المصادفة وحدها هي التي منحتنا رأفت الميهي، ولو لم تحصل تلك المصادفة لخسرت السينما المصرية جزءاً مهماً من تاريخها.. وأحد أكثر كتابها ومخرجيها أصالة.
درس الميهي اللغة الإنجليزية في كلية الآداب، وأراد أن يكون روائياً وكاتباً للقصة القصيرة، (المصادفة) المقصودة هي قراءة المخرج سيد عيسى لإحدى قصصه القصيرة، والاتفاق معه على أن يساعده في كتابة فيلم "جفت الأمطار" في منتصف الستينيات. شراكتهما في "جفت الأمطار" خلقت تجربة مختلفة عن أي شيء آخر في تاريخ السينما المصرية، إذ تم تصوير الفيلم في قرية "بشلا"، مَوطِن المخرج، واستعان فيه بأبناء بلدته ليشاركوا في الأداء، في عمل "مستقل" إنتاجياً بشكل كامل.
لم يحقق الفيلم نجاحاً، وإن تمت إعادة اكتشافه لاحقاً، ولكن الشيء المهم هو مشاهدة المخرج كمال الشيخ له، ليلفت نظره حوار الفيلم، والأبعاد السياسية الذكية المُسرّبة في القصة، فيقرر العمل مع "الكاتب الشاب" رأفت الميهي، الذي تغيرت حياته في تلك اللحظة إلى الأبد.
المرحلة الأولى: الميهي كاتباً
الشيخ حينها كان قد انتهى من مشاكل لا حصر لها مع السلطة بسبب فيلم "ميرامار" (1969)، وأراد أن يستمر في صنع أفلام تحمل هجاء سياسيا للنظام، ولكن بشكل ذكي ومستتر، فكان الميهي ضالته. كتب له سيناريو "غروب وشروق"، عن قصة تدور قبل يوليو 52 وتدين ممارسات البوليس السياسي المصري، مع صلة وربط واضحين بما يحدث من تعذيب في العهد الناصري. كل هذا في إطار فيلم جريمة بالأساس، فيه الكثير من الحرفية والتماسك و"الدم الجديد" على السينما.. ليحقق نجاحاً كبيراً عند عرضه عام 1970 ويؤكد على موهبة استثنائية قادمة في السينما.
طيلة السبعينيات، استمرت الشراكة بين الميهي وكمال الشيخ، فقدما "شيء في صدري" عام 1971، "الهارب" ــ عن زوار الفجر ومراكز القوى ــ عام 1974، وأخيراً درة التاج الثانية "على من نطلق الرصاص" عام 1975، العمل ذو الهجاء السياسي المبكر جداً للسياسات الاقتصادية في عصر السادات، والمكتوب أيضاً بحرفية عالية حيث يحدث كل شيء على خلفية فيلم تحقيق مُتقن عن جريمة قتل.
وإلى جانب الشيخ عمل الميهي خلال السبعينيات في بعض الأفلام المهمة، التي تتميز دوماً بتماسك السيناريو وحرفية عالية في الكتابة واختلاف عن السائد في السينما حينها، فكتب "أين عقلي" إخراج عاطف سالم، "غرباء" إخراج سعد عرفة، و"الحب الذي كان" إخراج علي بدرخان. ليصبح بتلك الحصيلة أهم كاتب سيناريو مصري في السبعينيات على الإطلاق. قبل أن يقرر اتخاذ قراراً مصيرياً مهماً في مسيرته.
المرحلة الثانية: "الميهي" مخرجاً
لا يوجد توثيق واضح للسبب الذي جعل الميهي بعد نجاحه الضخم في كتابة السيناريو يقرر الاتجاه للإخراج، وهو لم يتحدث عن ذلك في حواراته، القليلة من الأصل. ولكن مع ذلك يمكننا بالنظر إلى ما قدمه بعد ذلك كمخرج أن نفهم تلك الخطوة.
بدأ الميهي المرحلة الثانية في مسيرته بفيلم "عيون لا تنام" عام 1981، عن مسرحية يوجين أونيل "رغبة تحت شجرة الدردار"، دراما حادة وعنيفة على خلفية الصراع الطبقي والاجتماعي. وكالعادة ككاتب كان الميهي قادراً على صياغة علاقات معقدة ومختلفة جداً. لكن الاكتشاف المدهش كان إمكاناته كمخرج، ووسط موجة الواقعية الجديدة في السينما التي انفجرت حينها مع أفلام محمد خان وخيري بشارة وعاطف الطيب.. بدا أن الميهي سيكون أحد أسماء الواجهة في الموجة.
ما حدث بعد ذلك كان انقلاباً عنيفاً، حين قدم عام 1983 فيلمه العظيم "الأفوكاتو"، من بطولة عادل إمام، قراءة عبثية لواقع سياسي واجتماعي لا يقل عبثاً، الشراكة المُنحطة بين مراكز القوى القديمة (رجال السياسة) ومراكز القوى الجديدة (أثرياء ما بعد الانفتاح)، ومحاولة "حسن سبانخ" بطل الفيلم التعايش والتلاعب على الأحبال بدلاً من أن "يُفعص" بينهما. فيلم مختلف جداً عن مزاج وأسلوب السينما المصرية، كان الإجابة عن "لماذا أراد الميهي أن يصبح مخرجاً؟".. لأن أحداً لا يقدم أفلاماً بهذا الشكل.
بعد ذلك أخرج فيلمه الاستثنائي "للحب قصة أخيرة"، بمزاج مختلف أيضاً عن السينما المصرية حتى لو دار على حدود الواقعية، وفي هذا الفيلم تحديداً منح الميهي للمكان (الوراق) مساحة كبرى لقيادة روح العمل بشكل كامل، ومساءلة عقائد الناس وأفكارهم وآمالهم المستمرة في عودة الغائب، عن الأمل الذي لا شفاء منه.
وكأن الميهي حينها قد أخرج كل ما بداخله من حزن وأسى ومساءلة للواقع، فمع النهاية البديعة لـ"الحب قصة أخيرة" كان قد انتهى من أفلامه الثلاثة الأعظم كمخرج، وبدأ مرحلة جديدة خاصة جداً.
المرحلة الثالثة: "الميهي" مجرباً
في تلك المرحلة، تحرر الميهي من كل القوالب المعتادة، كل ما يعرفه عن الصلة بالواقع أو الحكايات المحكمة القوية، أراد فقط أن "يلعب" و"يجرب" ويعيد اكتشاف شريط السينما بصورة مختلفة عن السائد.
تلك المرحلة تشمل أفلام "السادة الرجال" (1987) "سمك لبن تمر هندي" (1988) "سيداتي آنساتي" (1989) - وهي أقرب لثلاثية غير متصلة من بطولة محمود عبدالعزيز ومعالي زايد، ثم يكمل المسيرة بعد ست سنوات بأفلام "قليل من الحب كثير من العنف" (1995) "تفاحة" (1996) "ميت فل" (1996) "ست الستات" (1998) وأخيراً "عشان ربنا يحبك" عام 2000.
تلك الأفلام تتفاوت مستوياتها بين الجيد وصولاً للرديء، ولكن الشيء الثابت فيها هو اللعب، استخدام الفانتازيا بشكل جامح لخلق كوميديا عبثية مستمرة.
المرحلة الأخيرة: "الميهي" معلماً
بعد فشل "عشان ربنا يحبك" الذي أنتجه "الميهي" وخسر فيه الكثير من الأموال، لم تتح له فرصة الإخراج للسينما من جديد، وعوضاً عن ذلك أنشأ "أكاديمية الميهي" لتعليم فنون الفيلم، وبدا راضياً بدوره الجديد كمعلم يحاول استكشاف مواهب جديدة.
إقرأ أيضاً: جمال سليمان.. يعود لـ"حدائق الشيطان" بدون سميّة الخشاب