بشكل أثار قلق قادة الحزب الشيوعي الحاكم من استفحال الاحتجاجات بشكل يهدد هيمنتهم السياسية على البلاد، ليبدأوا ما وصفه بلعبة القط والفأر مع المتظاهرين، حيث حاولت قوات الأمن زيادة عدد ضباطها وجنودها المتواجدين في الميدان بطرق مختلفة، لكن ذلك لم يضعف من عزيمة المتظاهرين الذين اعتمدوا على وجود تغطيات صحفية وإعلامية للمظاهرات جعلتها محط أنظار العالم بأسره.
أدركت قيادة الحزب الشيوعي الصيني أن المزيد من الصبر على المتظاهرين سيكون له تداعيات خطيرة، لذلك قررت إنهاء المظاهرات بالقوة، وفي 4 يونيو 1989 دخلت الدبابات تحت جنح الظلام إلى ساحة الميدان، وبدأت وقائع قتل المئات على الأقل من المعتصمين، معظمهم من الطلاب، دون أن يكون هناك حتى الآن أرقام قاطعة لعدد الضحايا الذين سقطوا في ذلك اليوم الدامي، الذي لم تبق منه في ذاكرة العالم سوى صورة ذلك الطالب الأعزل الذي يقف أمام دبابة لم تتردد في سحقه، وإن كانت وثيقة بريطانية سرية نشرت قبل سنتين قد قدرت عدد القتلى في ذلك اليوم بما يقرب من عشرة آلاف قتيل.
على مدار السنين التي أعقبت المذبحة، التي أصبح البعض يطلق عليها اسم (مذبحة ميدان السلام السماوي) نسبة إلى ذلك الميدان اللعين، امتنع كبار المسئولين الصينيين عن إبداء أي تعليقات على المذبحة وما يثار حولها في وسائل الإعلام الغربية، مع أن كل ما نشر عن المذبحة لم يؤد إلى حصار الصين دولياً، ولم يدفع دول العالم "الحر والمتقدم" إلى اتخاذ مواقف أبعد من التنديد والشجب، لذلك توقف الكاتب طويلاً عند التصريحات التي أدلى بها وزير الدفاع الصيني في ذكرى مرور ثلاثة عقود على المذبحة، والتي وصف فيها ما جرى في ميدان تيان آنمين بأنها كانت مجرد "اضطرابات سياسية كانت الحكومة محتاجة إلى تهدئتها"، واصفة ما فعلته الحكومة بأنه "ثبت كونه صحيحاً وبسببه تتمتع الصين بالاستقرار، وإذا قمت بزيارة الصين يمكن لك أن تفهم هذا الجزء من التاريخ".
لم يكن المسئول الصيني يحدث شعبه بالطبع، بل كان يتحدث إلى وسائل الإعلام الغربية التي لا زالت تثير ذكرى المذبحة من حين إلى آخر، أما داخل الصين فلن يكون حديث المذبحة أمراً يشغله هو وغيره من المسئولين، فمع أن الشعب الصيني يتمتع اليوم بقدرة أكبر على الوصول إلى المعلومات عما كان عليه الحال في عام 1989، بسبب وجود شبكة الإنترنت، لكن ذلك لا ينطبق على موضوع مثل مذبحة الميدان السماوي، وغيرها من الانتهاكات التي ارتكبت بحق معارضي النظام، لأن الدولة الصينية تحكم قبضتها على الإنترنت، وبالأخص على وسائل التواصل الاجتماعي التي يجب على من يستخدمها في الصين أن يسجل حسابات باسمه الحقيقي فقط، لتتمكن السلطات من الوصول إليه وقت ما تشاء.
في الوقت نفسه تستخدم السلطات الصينية أدوات رقابة متطورة على الإنترنت يتم تحديثها باستمرار، تساعدها على محو ذكر أي مادة ترد فيها أي كلمات يتم البحث عنها، لها علاقة بقائمة المحظورات التي وضعتها السلطات، وعلى رأسها بالطبع كل ما له علاقة بالمذبحة، حيث يتم حجب تلك المواد بشكل تلقائي، أو يتم إعادة توجيه المستخدم الذي يبحث عنها نحو مواضيع أخرى، كما تم تطوير برامج رقابية تتعرف على الصور المتعلقة بمذبحة الميدان أياً كانت طبيعتها، ليتم حظرها ومنع مستخدم الإنترنت من الإطلاع عليها، ومع أن تلك السيطرة تشهد حدوث بعض الثغرات والاختراقات، لكن السلطات الصينية مصممة على تطوير أدائها الرقابي بشكل مستمر، وهو ما يجعلها كما قال الكاتب "أقرب ما يمكن تقنياً إلى محو كل سجل لما حدث" داخل الصين.
تدرك السلطات الصينية أن ما سيساعدها على تحقيق هدفها هو النتائج التي تحدث عن أكبر توسع اقتصادي في تاريخ البشرية، فالاقتصاد الصيني الذي حقق في عام المذبحة 4.11 في المائة فقط من إجمالي الناتج المحلي العالمي، أصبح الآن يمثل 19.24 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي، وهو ما استفاد منه مئات الملايين من الصينيين الذين انتشلتهم الإصلاحات الاقتصادية من الفقر، فطبقاً لما ينقله الكاتب من ارقام معتمدة دولياً، لم يعد ما يقرب من ثلثي السكان يعيشون على 1.90 دولار في اليوم أو أقل، كما كان عليه الحال في عام 1990، ففي عام 2015 تراجع ذلك الرقم كثيراً، وزاد دخل الفرد بأكثر من 900 في المائة خلال السنوات التي أعقبت المذبحة، وانخفضت معدلات وفيات الرضع بأكثر من 80 في المائة، ومع أن هذه الأرقام البراقة تخفي خلفها كماً مهولاً من وقائع الظلم والفساد واختلال موازين العدالة وتضخم الثروات لدى أقلية متنفذة، إلا أن تلك الوقائع لا تجد بالطبع طريقها إلى العلن، مثلها مثل وقائع المذبحة التي لا يمكن لأحد أن يعترف علناً بأنها حدثت، إلا إذا فعل ذلك خارج الصين، ليفقد قدرته على دخولها بعد ذلك.
كل هذه التفاصيل، تجعل التجربة الصينية ملهمة لمرتكبي المذابح في بلادنا من رابعة العدوية إلى ماسبيرو، ومن دارفور إلى إدلب، لكن انعدام كفاءة طغاتنا الاقتصادية والإدارية الذي يترافق مع جشع فاحش في تكديس الثروات النانجة عن عمولات صفقات الأسلحة وأرباح التكليف بالأمر المباشر، يجعلهم بشكل رئيسي حريصين على النجاح في ما يخص الرقابة وحجب المواقع الإلكترونية وإسكات الأصوات التي يمكن أن تذكر بالمذابح أو تشير إلى وقائع الفساد، وهم يحرصون في ذلك على الاستفادة التقنية والمخابراتية من تجارب السلطات الصينية، تماماً كما يحرصون على الاستفادة التقنية والمخابراتية من تجارب النظام الروسي في التعامل مع وسائل الإعلام والأحزاب المعارضة، لينجحوا في النهاية في فرض حالة الأمر الواقع التي تخفض من سقف أحلام وطموحات الجميع، ليصبح الحلم القومي للملايين هو مجرد الرغبة في البقاء على قيد الحياة، أياً كانت رداءة وانحطاط الظروف التي يعيشون فيها، وفي ظل فرض أمر واقع كهذا لا يصبح التفكير في المذابح والجرائم ضد الإنسانية مجرد رفاهية، بل يصبح عاملاً محفزاً على المزيد من الخوف والخنوع والرضا باستمرار الحفر على الناشف، خاصة وأن الذين شاركوا في تبرير مذابح السلطة التي ارتكبت في حق خصومهم، يعرفون أنهم حين يضعون أنفسهم تحت مقصلة السلطة، سيجدون من يبرر ذبحهم أيضاً.
لكن التاريخ القريب قبل البعيد يعلمنا أن ذلك ليس نهائياً وليس أبدياً، وأن الذاكرة الجمعية مدهشة في قدرتها على رفض الأمر الواقع، وفي فتحها المفاجئ ـ والانتقائي أحياناً ـ لملفات الماضي، وفي استعادتها الحتمية لذكرى المذابح وفضائح الجلادين، صحيح أن ذلك يحدث في أحيان كثيرة بعد رحيل الجلادين معززين مكرمين، لكنه حين يحدث يبقى عاملاً مهماً للمساعدة في صنع واقع مختلف أقل ظلماً وأكثر عدالة، إن أرادت الشعوب صنعه.