في ذلك اليوم، أي 3 يونيو، انتظر يوسف الفاضل عند بوابة القوات البرية، بينما ذهب شقيقه علي لحماية أحد الحواجز مع عدد من الشبان. وعند الخامسة والربع صباحاً بالتوقيت المحلي، بدأ الأخير في بثّ مباشر عبر صفحته على موقع "فيسبوك"، منادياً الثوار للعودة إلى ميدان الاعتصام لأن هناك محاولة لفضّه.
يقول يوسف، في حديث مع "العربي الجديد"، إن القوات بدأت هجومها على المعتصمين بوحشية عند الخامسة والنصف صباحاً، فاضطر للانسحاب شرقاً من اتجاه دار الشرطة بمنطقة بري، مضيفاً "لقد حاولت الاتصال هاتفياً بشقيقي علي، لكن هاتفه كان مغلقاً، علمت في ما بعد أنه ثاني معتصم يسقط برصاص قناص أصابه برصاصة في قلبه".
ويوضح يوسف أنّه بعد ذلك بدأ رحلة البحث عن شقيقه، فوجده جثة هامدة في مستشفى المعلم، ولم يتعرّف عليه أحد قبله، مضيفاً "فقدان شقيقي كان أمراً موجعاً جداً، لكن الأكثر إيلاماً هو الإحساس بالغدر الذي تملّكنا. نحن ذهبنا للقيادة العامة من أجل أن يحمينا الجيش السوداني، لكن الجيش غدر بنا، وهذه مرارة ما بعدها مرارة، مرارة أن تموت أمام قيادة جيش وطنك ولا أحد يحميك".
ويؤكد يوسف أنّ "كل أسر الشهداء أو غالبيتها، ليس لديها أدنى اهتمام بالتحقيق الذي تقوم به سلطات المجلس العسكري ولا النيابة العامة، وليس لديها ثقة بأن يكون القتلة ومنفذو الجريمة هم جزء من العدالة". واستشهد بأحداث أخرى عديدة وقعت قبل فضّ الاعتصام تعهّد فيها المجلس العسكري بالتحقيق والقصاص للضحايا، لكن "ذهب وعده مع الريح، وستذهب وعوده مجدداً مع الريح". ويراهن يوسف فقط على التحقيق الدولي كضامن وحيد للقصاص لكل الضحايا، بمن فيهم الذين سقطوا أخيراً في مليونية الأحد الماضي، التي يؤكد أنها أعادت لهم الأمل من أجل قضيتهم وقضية الوطن الكبرى.
ووقعت حادثة فضّ الاعتصام في الثالث من يونيو الماضي، ما أدى لمقتل أكثر من 100 من المعتصمين وجرح مئات آخرين، فيما حمّلت "قوى إعلان الحرية والتغيير" المسؤولية الكاملة عما حدث للمجلس العسكري، الذي قال إنه ألقى القبض على العشرات من الضباط الذين اتهمهم بارتكاب تجاوزات في عملية فضّ الاعتصام.
وبعد الفضّ بيوم واحد، استمرت الاحتجاجات على سقوط الضحايا، لينضمّ آخرون لقائمة الضحايا، ومنهم محمد إدريس الفكي، الذي سقط في الخامس من يونيو، أوّل أيام عيد الفطر، بعدما أصابته رصاصة في العنق.
وتقول أماني إدريس الفكي، شقيقة محمد، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّها غير قادرة على نسيان أو استيعاب ما جرى بعد 30 يوماً، مشيرةً إلى أنّ "من قتلوه لم يراعوا حرمة الدماء وعظمة ذلك اليوم، يوم العيد". وتضيف أنّ أسرتها "حرّكت إجراءات قانونية لمحاسبة المرتكبين، لكنّ هذه الإجراءات لم تسفر عن تقدّم إلى الأمام قيد أنملة، لا تحري ولا استجواب ولا قبض على متهمين"، مؤكدةً إصرار الأسرة على القصاص لدم ابنها حتى ولو عبر قضاء دولي.
وفي السياق، يقول الخبير القانوني السوداني الطيب العباسي، إنّ "المجلس العسكري حاول بكل ما يملك نفي التهمة عنه، والتنصّل من المسؤولية"، مشيراً في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنّ أعضاء المجلس "أقرّوا على رؤوس الأشهاد أخيراً، بأنّ قرار فضّ الاعتصام صدر عن المجلس العسكري، وذكروا بأنّ الاجتماع الذي صدر فيه هذا القرار، شارك فيه النائب العام (الوليد سيد أحمد محمود) ورئيس القضاء، وهذا ما عاد ونفاه الأخيران". مع العلم أن محمود أقيل من منصبه بعد تكذيبه رواية المجلس العسكري.
ويوضح العباسي أنّ ما حدث "يعدّ جريمة خطيرة أقرب إلى الإبادة الجماعية، ويجب ألا يفلت مرتكبوها من العقاب"، مشيراً إلى أنّ "انتهاكات أخرى غير القتل ارتكبت أثناء فضّ الاعتصام، بما فيها الاغتصاب".
ويعتبر العباسي أنّ لجنة التحقيق التي شكّلها المجلس العسكري "غير محايدة ولا يمكن أن توفر الحقائق مطلقاً"، مؤكداً أنّ "المقترح المقدم من الوساطة الإثيوبية الأفريقية الخاص بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة بإشراف أفريقي، هي الطريقة الأنسب، وهي التي ستحصر كل من شارك في العملية، وسيحتوي تقريرها على أدلة وبيانات يمكن أن تُقدَّم للمحكمة في أي لحظة، بعد أن يتم تحديد أسماء كافة المتهمين المشاركين في الجريمة". ويلفت إلى أنّ "اللجنة المستقلّة لها معايير، وينبغي أن يشارك في عضويتها من تتوفر فيهم النزاهة والاستقامة والأمانة والاستقلالية"، مشدداً على "أهمية تمثيل أسر الضحايا في اللجنة". ويؤكد العباسي أنّ "تشكيل محاكم دولية بشأن الحادثة، يعتمد في الأساس على فشل السلطات الداخلية في محاكمة المتورطين أمام القضاء الطبيعي، إما لعدم وجود القدرة أو لعدم وجود الإرادة".