في 23 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، سقطت ماراوي في جزيرة مينداناو الفيليبينية، بعد 5 أشهر من احتلالها في 23 مايو/أيار الماضي من قبل تنظيم "داعش". خاض دوتيرتي أصعب اختبار له، فـ"داعش" ليس الشيوعيين ولا "أبو سياف"، بل تنظيم قاتل في العراق وسورية وليبيا بصورة أساسية، وشنّ اعتداءات في عواصم عربية وغربية. كانت ماراوي بمثابة "عمادة بالنار" لدوتيرتي، فرض عبرها أحكاماً عرفية، ودفع الجيش للمواجهة مع التنظيم ورئيسه، هابيلون، الذي كان يطمح في قيادة المرحلة الجديدة من "داعش" في جنوب شرقي آسيا. وضع دوتيرتي مسألة القضاء على هابيلون لإنهاء الحرب، وهو ما حصل في 16 أكتوبر الحالي، بعد هجوم للجيش الفيليبيني أدى إلى مقتل هابيلون وعمر ماوتي، حسبما أعلن وزير الدفاع الفيليبيني، دلفين لورنزانا. وبعد أن كانت التقديرات بأن الجيش الفيليبيني يقاتل مجموعة من 200 شخص، اتضح لاحقاً وبناء على سير المعارك، أن عديد المسلحين كان أكثر من ألف عنصر.
ثقة دوتيرتي العلنية بالقضاء على "داعش" من ناحية، وخشيته الباطنية من إمكانية فشل عهده الرئاسي من ناحية أخرى، دفعه إلى إسكات كل الأصوات المعارضة له بقوة الدستور أو بكلامه اللاذع. فتابع حربه الخاصة ضد تجار المخدرات ومدمنيها، وهاجم الكنيسة الكاثوليكية لمعارضتها هذه الحرب، ودعا الشيوعيين إلى وضع الخلافات جانباً "لكسر داعش"، ومرت علاقته مع الأميركيين بصعود وهبوط، بينما حافظ على "احترامه" لروسيا والصين.
في المحصلة، خرج الرجل منتصراً في معركة كلّفت سقوط 165 جندياً فيليبينياً وجرح أكثر من 1400 آخرين وفقدان عنصر واحد، فضلاً عن مقتل بين 920 و962 عنصراً من "داعش" وإلقاء القبض على 11 عنصراً منهم. المعركة أدت أيضاً إلى مقتل 87 مدنياً وإجلاء 180 ألفاً آخرين ونزوح 1.1 مليون شخص. لكنها معركة ضرورية، يمكن لدوتيرتي الافتخار بأنه أول رئيس دولة آسيوية قضى على "داعش"، ومن الطبيعي بعد انتظار الأميركيين والروس طيلة الأشهر الخمسة، أن يهبّوا إليه لكسبه حليفاً. قد تكون شخصية الرئيس الأميركي دونالد ترامب أقرب إلى شخصية دوتيرتي، لكن الأخير يجد نفسه أقرب إلى الروس. فهو كان في زيارة لموسكو في الربيع الماضي، حين اندلعت معارك ماراوي، فقطع زيارته عائداً إلى مانيلا، مع وعد روسي بدعمه في أي قرار. تُرجم الوعد بتوقيع البلدين، يوم الثلاثاء الماضي، على أول عقد بينهما لتصدير قاذفات "آر بي جي ـ 7 في"، وقذائف لمانيلا. وجرى التوقيع في مدينة كلارك الفيليبينية. ووقّع عن الجانب الروسي، المدير العام لشركة "روزوبورون إكسبورت"، ألكسندر ميخييف، وعن الجانب الفيليبيني لورنزانا، وذلك بحضور وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو. وكان سفير الفيليبين في روسيا، كارلوس سوريتا، أعلن سابقاً أن "موسكو قدمت لمانيلا مجاناً 5 آلاف رشاش كلاشنكوف ومليون رصاصة و20 شاحنة عسكرية".
الخطوة الروسية، تبعتها أخرى أميركية، مع لقاء وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس مع دوتيرتي، على اعتبار أن الولايات المتحدة، هي أكبر مورّد للسلاح إلى الفيليبين، لكن الأخيرة "لا تشعر بالقلق إزاء الأسلحة التي تقدمها منافستاها الصين وروسيا". وشرح ماتيس ذلك بقوله: "لا أولي أهمية كبيرة للأمر، إنها بعض الشاحنات أو الأسلحة يتم نقلها لدولة تحارب الإرهاب الآن"، مضيفاً أن "هذا قرار سيادي للفيليبين، لذا فهو ليس بالأمر المهم بأن تأتي دول أخرى لتقديم العون".
حتى أن السفير الأميركي في مانيلا، سونغ كيم، قلّل من شأن المخاوف الأميركية من سعي دوتيرتي للتقارب مع الصين وروسيا، لافتاً إلى أن "الولايات المتحدة، هي الحليف الوحيد الذي تربطه معاهدة وعلاقات أكثر عمقاً مع الفيليبين". وأضاف "لا أشعر بالتهديد حقيقة من فكرة أن الصين أو روسيا تورّد بعض المعدات العسكرية للفيليبين". وشدّد على أنه "كنا نورد معدات مهمة للغاية للفيليبين على مدى سنوات طويلة جداً. وحقيقة أن الصينيين والروس أرسلوا بعض البنادق، لا أعتقد أنها تدعو حقيقة لإثارة القلق في الولايات المتحدة".
بالنسبة لماتيس، الأمر "ليس مهماً"، قبل الزيارة المقررة لترامب الشهر المقبل إلى الفيليبين ولقائه المرتقب مع دوتيرتي، لكن في الواقع إن الأمر في غاية الأهمية بالنسبة للأميركيين. فمرحلة ما بعد ماراوي، في ظلّ الهدوء النسبي على جبهة كوريا الشمالية، تستدعي تركيز الأنظار أكثر على بحر الصين الجنوبي. هذا ما يشغل بال واشنطن حالياً، وكذلك الصين وروسيا، الساعية إلى إيجاد موطئ قدم لها هناك بحجة "دعم دول جنوب شرق آسيا في المعركة ضد الإرهاب". وفي ظلّ هذه الضوضاء، فإن بوسع دوتيرتي اعتبار نفسه مرغوباً أممياً، فهو بات الرجل القوي في تلك المنطقة، من دون طموحات تتجاوز الطموحات الصينية والأميركية. والفيليبين التي كانت ممراً جغرافياً في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وساحة واسعة للعبور البريطاني والإسباني والأميركي عبر تاريخها، يمكنها في عهد دوتيرتي، الشعور بأنها "قوة إقليمية" لا مجرد دولة أخرى من دول جنوب شرق آسيا.