بعد أكثر من أربعة أشهر على بدء سريان اتفاق موسكو بين الجانبين التركي والروسي، والخاص بالشمال الغربي من سورية، تمكن الطرفان أخيراً من تسيير دورية مشتركة على كامل الطريق الحيوي المعروف باسم "أم 4" داخل محافظة إدلب، في خطوة باتجاه استعادة السير والحركة على هذا الطريق الذي يربط غربي البلاد بشمالها، ويعوّل عليه النظام في إنعاش اقتصاده المتهالك. لكن هذه الخطوة، على أهميتها، تبدو غير كافية لإحلال الاستقرار في الشمال الغربي من سورية، طالما لم تحل مشكلة عشرات آلاف النازحين من ريفي إدلب الجنوبي والشرقي، الذين ما زالوا يعيشون في ظروفٍ تكاد تصل إلى حدود الكارثة في الشمال السوري، بعد سيطرة قوات النظام على مدنهم وقراهم بدعمٍ روسي أوائل العام الحالي. وتواصل قوات النظام السوري من جهتها، خرق الاتفاق، بمساندة سلاح الجو الروسي، واستهدفت مدفعيتها أمس، غداة تسيير الدورية، مناطق مختلفة في ريف إدلب الجنوبي.
وللمرة الأولى، سيّرت القوات التركية والروسية أول من أمس الأربعاء، دورية مشتركة على الطريق الدولي الذي يربط مدينة اللاذقية، كبرى مدن الساحل السوري غربي البلاد، بمدينة حلب، كبرى مدن الشمال السوري، انطلاقاً من قرية ترمبة في ريف إدلب شرقاً، وصولاً إلى قرية حور العين في ريف اللاذقية غرباً. ووفق مصادر محلية، سارت الدورية التي حملت الرقم 22 على مسافة تتجاوز 60 كيلومتراً، وسط إجراءاتٍ أمنية مشددة، تخوفاً من وقوع هجوم كما حدث في 14 من شهر يوليو/تموز الحالي، حين أصيب ثلاثة من الجنود الروس جرّاء انفجار لغم أثناء مرور دورية لهم على الطريق. وأشارت المصادر إلى أن الدورية الروسية أول من أمس، لم تعد إلى نقطة الانطلاق، بل غادرت من حور العين باتجاه مناطق سيطرة النظام في ريف اللاذقية، بينما عادت الدورية التركية إلى ناحية أريحا في ريف إدلب الجنوبي.
حاول الجانبان التركي والروسي أكثر من 20 مرة تسيير الدوريات على أم 4، لكنهما فشلا بسبب الرفض الشعبي، فضلاً عن تهديد تنظيمات متشددة باستهدافها
ومع استكمال الدورية الروسية - التركية السير على الطريق الدولي داخل محافظة إدلب، تكون موسكو وأنقرة قد أنجزتا جانباً من اتفاق موسكو الذي أبرمه الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين في العاصمة الروسية بداية مارس/ آذار الماضي. ونصّ الاتفاق حينها على وقف جميع الأعمال العسكرية على طول خطّ الاتصال في منطقة التصعيد بإدلب، بتاريخ السادس من مارس، مع إنشاء ممر أمني بعمق ستة كيلومترات من الشمال، وستة كيلومترات من الجنوب من الطريق السريع "أم 4"، وتسيير الدوريات التركية - الروسية المشتركة على الطريق نفسه. وحاول الجانبان التركي والروسي أكثر من 20 مرة تسيير الدوريات على الطريق المذكور، لكنهما فشلا بسبب رفض شعبي للخطوة، فضلاً عن وجود تنظيمات متشددة كانت تهدد باستهداف هذه الدوريات. ولم تتضح بعد نيّات الطرفين حيال هذا الطريق الحيوي، وخصوصاً أيضاً بالنسبة للنظام السوري الذي يأمل في استعادة الحركة على "أم 4" من أجل إنعاش اقتصاده المتهالك. لكن وجود مجموعات متشددة ترفض التفاهمات التركية - الروسية ربما يؤجل خطوة استعادة الحركة على الطريق الذي يقسم محافظة إدلب.
من جهته، يرى القيادي في فصائل المعارضة السورية، العميد فاتح حسون، أنه لا يمكن عزل ملف محافظة إدلب في شمال غربي سورية عن الملف الليبي، مشيراً في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى "صعوبة قراءة ما ستؤول إليه الأحداث في إدلب بمعزل عما سيحصل في ليبيا". ويلفت حسون في هذا الإطار، إلى أن "القوى الدولية الفاعلة والمتصارعة واحدة، حيث ارتبط الملفان الليبي والسوري ارتباطاً وثيقاً، ما جعل أياً منهما يتأثر بالآخر، كما يُستخدم الضغط في أحدهما، لإحداث انفراج في الآخر.
أما بالنسبة إلى الخطوة المقبلة ما بعد نجاح تسيير الدورية التركية الروسية بالمرور على كامل الطريق "أم 4" من دون عوائق، فبرأيه أن ذلك "مرهون بنتائج اجتماعات الفريقين التركي والروسي حول ليبيا"، مرجحاً أن "تسري التهدئة في هذا البلد، على منطقة إدلب برمتها، وعلى الاتفاقية المتعلقة بها بين تركيا وروسيا". لكنه يرى أيضاً أن "آليات وأدوات تخريب الاتفاق في منطقة إدلب حاضرة باستمرار، ويتم توجيهها من الخارج بشكل مباشر أحياناً، وغير مباشر أحياناً أخرى"، موضحاً أنها "تظهر بشكل عمليات لمتطرفين غير موافقين على الاتفاق تارة، أو ردود فعل لعناصر غير منضبطة تارة أخرى". ويستنتج القيادي في الفصائل المعارضة، أن "جميع هذه الآليات تسعى بالمحصلة إلى تخريب الاتفاق، بما يتناسب مع مصالح النظام السوري وإيران بالدرجة الأولى، والجهات الدولية المتضررة من النفوذ التركي في سورية من جهة أخرى، وهذه الجهات تنظر النظرة ذاتها في ليبيا، وتسعى للهدف ذاته". وأوضح حسون أن الدوريات التركية الروسية "تسير في منطقة خفض تصعيد، وليس في منطقة وقفٍ دائم لإطلاق النار"، ما يعطي مجالاً بحسب رأيه لـ"المخربين"، لافتاً إلى أنه "لا توجد ضمانات لعدم التعرض للدوريات في المرة المقبلة، سوى استقرار المنطقة وعودة المهجرين إلى بيوتهم، والتزام روسيا باتفاقية سوتشي حول إدلب وحدود منطقة خفض التصعيد المتفق عليها مع تركيا من جهة، وحدوث اتفاق صلب بين تركيا وروسيا في ليبيا من جهة أخرى".
لا يزال أكثر من مليون نازح لم يحسم اتفاق موسكو مصيرهم، يعيشون في ظروف بالغة المأساوية في ريفي إدلب الشمالي وحلب الشمالي والشمالي الغربي
وفي هذا السياق، لا يزال أكثر من مليون نازح، لم يحسم اتفاق موسكو مصيرهم، يعيشون في ظروف بالغة المأساوية في ريفي إدلب الشمالي وحلب الشمالي والشمالي الغربي، في ظلّ انعدام الآمال بعودتهم في المدى المنظور إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم، وخصوصاً في ريفي إدلب الشرقي والشمالي، في ظلّ وجود قوات النظام ومليشيات إيرانية في هذين الريفين.
وكانت قوات النظام بدعم روسي قضمت في فبراير/شباط الماضي مدينتي سراقب في ريف إدلب الشرقي ومحيطها، ومعرة النعمان ومحيطها في ريف إدلب الشمالي، ما تسبب بموجات نزوح كبرى إلى الشمال السوري. كما نزح عشرات الآلاف من ريفي حلب الجنوبي والغربي للأسباب نفسها، إلى هذا الشمال الذي بات مكتظاً بأكثر من 4 ملايين مدني، في ظلّ انعدامٍ شبه كامل لكل مقومات الحياة. ويبدو أن الجانب التركي يصر على عودة قوات النظام إلى حدود متفق عليها في محادثات مسار أستانة بين الثلاثي الضامن (روسيا، تركيا، إيران)، إلى منطقة خفض التصعيد الرابعة، والتي تشمل محافظة إدلب ومحيطها، لضمان عودة النازحين، لكن الجانب الروسي يماطل في تحقيق المطلب التركي. ويحول ذلك دون استقرار الشمال الغربي من سورية، الذي يضم مجموعات متشددة ترفض التفاهمات الروسية التركية، وفي مقدمها تنظيم "حراس الدين"، والتي تتحيّن الفرص من أجل تفجير الأوضاع في محافظة إدلب.
ومنذ توقيع اتفاق موسكو، نقل الجيش التركي آلاف الجنود إلى داخل محافظة إدلب، التي تنتشر فيها نحو 60 نقطة تمركز له، إضافة إلى قاعدة كبرى في مطار بلدة تفتناز في ريف إدلب الشمالي الشرقي. ولم تنقطع تعزيزات الجيش التركي إلى الشمال الغربي من سورية، حيث دفع مساء الأربعاء الماضي عن طريق معبر كفر لوسين بآليات مدرعة وشاحنات تحمل كتلاً إسمنتية، بالإضافة إلى مجموعة من ناقلات الجند.
وذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان، أن الشاحنات والآليات العسكرية التركية التي وصلت إلى منطقة خفض التصعيد في إدلب خلال الفترة الممتدة من الثاني من شهر فبراير/شباط 2020، بلغت أكثر من 8290 شاحنة وآلية عسكرية حملت دبابات وناقلات جند ومدرعات وكبائن حراسة متنقلة مضادة للرصاص ورادارات عسكرية، فيما بلغ عدد الجنود الأتراك الذين انتشروا في ريفي إدلب وحلب خلال تلك الفترة أكثر من 11 ألفا و500 جندي تركي، وفق المرصد.