في 26 مايو/ أيار 2011، تقف ديمي منت آبا وتغني في حفلة في مدينة العيون المغربية. وفجأة، تسقط مغشياً عليها، وتنقل إلى المستشفى وتخضع لعملية في الرأس لفتح أحد الشرايين، لتدخل على أثرها في غيبوبة.
ذات مرة، قبل هذا التاريخ بسنوات، كنت أبحث عمّن غنوا "قل للمليحة" غير صباح فخري، فعثرت على نسخة كُتب بجانبها "ديمي منت آبا". بدا لي وكأني اكتشفت بئراً في صحراء قاحلة، صوت آتٍ من أعماق بعيدة، يتوغل في الروح. تستمع بهذه الأغنية إلى شكل جديد، بعيد عن الموسيقى الشرقية، وطريقة الغناء النمطية. يصبح الأداء له خصوصيته، خصوصية المكان القادم منه الصوت، من داخل بلد بعيد عنا، وليس لنا معها أي ذكريات، من موريتانيا.
شجرة من الأغاني
لعلّ ديمي منت آبا إحدى أهم مطربات موريتانيا. ولدت يوم 25 ديسمبر/ كانون الأول من عام 1958، داخل أسرة فنية؛ فوالدها، سيمالي ولد همد، يعتبر عميد الفن الموريتاني، وهو صاحب النشيد الوطني القديم للبلاد. أما أمها، منينة منت أيدة، فهي مطربة أيضاً. هكذا، تشرّبت ديمي الغناء والموسيقى منذ طفولتها، وبدأت الغناء في سن صغيرة، وتزوجت من الفنان سيمالي ولد همد، وهي صغيرة أيضاً. كان ولد همد، بالنسبة إليها، مدرسة فنية تعلمت منها الكثير في الغناء والموسيقى، وبدأت أغانيها تُبثّ في الإذاعة، وغنت للبلاد وقت حرب الصحراء التي كانت تشارك فيها موريتانيا.
إلى جانب الغناء، كانت ديمي تعزف على آلات مخصّصة للنساء في بلادها، هي التيدنيت، وأردين، إضافة إلى بعض الآلات الإيقاعية. كلها آلات موسيقية تصنع عالماً جديداً للأذن الشرقية. إلّا أن صوت ديمي، طبعاً، يشعر المُصغي بأنه يحمل الكثير من أسرار مكان لا يعرفه؛ طبقاته الحادة والمرتفعة، أصوات النساء المرددة وراءها، كلّها عناصر تجعل من صوت ديمي وطناً يختبئ في حبالها الصوتية.
بأغنيتها، "صوت الفن"، (كلمات الشاعر أحمدو ولد عبد القادر ولحن زوجها سيمالي)، أحرزت الفنانة المركز الأول في مهرجان أم كلثوم للفن في تونس عام 1977. الأغنية وضّحت حقاً إمكانيات ديمي الصوتية في الغناء والتنقل بين طبقات الصوت المختلفة، إلى جانب اللحن المبدع الذي صنعه زوجها، والنقلات التي احتواها اللحن. كل ذلك جعل ديمي تعلن عن نفسها بقوة، وأنها من هذا اليوم وحتى الآن أصبحت سفيرةً للموسيقى الموريتانية في العالم.
طوال تجربتها الفنية، كانت ديمي، غالباً، تعمل عبر ثنائي فني؛ فبعد مرحلة سيمالي، المرحلة التأسيسية والمهمة، جاءت مرحلة الثمانينيات، وعصرها الذهبي مع المطرب سدوم، وقدّمت معه أغاني كثيرة، مثل "عيد المولود"، و"الحزام الأخضر"، و"الغرام والبهتان"، وغيرها الكثير من الأغاني والألبومات التي حققت نجاحاً كبيراً وحفرت اسمها في تاريخ الموسيقى الموريتانية. استطاعت ديمي نقل الغناء النسائي إلى خارج البلاد، مع المحافظة عليه وتأكيد هويتها الفنية.
خارج حدود موريتانيا
كانت المرحلة الثالثة لديمي مع زوجها الثاني وابن خالتها، الخليفة ولد إيدة؛ فقدّما ألبوماً من أبرز الألبومات التي قُدمت، ليس في تاريخ ديمي والخليفة فحسب، إنما في تاريخ الموسيقى الموريتانية. سُجل الألبوم بمتابعة وإشراف الفنان المالي علي فاركا تورى. كان صوت ديمي قد وصل إلى قمة النضج والإبداع. كانت أغنية "قل للمليحة" في ذلك الألبوم تحت اسم "Yar Allahoo". يكفي أن نستمع إلى هذا الألبوم لنقع في غرام الموسيقى الموريتانية، ونبدأ رحلة بحث عن مطربيها وأغانيها التراثية. لم تكتف ديمي بالغناء للوطن، كما في أغنية "يا موريتان عليك أمبارك الاستقلال" و"موريتانيا هي وطني" و"شوفوا الحكومة جات"، غنت أيضاً للسلام، والقضايا العربية والإنسانية، مثل القضية الفلسطينية.
في مقابلة أجرتها مع وكالة أنباء الأخبار الموريتانية، وأغلب الظن أنها كانت الأخيرة لها، قالت ديمي إنها أول من غنى لفلسطين في موريتانيا، وإن القضية الفلسطينية تركت في نفسها صدمة كبيرة: "جعلتني لا أستطيع مشاهدة التلفاز حتى الآن، خوفاً من التأثر النفسي الكبير الذي تسببه لي رؤية أهلي وإخوتي وهم ينكل بهم على مرأى ومسمع من الجميع". وفي المقابلة نفسها، أشارت، أيضاً، إلى أن احتلال العراق جعل "القضية قضيتين، وأثقل ذلك من همومي تجاه هذه القضايا التي يتأثر لها غير المسلم فما بالك بي وأنا العربية المسلمة".
أنا من حلب
في السبعينيات، جاء الملحن السوري الحلبي فريد حسن إلى موريتانيا. هناك، جذبته البلاد وسحرها، وقدم ألحاناً كثيرة لمطربين ومطربات من موريتانيا؛ كانت على رأسهم ديمي منت آبا، فامتزجت الموسيقى الموريتانية بالطابع الشرقي، وقدم لها عدة ألحان كان أشهرها: "كرسك يا غلان"، وأغنية "أنت موريتانية وأنا من حلب" التي أدّياها في شكل دويتو، ويحكي حسن عن ديمي أنه من الصعب أن تقدم موريتانيا فنانة مثل ديمي أكان على المستوى الفني أو على المستوى الإنساني.
في حفل عيد الاستقلال عام 2010، وقفت ديمي تغني في قصر الرئاسة بمناسبة الذكرى الخمسين، وفي وسط الأجواء المفرحة، بكت وهي تغني، ربما شعرت بأنها أتمت رسالتها على أكمل وجه، لكن الأكيد أنه كان آخر عيد استقلال تشهده ديمي... هكذا، إلى أن جاء عام 2011، حين سقطت على المسرح وهي تغنّي. دخلت ديمي في غيبوبة استمرّت لمدة عشرة أيام. وفي الرابع من يونيو/ حزيران لعام 2011، رحلت عنا بعدما حفرت اسمها في تاريخ الموسيقى الموريتانية، وتركت وراءها أغاني خالدة، وصوتاً يحمل ذاكرة المكان والناس. لعلّ مشهداً لافتاً لها يمكن لنا أن نواظب على مشاهدته، ونتذكّرها من خلاله، هو غناؤها مع سدوم وهي جالسة، وترقص بكل خفة وبهجة وجمال.