تبدو تونس في الفترة الأخيرة مقتنعة أكثر من أي وقت مضى بضرورة الدفع بكل قواها في اتجاه دعم جهود المصالحة الليبية، وقد وصلت إلى هذه القناعة بسبب تزايد انعكاسات الأزمة الليبية عليها والتي طالت كل مجالات الحياة، اقتصادياً وأمنياً واجتماعياً أيضاً.
وتفيد بعض الأرقام غير الرسمية التي حصلت عليها "العربي الجديد"، بأن كلفة الخسارة التونسية من الأزمة الليبية تفوق خمسة مليارات دولار، ما يغير جوهرياً من الموازنات التونسية المتعبة أصلاً بسبب المشاكل الداخلية وتراجع الانتاج والعمل، بالإضافة إلى البطالة في النصف الجنوبي من تونس الذي كان يشكّل فضاءً مفتوحاً متفاعلاً باستمرار مع ليبيا اقتصادياً واجتماعياً، إذ يعمل الكثير من الجنوبيين التونسيين في ليبيا، وتربط بين الطرفين علاقات اجتماعية متينة جداً، يزيدها وجود قُرابة مليوني ليبي في تونس، بما يعنيه ذلك من انعكاس على صندوق دعم المواد الأساسية وارتفاع أسعار العقارات، من دون احتساب المشاكل المترتبة عن ذلك، ومنها تدريس أبناء المقيمين ومراقبة تحركات الناشطين الممثلين لكل التيارات المتنازعة في ليبيا خوفاً من نقل الصراع إلى تونس.
ويبقى العامل الأمني من أكبر اهتمامات تونس على حدودها الجنوبية، إذ تتدفق الأسلحة ويتسلل الإرهابيون بعد تلقّي تدريبات في مدن ليبية عديدة، ما يعني استنزاف القوات الأمنية والعسكرية وارتفاع الإنفاق لتسليحها وتقديمه على أولويات تونسية أخرى، من أهمها حل مشاكل الاستثمار والعدالة التنموية بين الجهات التي قامت من أجلها الثورة، ويتواصل بسببها الغليان الشعبي في أكثر من جهة، بالإضافة إلى عزوف المستثمرين التونسيين والأجانب بسبب عدم استقرار الأوضاع بشكل يتيح المغامرة الاستثمارية.
هذه القراءة التونسية لتقييم انعكاس الأزمة الليبية ليست بجديدة، غير أن السلطات التونسية تبدو أكثر جدية في معالجتها والتصدّي لها، والذهاب مباشرة إلى أسبابها العميقة، ومن أجل ذلك إعادة تقييم المسار وطريقة التعامل مع أطراف الأزمة، وتغيير الأسلوب السياسي ووضع خطط جديدة ترقى إلى التغيير الاستراتيجي.
وكانت أولى خلاصات هذه القراءة الجديدة التي يبدو أن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي يحركّها بنفسه، أن تسلك الحكومة التونسية الجديدة طريقة مختلفة عن سابقتها في التعاطي مع طرفي الأزمة، والتعامل معهما بشكل واقعي لا إيديولوجي، يضع المصلحة التونسية على رأس الأولويات، ويقوم على الوقوف على المسافة نفسها من الطرفين المتنازعين.
وعلى أساس هذه الرؤية الجديدة استقبل السبسي بنفسه في الفترة الأخيرة رئيسي حكومتي ليبيا، وتحدث إليهما حول ضرورة التوصل إلى حل سلمي، ودفَع في اتجاه دعم حواري المغرب والجزائر، لأن تونس ستستفيد من هدوء الأوضاع ليبيا مهما كان اسم الوسيط.
اقرأ أيضاً: تونس تستعد لدخول "الحوار الليبي" بغطاء أميركي ــ بريطاني
وشهدت تونس انعقاد جلسة هامة للغاية بين أعيان ومشايخ ليبيا من الجهتين الشرقية والغربية، تلاه لقاء نسائي ليبي أشرف عليه مبعوث الأمم المتحدة برناردينو ليون بنفسه، ما يعزز هذه الجهود المختلفة للتقريب بين الجميع، خصوصاً أن القيادة التونسية تفهم الوضع الليبي في العمق وتدرك أن للقبائل ومشايخها دوراً محورياً في أي تحرك ليبي. ويقول متابعون إن المبعوث الأممي يبدو "تائهاً نسبياً" في الصحراء الليبية؛ لأنه يتعامل مع الوضع بمنطق أوروبي لا يفهم الخصوصية الليبية كما ينبغي.
غير أن ما يميز هذا الحياد التونسي هو إسناده بعمل دبلوماسي مكثّف على الجبهة الليبية يقوده السبسي بنفسه، ويبدو أنه يسير في اتجاه توفير الظروف الملائمة للقيام دور ما، وتؤكد مصادر لـ "العربي الجديد" أن الطرفين الليبيين متحمسان لوساطة تونسية بل ويطالبان بها، ولكن المعروف عن السبسي أنه لن يدخل على خط مبادرة إلا إذا كان متأكداً من نجاحها.
ولكن هذا الحياد التونسي الجديد تجاه طرفَي الأزمة في ليبيا واستقبال السبسي ورئيس حكومته الحبيب الصيد لرئيس حكومة طرابلس خليفة غويل، بعد لقاء الرئيس التونسي لرئيس حكومة طبرق عبد الله الثني، واقتراب موعد استئناف الرحلات الجوية بين تونس ومطارات غرب ليبيا، لا يبدو أنه يلقى تجاوباً من أطراف عديدة، بل قد يصل إلى حد إزعاجها، بحكم تنّوع المصالح وتضاربها دولياً، وحدة التنافس على اقتسام الكعكة الليبية مستقبلاً، ورسم ملامح ليبيا الجديدة ومراكز نفوذها غداً، التي ستنتج عن تفاهمات اليوم.
ويبدو أن الموضوع الليبي سيكون بالضرورة محوراً من محاور لقاءات السبسي الدولية التي ستجمعه بالرئيس الألماني اليوم الإثنين وبالرئيس الأميركي في مايو/أيار المقبل، بعد اجتماعه بالرئيس الفرنسي منذ أيام، والرئيس المصري خلال القمة العربية في مصر.
وبالعودة إلى الزيارة الفرنسية، لاحظ عدد من المتابعين أن صفقة الطائرات التي كانت ستموّلها دولة الإمارات قد "كُبحت"، وامتنع الطرفان التونسي والفرنسي عن التعليق عن ذلك. وتُرجّح بعض المصادر لـ "العربي الجديد" أن سبب ذلك قد يعود إلى الموقف التونسي الجديد من الأزمة الليبية، من دون تأكيد رسمي من الجانب الفرنسي أو التونسي أو الإماراتي، وبقطع النظر عن صحة هذه الأخبار من عدمها، يؤكد عدد من العارفين بالرئيس التونسي أنه لا يرضخ للضغوط، خصوصاً في القرارات السيادية، ويلقّبه بعض التونسيين بـ "الرأس الصحيح" أي شديد المراس عندما يؤمن بفكرة ما.
غير أن هذا الحياد التونسي لا يلقى رافضين من الخارج فقط، بل يجد له معارضين أيضاً من الداخل، وخصوصاً من أحزاب ترى حتى الآن أن "فجر ليبيا" لم تُقدّم دليلاً قاطعاً على عدم علاقاتها بالمجموعات المتطرفة داخل ليبيا، وتعرب عن مخاوفها من هذا التقارب الذي لم تتوفر ضماناته بالشكل الكافي.
وستكون تونس بشكل عام، والسبسي تحديداً بخياره الليبي الجديد، أمام امتحان ليس بالسهل داخلياً وخارجياً، ولا أحد بإمكانه التحقق من إمكانية نجاحه من عدمه، إلا ما سيسفر عنه المستقبل الليبي القريب.
اقرأ أيضاً: تونس: 100 يوم على تسمية الصيد رئيساً للحكومة