تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، السابع والعشرون من تمّوز/ يوليو، ذكرى ميلاد الشاعر اللبناني أنسي الحاج (1937 - 2014).
في عام 1960، أحدث أنسي الحاج جدلاً واسعاً في المشهد الشعري العربي مع طروحاته التي وضعها في مقدمة ديوان "لن"، حين كتب "هل يمكن أن نخرج من النثر قصيدة؟ أجل، فالنظم ليس هو الفرق الحقيقي بين النثر والشعر. لقد قدمت جميع التراثات الحية شعرا عظيما في النثر، ولا تزال. وما دام الشعر لا يعرف بالوزن والقافية، فليس ما يمنع أن يتألف من النثر شعر، ومن شعر النثر قصيدة نثر".
وبالرغم من الاختلاف الذي لا يزال مستمراً حول نشأة قصيدة النثر العربية، ظلّت تنظيرات الشاعر اللبناني (1937 – 2014)، واحدة من أهم المرجعيات التي رأى فيها أننا "نكتب لنقطع مرحلة، وما نكتبه يطوى، يحرق، ما لم نكتبه ولم نعرفه ولم نغص بعد فيه، هو الهم. يجب أن أقول أيضاً إن قصيدة النثر- وهذا إيمان شخصي قد يبدو اعتباطيا- عمل شاعر ملعون. الملعون في جسده ووجدانه الملعون يضيق بعالم نقي..".
لم تكن تلك المقولات منفصلة عن ممارسة شعرية استثنائية تميّزها اللغة بشكل خاص، حيث أتت نصوصه متأثرة بشكل كبير بموروث مستمدّ من بلاغة العهد الجديد، والتي تصفها الكاتبة العراقية فاطمة المحسن بقولها "صوفية الحاج بمعظمها حسّية، ولكنها مسكونة بالروحانيات".
صوفية الحاج بمعظمها حسّية، ولكنها مسكونة بالروحانيات
ولد الراحل في بيروت، وبدأ كتابة مقالات حول الموسيقي في سنّ مبكرة في الصحافة المحلية، ومنذ عام 1956 انتظم في العمل الصحافي وفي نشر قصائده الأولى، ومنذ عام 1964 بدأ يكتب المقال، وجاءت مقالاته مغايرة لما ألفته الصحافة الثقافة العربية آنذاك، مواصلاً كتابته حتى رحيله، إلى جانب مقالاته النقدية السجالية التي نشرها في مجلتي "شعر" و"حوار" في الفترة نفسها.
مع ديوانه الأول "لن" (1960)، قدّم الحاج مشروعه الشعري المستند إلى رؤية حداثوية تجاه النثر العربي، ليواصل اشتغاله في هذا السياق عبر دواوينه اللاحقة "الرأس المقطوع" (1963)، "ماضي الأيام الآتية" (1965) و"ماذا صنعتَ بالذهب ماذا فعلتَ بالوردة" (1970)، و"الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" (1975).
ترجم صاحب "الوليمة" (1994) نصوصاً لأبرز الكتّاب المسرحيين الغربيين، منها "كوميديا الأخطاء" لشكسبير، و"الملك ينازع" ليونيسكو، والعادلون" لكامو، و"الآنسة جولي" لستريندبرغ.
بعد صمته الشعري الطويل خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990)، أصدر الحاج شذراته في مجموعة"خواتم" التي نُشرت في مجلدَين (1991 و1997)، التي تمثّل خلاصة رؤيته الفلسفية للحب والحياة والشعر.
في قصيدته "قل، ماذا رأيت؟"، يكتب:
قل، ماذا رأيت؟
طباعة مفضلتي
لامرأةٍ عينان عاليتان عميقتان، تشرفان عليّ وتستأصلانني.
لامرأةٍ عينان رأيت الأشرعة وما رأيت مثلهما.
لامرأة عينان مشرقتان غائبتان، تقولان الرمل والدخان، تقولان الحلم ودماره.
لامرأة عينان أصغيتُ إلى الاعترافات، وما سمعت عنهما.
لامرأة عيناها.
لامرأةٍ عينان بحريتان بريتان، تتنزه بهما دون انتباه على شوار الحب، وكل ما تقع عليه عيناها يسقط دون انتباه في البداية.
لامرأةٍ عينان طاهرتان قاتلتان حافيتان على رؤوس الغمائم..