دشّن الفنان الأميركي جيف كونز أخيراً عمله "باقة التوليب" التي أهداها إلى ضحايا الهجمات الإرهابيّة في باريس، إذ تنتصب الباقة/ المنحوتة مواجهةً "القصر الصغير" في العاصمة الفرنسيّة، بطول 12 متراً وارتفاع ثمانية أمتار، وبوزن 34 طناً. المنحوتة تمثل يداً تحمل 11 زهرة توليب برونزيّة. يشير كونز إلى أنها إحالة إلى يد تمثال الحرية التي تحمل شعلة، فالمنحوتة تمثّل علامة على الصداقة بين البلدين، أميركا وفرنسا، أما الزهور فهي دلالة على التفاؤل والولادة واستمرار الحياة. كما شرح يوم التدشين أن سبب اختيار 11 زهرة لا 12 كما هي حالة الباقات التقليدية، هو الإشارة إلى الخسارة، فالزهرة الناقصة تدلّ على كل من فقد حبيباً أو قريباً في الهجمات الإرهابيّة.
لم تتمكّن الباقة من تفادي النقد والجدل الذي استمر ثلاث سنوات، واجه فيها كونز الشخصيات الثقافية في فرنسا، إذ اشتعل نقاش حاد حول مكان النصب ومعناه ودوافع كونز من إنشائه، خصوصاً أنه يستعيد لوحة "باقة سلام" لبيكاسو التي احتضنتها باريس حين لجأ إليها هرباً من نظام فرانكو. في حين أن كونز لم يهرب من شيء، بل تحتفي به باريس دوماً، وأقيم له معرض هائل في مركز بومبيدو امتلأت إثره الساحة بكلابه المنتفخة وأعماله اللّماعة، لتبدو الباقة كمحاولة منه لإضفاء بعد سياسي على وجوده على الساحة الفنيّة الفرنسية.
جاءت المنحوتة بناء على طلب تلقاه كونز من سفير الولايات المتحدة في فرنسا عام 2016، لكن كونز أطلق حملة تبرعات وصلت قيمتها إلى 3.5 ملايين يورو من أجل إنجاز الباقة، ثم قام هو بدفع مليون دولار من ماله الخاص بسبب التأخير، أي أنه لم يقدمها كهديّة، بل حوّل المشروع إلى ما يشبه حفلاً لجمع التبرعات ليتهرب عبره الأغنياء من الضرائب. في عام 2018، طالب عدد من الشخصيات الثقافية الفرنسية بعدم قبول هدية كونز حين كان من المقرر وضعها مقابل "قصر طوكيو" في باريس، وشرحوا ذلك بعدة نقاط، منها أن المنحوتة لا تشير أبداً إلى الحدث المأساوي الذي شهدته المدينة، بل هي استغلالية وسينيكيّة، كذلك لا يجوز أن يكون العمل على أساس التبرعات إن كان سيوضع في هذا المكان، كما أنه يتنافى مع تاريخ المنطقة المعماري والوطنيّ، وذلك بسبب حجمه الهائل وألوانه التي لا تنتمي إلى نسيج المكان. الأهم أن بلدية باريس حينها كانت ستدفع أجرة تدعيم الرصيف ليتحمل وزن المنحوتة، ليبدو الأمر في النهاية أن كونز لم يهدِ باريس سوى "الفكرة".
وصف كثيرون المنحوتة بأنها كيتش، ولا تتلاءم مع باريس، هي تبدو كمحاولة لإقحام كونز في تاريخ المدينة، "ولا ننتقد هنا البوب آرت أو صروحه، لكن التوليفة السياسية وسمعة كونز كلها تجعل العمل مثيراً للاستياء والغيظ"، كما أنها، حسب البعض، "أميركيّة جداً"، بمعنى أنها تعكس سلوك أغنياء يحاولون ترك بصماتهم المبتذلة في مكان لا ينتمون إليه ولا يعنيهم.
لن يستطع أحد أن يزحزح الأطنان الثلاثين من وسط باريس، لكن فناني الشارع سارعوا إلى "تخريب" المنحوتة التي تمتلكها بلديّة باريس؛ إذ قام أحدهم بكتابة "11 فتحة مؤخرة" على المنحوتة، ولم يُعرف من هو حتى الآن. لكن الأمر جدّي، إذ قامت شرطة باريس بفتح تحقيق بالموضوع بحجة "تخريب الممتلكات العامة عبر الوسم"، كما سارعت البلديّة إلى إرسال فريق لتنظيف المنحوتة وصيانتها.
لا يمكن بدقة أن نفهم موقف بلدية باريس، ولا أن ندافع عنه، خصوصاً أن سياسات فرنسا الثقافية أخيراً حولت كل ما هو فرنسي إلى "علامة تجاريّة" يمكن بيعها وشراؤها من قبل من يمتلك النقود، لكن ترسيخ صرح كهذا على المستوى الفنيّ، يفتح باباً جديداً أمام سوق الفن الحالي وقواعده لتدخل ضمن التراث الوطنيّ.
اقــرأ أيضاً
لم تتمكّن الباقة من تفادي النقد والجدل الذي استمر ثلاث سنوات، واجه فيها كونز الشخصيات الثقافية في فرنسا، إذ اشتعل نقاش حاد حول مكان النصب ومعناه ودوافع كونز من إنشائه، خصوصاً أنه يستعيد لوحة "باقة سلام" لبيكاسو التي احتضنتها باريس حين لجأ إليها هرباً من نظام فرانكو. في حين أن كونز لم يهرب من شيء، بل تحتفي به باريس دوماً، وأقيم له معرض هائل في مركز بومبيدو امتلأت إثره الساحة بكلابه المنتفخة وأعماله اللّماعة، لتبدو الباقة كمحاولة منه لإضفاء بعد سياسي على وجوده على الساحة الفنيّة الفرنسية.
جاءت المنحوتة بناء على طلب تلقاه كونز من سفير الولايات المتحدة في فرنسا عام 2016، لكن كونز أطلق حملة تبرعات وصلت قيمتها إلى 3.5 ملايين يورو من أجل إنجاز الباقة، ثم قام هو بدفع مليون دولار من ماله الخاص بسبب التأخير، أي أنه لم يقدمها كهديّة، بل حوّل المشروع إلى ما يشبه حفلاً لجمع التبرعات ليتهرب عبره الأغنياء من الضرائب. في عام 2018، طالب عدد من الشخصيات الثقافية الفرنسية بعدم قبول هدية كونز حين كان من المقرر وضعها مقابل "قصر طوكيو" في باريس، وشرحوا ذلك بعدة نقاط، منها أن المنحوتة لا تشير أبداً إلى الحدث المأساوي الذي شهدته المدينة، بل هي استغلالية وسينيكيّة، كذلك لا يجوز أن يكون العمل على أساس التبرعات إن كان سيوضع في هذا المكان، كما أنه يتنافى مع تاريخ المنطقة المعماري والوطنيّ، وذلك بسبب حجمه الهائل وألوانه التي لا تنتمي إلى نسيج المكان. الأهم أن بلدية باريس حينها كانت ستدفع أجرة تدعيم الرصيف ليتحمل وزن المنحوتة، ليبدو الأمر في النهاية أن كونز لم يهدِ باريس سوى "الفكرة".
وصف كثيرون المنحوتة بأنها كيتش، ولا تتلاءم مع باريس، هي تبدو كمحاولة لإقحام كونز في تاريخ المدينة، "ولا ننتقد هنا البوب آرت أو صروحه، لكن التوليفة السياسية وسمعة كونز كلها تجعل العمل مثيراً للاستياء والغيظ"، كما أنها، حسب البعض، "أميركيّة جداً"، بمعنى أنها تعكس سلوك أغنياء يحاولون ترك بصماتهم المبتذلة في مكان لا ينتمون إليه ولا يعنيهم.
لن يستطع أحد أن يزحزح الأطنان الثلاثين من وسط باريس، لكن فناني الشارع سارعوا إلى "تخريب" المنحوتة التي تمتلكها بلديّة باريس؛ إذ قام أحدهم بكتابة "11 فتحة مؤخرة" على المنحوتة، ولم يُعرف من هو حتى الآن. لكن الأمر جدّي، إذ قامت شرطة باريس بفتح تحقيق بالموضوع بحجة "تخريب الممتلكات العامة عبر الوسم"، كما سارعت البلديّة إلى إرسال فريق لتنظيف المنحوتة وصيانتها.
لا يمكن بدقة أن نفهم موقف بلدية باريس، ولا أن ندافع عنه، خصوصاً أن سياسات فرنسا الثقافية أخيراً حولت كل ما هو فرنسي إلى "علامة تجاريّة" يمكن بيعها وشراؤها من قبل من يمتلك النقود، لكن ترسيخ صرح كهذا على المستوى الفنيّ، يفتح باباً جديداً أمام سوق الفن الحالي وقواعده لتدخل ضمن التراث الوطنيّ.
أي تحول الكيتش والمروجين له إلى رجال سياسية ينفون الجدية عن بعض المساحات التاريخيّة وخصائصها الجماليّة، لكن يمكن أيضاً أن نرى في هذه الباقة محاولة لنفي الجدية عن الفن بأكمله، وكشف أسلوب ترسيخه وإدراجه ضمن التراث الوطني، أي أن المهارة ليست المعيار بل الشهرة والحدث السياسي ومجموعة القوى التي تحيط بالفنان، فلا اختلاف إذاً بين فنان من المعلمين وآخر من المعاصرين، فكلهم على تفاوت مهاراتهم يخضعون للقوى السياسية والثقافة ذاتها.