تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الثاني عشر من تمّوز/ يوليو، ذكرى ميلاد الشاعر التشيلي بابلو نيرودا (1904 - 1973).
حظي بابلو نيرودا بسمعة أدبية جيدة منذ كان على مقاعد الدراسة الجامعية، ليقدّمه أحد الزملاء الأرستقراطيين إلى وزير الخارجية، حيث قرأ الأخير قصائده وعرض عليه وظيفة بإحدى سفارات بلاده في آسيا، وحينها خلع قبعته التي كانت تخفي هزال وجهه بسبب فقره الشديد، واستقلّ سفينة متوّجهة إلى ميانمار سنة 1927.
في رانغون ثم كولمبو، انحاز الشاعر التشيلي (1904 – 1973) الذي تحلّ ذكرى ميلاده اليوم الأحد، إلى الشعوب الآسيوية التي كانت تعاني من الاحتلال والتجويع، وهناك تسرّبت إلى شعره الرومانسي معانٍ تتعلّق بمعاناة الجماهير وتوقها نحو التحرّر.
بدأ ريكاردو إليسير نفتالي رييس باسولاتو الكتابة في سن باكرة، ولم يلق اهتماماً من والده لكنه أصّر على حلمه ونشر قصائده الأولى ما أن يبلغ السادسة عشر باسم مستعار سيلازمه حتى نهاية حياته، والذي تشير بعض الفرضيات إلى أنه تبنّيه اسم الكاتب التشيكي جان نيرودا الذي عُرف بحماسته لوطنه وكتاباته الناقدة للبرجوازية، وستنال تلك القصائد إعجاب مواطنته غابرييلا ميسترال التي كانت مديرة مدرسة آناك قبل أن تصبح أبرز شاعرة في تشيلي وأميركا اللاتينية.
توّجه خلال عقد الأربعينيات إلى كتابة قصائد بنفس ملحمي وتاريخي
في عام 1933، تمّ تعيينه قنصلاً في الأرجنتين، وهناك التقى بالشاعر الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا، الذي سيصبح صديقاً مقرباً ومدافعاً متحمساً عن شعر نيرودا، وانتقل بعدها بسنة واحدة إلى مدريد حيث التقى رافائيل ألبيرتي وميغيل هيرنانديز وآخرين، وبات منخرطاً في السياسة بشكل أكبر، ومقّرباً من الحزب الشيوعي الإسباني، ومع اندلاع الحرب الأهلية (1936 – 1939) سافر من وإلى إسبانيا لجمع الأموال وحشد الدعم السياسي للجمهوريين.
مع خسارة اليسار العالمي المعركة ضدّ الجنرال فرانكو، تعمّقت قناعة نيرودا أكثر بالنضال من أجل العدالة الاجتماعية والديمقراطية في مواجهة الإمبريالية وسعيها المحموم للهيمنة على العالم، ومع تعيينه سفيراً في باريس سنة 1940، ساعد العديد من رفاقه الإسبان المهزومين للانتقال إلى فرنسا، وتوجّه خلال عقد الأربعينيات إلى كتابة قصائد بنفس ملحمي وتاريخي محتفياً بالثقافة ما قبل الكولومبية التي سعى الاستعمار إلى طمسها في أميركا الجنوبية.
عاد صاحب "النشيد الشامل" إلى تشيلي عام 1943، وانتخب عضواً في مجلس الشيوخ عقب سنتين، وانضم رسمياً إلى الحزب الشيوعي في تلك الفترة، حيث ناصر المرشح اليساري غابرييل غونزاليس فيديلا في الانتخابات الرئاسية، لكن أعلن معارضته بعد وصوله إلى الحكم وتحوّله نحو اليمين، وبعث له رسالة مفتوحة أدت إلى طرده من مجلس الشيوخ، وفراره عبر جبال الأنديز متنقلاً بين المنافي.
في عام 1950، كتَب قصائد "الجنرال كانتو" التي امتزج فيها التاريخ مع أفكاره الأيديولوجية في خمسة عشر جزءاً تضمّ مئتين وإحدى وثلاثين قصيدة، أراد لها أن تمثّل هوية أميركو-لاتينية عبر استلهام ثقافة وأساطير القارة ورموزها خلال آلاف السنين.
عاد نيرودا إلى بلاده مرّة أخرى في لحظة كانت أعماله قد ترجمت إلى عدّة لغات ونال شهرة واسعة على مستوى العالم، حيث بنى منزله في بلدة اسلا نيغرا التي تطلّ على المحيط الهادئ، وشرع بكتابة قصائد بأسلوب جديد اعتمد فيه على البساطة والمباشرة والدقة في اختيار مفرداته وتغليبه روحاً ساخرة أحياناً، واحتوت على وصف لتفاصيل من الحياة اليومية والعديد من ذكرياته وتعليقاته على مواقف وأحداث عاشها وحكاياته الشخصية.
كان صاحب "عشرون قصيدة وحب وأغنية يأس" أحد أبرز الداعمين لحملة المرشح الشيوعي سلفادور آيندي في اننتخابات الرئاسة عام 1969، وبعد فوزه عُيّن سفيراً في باريس حيث رحل هناك سنة 1974 بعد اغتيال آيندي بأيام مصاباً بالسرطان، لكن شهادة سائقه السابق بعد أربعة عقود باغتياله عبر السمّ ستعيد أخذ عينة من رفاته وفتح تحقيق بالواقعة، حيث نفى تقرير الخبراء أن يكون السرطان سبب الوفاة.