لا يمكن للانتقادات الكثيرة الموجّهة إلى رئيسة البرازيل، التي أعيد انتخابها الأحد الماضي، لولاية رئاسية جديدة، ديلما روسيف، على خلفيّة أداء حكومتها الاقتصادي والسياسات الخاطئة التي اتبعتها خلال الأعوام الأربعة الماضية، أن تحجب تاريخ هذه المرأة الحديدية العنيدة، التي وإن كانت لا تجيد فنّ الخطابة والدبلوماسيّة، لا يمكن انكار سجّلها النضالي الحافل على أكثر من مستوى واسهامها في استمرار مسيرة حزب العمال في الحكم للسنوات الأربع المقبلة.
وإذا كان المراقبون يصفون خصم روسيف في دورة الانتخابات الأولى، الناشطة البيئيّة مارينا سيلفا، بأنّها "لولا بثياب امراة"، للدلالة على تحدّرها من أسرة فقيرة وقربها من القواعد الشعبيّة، على غرار عرّاب حزب العمال، الرئيس البرازيلي الأسبق ايناسيو لولا دا سيلفا، فإنّ كثيرين يشبّهونها بالمستشارة الأميركيّة أنجيلا ميركل، لناحية إصرارها على مواقفها، عدا عن جرأتها في تأنيب الوزراء علناً، وإظهار نوبات غضبها.
وفي مؤتمر صحافي، تقول روسيف عن نفسها ممازحة: "أنا في حكومة وفي بلد لا يتحمّل فيه أي رجل وزر مواقفه. انا المرأة الفظّة الوحيدة في البرازيل ومحاطة برجال يتمتّعون بلباقة".
ويُعرف عن روسيف شجاعتها وصلابتها في مواجهة كل الصعوبات التي عاشتها خلال مسيرتها النضاليّة والسياسيّة، إذ تعرّضت لأبشع أنواع التعذيب إبان النظام العسكري الديكتاتوري، حين اعتقلت عام 1970 وحكم عليها بالسجن ست سنوات، قبل أن يُفرج عنها نهاية عام 1972، على خلفيّة نشاطها في منظمات سريّة في صفوف حركة المقاومة المسلّحة.
وعلى الرغم من أنّ روسيف تتجنّب الحديث عن تفاصيل وظروف اعتقالها، والتي لم تدفعها إلى تغيير قناعاتها، فإنها لم تتأخّر بعد احتجاجات شعبيّة في مدن برازيليّة عدة، تزامناً مع افتتاح مونديال 2014، وشتائم عدّة تلقتها من المعتصمين في ساوباولو بالقول: "واجهت في حياتي عدداً من أصعب الأوضاع واعتداءات جسديّة تتجاوز حدّ الاحتمال، لكن لم يغيّر شيء قناعاتي وتوجّهاتي". وفي الخطاب الأول الذي ألقته بعد انتخابها رئيسة للبرازيل في شهر يناير/ كانون الثاني 2011، قالت روسيف إنّ "الحياة تتطلّب منا الشجاعة".
وتًعدّ رئيسة البرازيل، التي فازت الأحد الماضي، بفارق ضئيل عن خصمها الاجتماعي الديمقراطي إيسيو نيفيز، التلميذة النجيبة للرئيس الأسبق لولا دا سيلفا، والذي يعود الفضل إليه في تحويلها، بين ليلة وضحاها من ناشطة حزبيّة مغمورة إلى رئيسة للبرازيل، علماً أنّها كانت المرأة الأولى التي تشغل منصباً مماثلاً. وأظهرت روسيف، خلال فترة الحملات الانتخابيّة، رباطة جأش وتصميم على الفوز، في ظلّ إدراكها لتراجع شعبيّتها، وهو ما أكّدته بطبيعة الحال نتائج الانتخابات. فلم تترك لخصومها تسجيل الكثير من النقاط عليها، وتمكّنت من ردّ الصاع صاعين، لترفع استطلاعات الرأي لصالحها، كلما تقدّم أخصامها عليها.
بعد تقدّم أحرزته المرشحة والناشطة البيئية الشرسة مارينا سيلفا، وفق نتائج استطلاعات الرأي التي سبقت دورة الانتخابات الأولى، في السادس من الشهر الحالي، والتي حملت كثيراً على أداء روسيف الاقتصادي واحتكار السلطة من قبل الأحزاب التقليديّة، شنّت الأخيرة حملة إعلامية معاكسة. ولم تتردّد في التصويب عليها، من خلال انتقاد تنقّلها من حزب لآخر، أي من صفوف العمال مروراً بحزب الخضر، وصولاً إلى الحزب الاشتراكي البرازيلي الذي تبنى ترشيحها للرئاسة، بعد وفاة رئيسه إدواردو كامبوس، بتحطّم طائرته.
وفي الفترة الفاصلة عن دورة الانتخاب الثانية، في السادس والعشرين من الشهر الحالي، ومع ارتفاع أسهم نيفيز الانتخابيّة وتمكّنه من التفوّق عليها في استطلاعات الرأي، من خلال تصويبه على فضيحة شركة "بتروبراز" النفطيّة العملاقة المملوكة من الدولة والاتهامات بتورّط فريقها الحكومي وحزب العمال فيها، اتبعت روسيف التكتيك ذاته. شنّت حملة معاكسة، مؤكدة التزامها باستكمال التحقيقات ومحاسبة المتورطين، وربطت في الوقت ذاته تباطؤ الاقتصاد بعوامل خارجيّة عالميّة. ولم يتوقّف هجوم روسيف عند هذا الحدّ، إذ نعتت خصمها، خلال مناظرة تلفزيونيّة قبل أيام من موعد الانتخابات، بـ"زير النساء"، الذي يتسكّع مع النساء نهاراً، ويثمل مساء، مذكرة إياه بحادثة توقيفه قبل سنوات، وهو يقود سيارته تحت تأثير الكحول.
وتعكس مواقف روسيف هذه، صلابتها في مواجهة التحديات، وثقتها الزائدة بنفسها وبقدراتها، عدا عن معرفتها ومتابعتها الحثيثة لكل الملفات، ما يجعل أسلحتها وأجوبتها حاضرة دوماً. ويُنقل عن لولا، الرئيس البرازيلي الأسبق، الذي فرضها عام 2009 كمرشحة لحزب العمال، على الرغم من أنها لم تكن تُعد شخصيّة قياديّة في حزب العمال، إشارته إلى أنّ "خصالها السياسيّة والاداريّة أقنعته بأنّها أفضل المرشحين لخلافته". ويستعيد لدى اختياره إياها لتولّي حقيبة الطاقة في حكومته الأولى (2002 ــ 2005)، وصولها للاجتماع به، بقوله: "وصلت ومعها حاسوبها الصغير. وبدأنا نتناقش وشعرت بأنّ لديها شيئاً مختلفاً".
وعلى الرغم من قوّة شخصيتها وطباعها الصعبة، وهي التي خاضت تجربتي زواج ولديها ابنة واحدة، تحاول روسيف مجاراة الشاشة ومتطلباتها، لتحسين صورتها لدى البرازيليين. ولم تتردد في اجراء عمليات تجميل عدّة جعلتها أكثر شباباً، عدا عن تخليها عن نظارتها التي كانت تجعلها أشبه بناظرة المدرسة، القاسية الطباع. وكسبت روسيف مزيداً من التعاطف الشعبي معها بعد اعلان اصابتها العام الماضي، بمرض السرطان، الذي أعلن الأطباء شفاءها منه في وقت لاحق.
وفي حين يتوقف محللون برازيليون عند الفارق الضئيل في الأصوات بين روسيف ونيفيز، وهو الفوز الأول بهذا الفارق الضئيل منذ أول انتخابات رئاسية جرت بالاقتراع المباشر عام 1989 بعد الحكم العسكري (1969-1985) في البرازيل، وفاز فيها فيرنادو كولور على لولا دا سيلفا، فإنّ روسيف تدرك حجم التحديات التي تنتظرها. وتعرف جيداً أنّ مهماتها للسنوات الأربع المقبلة، لن تكون سهلة، مع اعتراض نصف الشعب البرازيلي على استمرارها برئاسة البلاد، وهو ما دفعها في خطاب الفوز الأول إلى المسارعة لدعوة البرازيليين إلى الوحدة والسلام، وابداء استعدادها للحوار، الذي جعلته "الالتزام الأول في ولايتها الرئاسيّة الثانية"، مؤكدة في الوقت ذاته، عزمها على القيام بإصلاحات سياسيّة ومحاربة الفساد المستشري في مجالات عدّة.
تؤمن بالخرافات وتعشق الدراجات
ولدت روسيف في كانون الأول/ديسمبر عام 1947 في ولاية ميناس جيرايس لأب بلغاري مهاجر وأم برازيلية. وبعد نضالها في صفوف حركة المقاومة المسلحة في أوجّ الدكتاتورية في البرازيل، ساهمت عام 1980 في اعادة تأسيس الحزب الديموقراطي العمالي قبل انضمامها إلى حزب العمال عام 1986. ويُعرف عنها إيمانها بالخرافات واعتيادها على القراءة يومياً قبل خلودها إلى النوم، إضافة إلى عشقها لقيادة الدراجات النارية خلال نزهات ليليّة.