18 نوفمبر 2024
دونالد ترامب رئيسًا: محاولة في التفسير
على الرغم من أنّ احتمالات نجاح المرشحيْن لانتخابات الرئاسة الأميركية كادت تتساوى إحصائيًّا، فإنّ نجاح دونالد ترامب جاء صدمة لكثيرين داخل الولايات المتحدة وخارجها. وسبب المفاجأة أنّ الفئات التي يُعتقد أنها تصنع الرأي العام (وسائل الإعلام، ومؤسسات الاستطلاع، ومراكز الأبحاث) اعتقدت أن من غير المعقول أن ينجح، لمجرّد أنه يبدو شخصًا غير عقلاني وغير مؤهل. وكانت استطلاعات الرأي تشير، حتى قبل ساعات من بدء التصويت، إلى تقدّم هيلاري كلينتون، وإنْ بفارقٍ ضئيلٍ على منافسها. كما كانت تقارير تشير إلى أنّ أكثر الأصوات التي جرى الإدلاء بها في عملية التصويت المبكّر التي استفاد منها نحو 41 مليون أميركي جاءت نتائجها في معظمها لمصلحة كلينتون، بحسب ما يسمّى نتائج الخروج (Exit poll). علاوة على ذلك، كان الاعتقاد السائد أنّ حظوظ ترامب قد تضرّرت بما لا يمكن إصلاحه، نتيجة إساءاته المتنوعة لشرائح اجتماعية عديدة، مثل النساء والأقليات والمسلمين وغيرهم، كما بدا أنه من غير المنطقي أيضًا أن يصوّت عدد كبير من الأميركيين لمرشح شعبوي، لا يطرح برامج سياسية فعلية، ويستخدم خطاب الكراهية والعنصرية على نطاق واسع، في حملته الانتخابية، وتلطخ اسمه بفضائح عديدة.
ما حصل أنّ ترامب خيّب كل هذه التوقعات، وحقق فوزًا مريحًا على خصمه الديموقراطي، وحصل على ما مجموعه 279 صوتًا، علمًا أنّ المرشح الناجح يحتاج إلى 270 من أصوات المجمع الانتخابي البالغة 538. ليس هذا فحسب، بل فاز ترامب في أغلب الولايات المتأرجحة التي أعطت أصواتها في الانتخابات الرئاسية السابقة للديموقراطيين، مثل فلوريدا وبنسلفانيا وويسكنسن وأوهايو وغيرها. فما هي الأسباب التي أدت إلى تحول "الكابوس" الذي تخيله الكثيرون إلى حقيقة؟ وكيف غدا المرشح الرئاسي الذي لم يكن أحد يأخذُه قبل عام على محمل الجد إلى الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية؟
حشد دعم الأميركيين البيض
منذ رشح نفسه رسميًا لانتخابات الرئاسة، صيف العام 2015، راهن ترامب على دعم الطبقة العاملة الأميركية البيضاء التي لم تتعافَ قط من سياسات إدارة بيل كلينتون الاقتصادية، والتي عمّقها الركود الاقتصادي الذي ضرب الولايات المتحدة، بعد الأزمة المالية العالمية عام
2008، وما نتج عنها من فقدان للوظائف الصناعية وانتقال المصانع إلى خارج الولايات المتحدة. وحتى يصل إليهم، اختار ترامب، على عكس المرشحة الديموقراطية، كلينتون، تقديم رسائل واضحة ومباشرة، وإنْ كانت شعبويةً وحادّةً في أغلب الأحيان، مفادها بأنّ السياسات الاقتصادية وسياسات الهجرة التي اتبعها الديموقراطيون لم تؤدّ إلى خسارة الطبقة الوسطى الأميركية البيضاء (WASP) وظائفها فحسب، بل أخذت أيضًا تهدّد بسيطرة المهاجرين والملونين (الهيسبانك والسود خاصة) على مقاليد الأمور في الولايات المتحدة، في ضوء تزايد المؤشرات على تحول البيض الأميركيين إلى أقليةٍ عدديةٍ خلال أقل من ثلاثة عقود؛ وكان فوز باراك أوباما بالرئاسة، عام 2008، قد أيقظ مخاوف هؤلاء حيال قدرتهم على الاستمرار في حكم الولايات المتحدة. وقد تمكّن ترامب من تعزيز هذه المخاوف (أي إنّ البيض يخسرون أميركا) لتحقيق اختراقاتٍ كبيرةٍ، حتى في معاقل الحزب الديمقراطي، كما حصل في ميتشيغن، وويسكنسن، وبنسلفانيا، وهي ولايات ذات أكثرية بيضاء. وتعدّ هذه الاختراقات دليلاً على نجاح ترامب في استثارة المشاعر العنصرية لدى البيض، وفي استقطاب طبقة العمال والطبقة المتوسطة البيضاء التي درجت تاريخيًا على التصويت للحزب الديموقراطي. في المقابل، فشلت كلينتون في استنفار المعسكر الديموقراطي، خصوصاً الأقليات والنساء الذين راهنت على خروجهم والتصويت بكثافة لفائدتها.
الاستفادة من الانقسامات المناطقية والقيمية
أوضحت نتائج الانتخابات وجود حالةٍ من الاستقطاب والانقسام الشديدين في القيم والاهتمامات والمصالح والتوجهات بين سكان المدن الكبرى من جهة وسكان الأرياف أو البلدات الصغيرة (small towns) من جهة أخرى، وبين سكان ولايات الساحلين الشرقي والغربي الأغنى والأكثر انفتاحًا على العالم من ناحية، وسكان المناطق الداخلية، خصوصاً ما يسمى "الغرب الأوسط" من ناحية أخرى، وبين مجتمع متحرّر اجتماعياً نجح في فرض قوانين حول الإجهاض وزواج المثليين، ومجتمع محافظ يرفض بشدة كل هذه التوجهات. وقد استفاد ترامب من هذا الانقسام، بحيث تمكّن من حصد أصوات أكثر الولايات الواقعة بين الساحلين الشرقي والغربي.
تصويت احتجاجي ضد كلينتون والمؤسسة
جاء التصويت لترامب بمنزلة تصويت احتجاجيٍّ ضد ما تسمى، في واشنطن، مؤسسة الحكم ونخب الساحل الشرقي (واشنطن ونيويورك) التي انفصلت عن قواعدها وجمهورها، وغرقت في قضايا الفساد المالي والسياسي، كما يتهمها ترامب. وكان الممثل الأول لهذا الاحتجاج بيرني ساندرز مرشح الحزب الديمقراطي الذي خسر الترشيح. وبات مؤكدًا أنّ جزءًا من أنصار بيرني ساندرز رفض التصويت لكلينتون، بصفته إجراء احتجاجيًا على خسارة مرشحهم الانتخابات التمهيدية في الحزب الديموقراطي، ولأن كلينتون تمثّل ما يحتجون ضده. وهكذا، فقد خسرت كلينتون قسمًا من أصوات هؤلاء الذين إمّا عزفوا عن التصويت أو صوّتوا بورقة بيضاء، في حين تمكّن ترامب، في حالات أخرى، من استقطاب شرائح منهم بعد أن أقنعهم، وأكثرهم من الفئات الشعبية والعمالية، بقدرته على تمثيل مصالح.
من جهةٍ ثانيةٍ، بدا أنّ هناك حالة من الملل والتعب من نحو ربع قرن من سياسات آل كلينتون ووجودهم تحت الأضواء (في البيت الأبيض بين 1992 و1998، ثمّ خدمة هيلاري كلينتون بصفة سيناتور عن ولاية نيويورك من 2000 إلى 2008، ثمّ وزيرة خارجية في عهد أوباما، ثمّ مرشحة رئاسية أخيرًا). فضلًا عن وجود اعتقاد واسع بأنّ آل كلينتون جنوا ثرواتٍ طائلةً، ويتصفون بعدم الصدقية واللامسوؤلية، خصوصاً في ظل تحقيقات في تهم وجهت إلى هيلاري كلينتون، منها استخدام بريدها الشخصي غير المحمي لمراسلاتٍ سرية، عندما كانت وزيرة للخارجية، وتحميلها مسؤولية الإهمال في قضية مقتل السفير الأميركي في بنغازي في سبتمبر/ أيلول 2012، وغير ذلك من قضايا جاء الكشف عن بعضها، قبل أيام فقط من بدء عملية الاقتراع. وعلى الرغم من أنّ رموز الحزب الديموقراطي نزلوا إلى الميادين الانتخابية لحشد الدعم لها، بمن فيهم الرئيس باراك أوباما الذي يحظى بأكبر شعبيةٍ لرئيس أميركي في أيام ولايته الأخيرة (54%)، كما محضها الدعم كل من ميشيل أوباما (زوجة الرئيس) وجو بايدن نائب الرئيس، فإنّ ذلك كله لم يجدِ على ما ظهر نفعًا.
خطاب ترامب
بدا خطاب ترامب للنخب المثقفة بسيطًا ومسطحًا واستفزازيًا، ولكنه كان مدروسًا ليخاطب
مشاعر عدد كبير من بسطاء الأميركيين الذين يميلون إلى تصديق الرجل الذي حقق نجاحًا في القطاع الخاص (تجسيد الحلم الأميركي)، ويشكّكون في السياسيين المحترفين، ويميلون إلى الخطاب المباشر الذي يبدو لهم لسببٍ ما غير منافق، ولا يخطر لهم أنّ غير المنافق قد يكون كاذبًا. ويؤمن كثيرون منهم بما يقوله ترامب عن المرأة والأجانب، ولكنهم لا يصرّحون به، ووجدوا في ترامب لسان حالهم.
ثمّة مفارقة سوسيولوجية غريبة، متجسّدة في مسألة الثقافة السياسية، فالغني البليونير يبدو لسكان الأرياف والمناطق العمالية الصناعية غير نخبوي، لمجرّد أنه يتبنى خطابًا شعبيًا، والطبقات الوسطى الليبرالية في المدن تبدو أكثر نخبويةً، وأبعد من ترامب عنهم مسافات بسبب الأفكار والقيم، حتى لو كانت أقرب طبقيًا في مصالحها.
محاولات ترامب الظهور بمظهر الضحية
نجح ترامب في الظهور بمظهر الضحية، بعد استهدافه بسلسلة من الفضائح المالية والأخلاقية، يعود بعضها إلى سنواتٍ طويلة مضت. كما أنّ وقوف المؤسسات الإعلامية الكبرى في أميركا (mainstream media)، مثل صحيفتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست ومحطات تلفزية على المستوى القومي مثل سي. إن. إن، ضد ترشح ترامب وانتخابه عزّز الانطباع الذي حاول رسمه عن نفسه بأنه ضحية "مؤامرة ليبرالية" لإسقاطه. وهو ما حاول أن يعزّزه بادعائه وجود محاولاتٍ لتزوير الانتخابات للحيلولة دون وصوله إلى الرئاسة. وحدا هذا الأمر أيضًا بالحزب الجمهوري، في الأسابيع الأخيرة من الحملة الانتخابية، إلى الإلقاء بثقله وراء ترامب، بعد أن كان تخلى عنه رموزٌ في الحزب وقادة كبار فيه، ما مكّنه من الفوز بأصوات نحو 30% من الناخبين من أصولٍ لاتينية في فلوريدا. تمّ ذلك بسبب الماكينة الانتخابية الجمهورية، وتحديدًا الحملة الانتخابية للسيناتور ماركو روبيو الذي كان ترامب قد أزاحه في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري. وقد أسهم ذلك في تمكين ترامب من الحصول على أصوات الولاية الـ (29) بعد أن نجح في تجاوز المشاعر المعادية لخطابه بشأن المهاجرين، وتهديداته بترحيل الملايين منهم، والقادمين، في أغلبهم، من دول أميركا اللاتينية.
المرشح غاري جونسون
ربما أسهم وجود مرشح ثالث، هو غاري جونسون، في الانتخابات في فوز ترامب في بعض
الولايات المتأرجحة الكبرى، فالأصوات التي حازها جونسون في ولاية فلوريدا (29 صوتًا) ونورث كارولينا (15 صوتًا) حسمت من الكتلة الانتخابية التي كان مفترضًا أن تذهب للمرشحة الديمقراطية. وقد شهدت الولايتان تنافسًا حادًا وتقاربًا كبيرًا في النتائج، إذ وصل الفارق أحيانًا إلى بضع عشرات من الأصوات، ما أسهم في خسارة كلينتون هذه الولايات الحاسمة.
خاتمة
قد تكون أسباب عديدة أخرى أسهمت في وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وإلحاق هزيمة كبرى بالمرشحة التي كانت تعدّ، حتى أسابيع قليلة، فائزًا حتميًا في انتخابات 8 نوفمبر/ تشرين الثاني الرئاسية، ومن ثمّ تحقيق مفاجأة. إنّما في المحصلة جاءت النتائج متوافقة مع ميلٍ تاريخي في النظام السياسي الأميركي، يبيّن أنه نادرًا ما تمكّن حزب السلطة من الاستمرار في الحكم أكثر من دورتين انتخابيتين، حتى يتخذ الشعب قراره بضرورة حصول تغييرٍ وتجريبٍ لنهج رئاسي جديد. قد يتمكّن ترامب، خلال السنتين المقبلتين، من الحكم مرتاحًا نتيجة استمرار سيطرة حزبه على مجلسي الشيوخ والنواب، لكن سيكون عليه أولًا أن يتعامل مع تبعات الحملة الانتخابية المريرة التي بيّنت وجود انقساماتٍ تكاد تكون غير مسبوقة في المجتمع الأميركي. فحتى الديموقراطيات العريقة، يمكن أن تتعرّض لتصدّعات كبرى، وترتكس ممارساتها الديمقراطية، إذا تركت الشقوق التي يتعرّض لها النظام تتسع، والفجوات تكبر بطريقةٍ قد تؤدي إلى الانهيار. قد لا يجد "الديماغوجي" مشكلةً في اتباع سياسةٍ غير الخطاب الذي صمم لكسب الأصوات، لكن الطاقم الذي سيعيّنه للعمل معه سيمثّل أحد المؤشرات المهمة على نوع السياسات التي سوف يتبعها.
ما حصل أنّ ترامب خيّب كل هذه التوقعات، وحقق فوزًا مريحًا على خصمه الديموقراطي، وحصل على ما مجموعه 279 صوتًا، علمًا أنّ المرشح الناجح يحتاج إلى 270 من أصوات المجمع الانتخابي البالغة 538. ليس هذا فحسب، بل فاز ترامب في أغلب الولايات المتأرجحة التي أعطت أصواتها في الانتخابات الرئاسية السابقة للديموقراطيين، مثل فلوريدا وبنسلفانيا وويسكنسن وأوهايو وغيرها. فما هي الأسباب التي أدت إلى تحول "الكابوس" الذي تخيله الكثيرون إلى حقيقة؟ وكيف غدا المرشح الرئاسي الذي لم يكن أحد يأخذُه قبل عام على محمل الجد إلى الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية؟
حشد دعم الأميركيين البيض
منذ رشح نفسه رسميًا لانتخابات الرئاسة، صيف العام 2015، راهن ترامب على دعم الطبقة العاملة الأميركية البيضاء التي لم تتعافَ قط من سياسات إدارة بيل كلينتون الاقتصادية، والتي عمّقها الركود الاقتصادي الذي ضرب الولايات المتحدة، بعد الأزمة المالية العالمية عام
الاستفادة من الانقسامات المناطقية والقيمية
أوضحت نتائج الانتخابات وجود حالةٍ من الاستقطاب والانقسام الشديدين في القيم والاهتمامات والمصالح والتوجهات بين سكان المدن الكبرى من جهة وسكان الأرياف أو البلدات الصغيرة (small towns) من جهة أخرى، وبين سكان ولايات الساحلين الشرقي والغربي الأغنى والأكثر انفتاحًا على العالم من ناحية، وسكان المناطق الداخلية، خصوصاً ما يسمى "الغرب الأوسط" من ناحية أخرى، وبين مجتمع متحرّر اجتماعياً نجح في فرض قوانين حول الإجهاض وزواج المثليين، ومجتمع محافظ يرفض بشدة كل هذه التوجهات. وقد استفاد ترامب من هذا الانقسام، بحيث تمكّن من حصد أصوات أكثر الولايات الواقعة بين الساحلين الشرقي والغربي.
تصويت احتجاجي ضد كلينتون والمؤسسة
جاء التصويت لترامب بمنزلة تصويت احتجاجيٍّ ضد ما تسمى، في واشنطن، مؤسسة الحكم ونخب الساحل الشرقي (واشنطن ونيويورك) التي انفصلت عن قواعدها وجمهورها، وغرقت في قضايا الفساد المالي والسياسي، كما يتهمها ترامب. وكان الممثل الأول لهذا الاحتجاج بيرني ساندرز مرشح الحزب الديمقراطي الذي خسر الترشيح. وبات مؤكدًا أنّ جزءًا من أنصار بيرني ساندرز رفض التصويت لكلينتون، بصفته إجراء احتجاجيًا على خسارة مرشحهم الانتخابات التمهيدية في الحزب الديموقراطي، ولأن كلينتون تمثّل ما يحتجون ضده. وهكذا، فقد خسرت كلينتون قسمًا من أصوات هؤلاء الذين إمّا عزفوا عن التصويت أو صوّتوا بورقة بيضاء، في حين تمكّن ترامب، في حالات أخرى، من استقطاب شرائح منهم بعد أن أقنعهم، وأكثرهم من الفئات الشعبية والعمالية، بقدرته على تمثيل مصالح.
من جهةٍ ثانيةٍ، بدا أنّ هناك حالة من الملل والتعب من نحو ربع قرن من سياسات آل كلينتون ووجودهم تحت الأضواء (في البيت الأبيض بين 1992 و1998، ثمّ خدمة هيلاري كلينتون بصفة سيناتور عن ولاية نيويورك من 2000 إلى 2008، ثمّ وزيرة خارجية في عهد أوباما، ثمّ مرشحة رئاسية أخيرًا). فضلًا عن وجود اعتقاد واسع بأنّ آل كلينتون جنوا ثرواتٍ طائلةً، ويتصفون بعدم الصدقية واللامسوؤلية، خصوصاً في ظل تحقيقات في تهم وجهت إلى هيلاري كلينتون، منها استخدام بريدها الشخصي غير المحمي لمراسلاتٍ سرية، عندما كانت وزيرة للخارجية، وتحميلها مسؤولية الإهمال في قضية مقتل السفير الأميركي في بنغازي في سبتمبر/ أيلول 2012، وغير ذلك من قضايا جاء الكشف عن بعضها، قبل أيام فقط من بدء عملية الاقتراع. وعلى الرغم من أنّ رموز الحزب الديموقراطي نزلوا إلى الميادين الانتخابية لحشد الدعم لها، بمن فيهم الرئيس باراك أوباما الذي يحظى بأكبر شعبيةٍ لرئيس أميركي في أيام ولايته الأخيرة (54%)، كما محضها الدعم كل من ميشيل أوباما (زوجة الرئيس) وجو بايدن نائب الرئيس، فإنّ ذلك كله لم يجدِ على ما ظهر نفعًا.
خطاب ترامب
بدا خطاب ترامب للنخب المثقفة بسيطًا ومسطحًا واستفزازيًا، ولكنه كان مدروسًا ليخاطب
ثمّة مفارقة سوسيولوجية غريبة، متجسّدة في مسألة الثقافة السياسية، فالغني البليونير يبدو لسكان الأرياف والمناطق العمالية الصناعية غير نخبوي، لمجرّد أنه يتبنى خطابًا شعبيًا، والطبقات الوسطى الليبرالية في المدن تبدو أكثر نخبويةً، وأبعد من ترامب عنهم مسافات بسبب الأفكار والقيم، حتى لو كانت أقرب طبقيًا في مصالحها.
محاولات ترامب الظهور بمظهر الضحية
نجح ترامب في الظهور بمظهر الضحية، بعد استهدافه بسلسلة من الفضائح المالية والأخلاقية، يعود بعضها إلى سنواتٍ طويلة مضت. كما أنّ وقوف المؤسسات الإعلامية الكبرى في أميركا (mainstream media)، مثل صحيفتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست ومحطات تلفزية على المستوى القومي مثل سي. إن. إن، ضد ترشح ترامب وانتخابه عزّز الانطباع الذي حاول رسمه عن نفسه بأنه ضحية "مؤامرة ليبرالية" لإسقاطه. وهو ما حاول أن يعزّزه بادعائه وجود محاولاتٍ لتزوير الانتخابات للحيلولة دون وصوله إلى الرئاسة. وحدا هذا الأمر أيضًا بالحزب الجمهوري، في الأسابيع الأخيرة من الحملة الانتخابية، إلى الإلقاء بثقله وراء ترامب، بعد أن كان تخلى عنه رموزٌ في الحزب وقادة كبار فيه، ما مكّنه من الفوز بأصوات نحو 30% من الناخبين من أصولٍ لاتينية في فلوريدا. تمّ ذلك بسبب الماكينة الانتخابية الجمهورية، وتحديدًا الحملة الانتخابية للسيناتور ماركو روبيو الذي كان ترامب قد أزاحه في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري. وقد أسهم ذلك في تمكين ترامب من الحصول على أصوات الولاية الـ (29) بعد أن نجح في تجاوز المشاعر المعادية لخطابه بشأن المهاجرين، وتهديداته بترحيل الملايين منهم، والقادمين، في أغلبهم، من دول أميركا اللاتينية.
المرشح غاري جونسون
ربما أسهم وجود مرشح ثالث، هو غاري جونسون، في الانتخابات في فوز ترامب في بعض
خاتمة
قد تكون أسباب عديدة أخرى أسهمت في وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وإلحاق هزيمة كبرى بالمرشحة التي كانت تعدّ، حتى أسابيع قليلة، فائزًا حتميًا في انتخابات 8 نوفمبر/ تشرين الثاني الرئاسية، ومن ثمّ تحقيق مفاجأة. إنّما في المحصلة جاءت النتائج متوافقة مع ميلٍ تاريخي في النظام السياسي الأميركي، يبيّن أنه نادرًا ما تمكّن حزب السلطة من الاستمرار في الحكم أكثر من دورتين انتخابيتين، حتى يتخذ الشعب قراره بضرورة حصول تغييرٍ وتجريبٍ لنهج رئاسي جديد. قد يتمكّن ترامب، خلال السنتين المقبلتين، من الحكم مرتاحًا نتيجة استمرار سيطرة حزبه على مجلسي الشيوخ والنواب، لكن سيكون عليه أولًا أن يتعامل مع تبعات الحملة الانتخابية المريرة التي بيّنت وجود انقساماتٍ تكاد تكون غير مسبوقة في المجتمع الأميركي. فحتى الديموقراطيات العريقة، يمكن أن تتعرّض لتصدّعات كبرى، وترتكس ممارساتها الديمقراطية، إذا تركت الشقوق التي يتعرّض لها النظام تتسع، والفجوات تكبر بطريقةٍ قد تؤدي إلى الانهيار. قد لا يجد "الديماغوجي" مشكلةً في اتباع سياسةٍ غير الخطاب الذي صمم لكسب الأصوات، لكن الطاقم الذي سيعيّنه للعمل معه سيمثّل أحد المؤشرات المهمة على نوع السياسات التي سوف يتبعها.