ولّدت النكبة الفلسطينية أدباً سياسياً عربياً سعى كتّابه، من منطلقات فكرية متعدّدة إلى سبر معناها ومعرفة أسبابها والإشارة إلى سبل كفيلة بتجاوزها. وإن كانت الحاجة الآن إلى قول متجاوز إلا أن عرضاً سريعاً لهذا الأدب السياسي، ولا سيّما الذي اشتمل على رؤية نقدية للذات أولاً، أمر ضروري، أيضاً، في سياق المراجعة النقدية لوعي النكبة ومثلاتها.
في واقع الأمر، واكبت هذه الرؤية النقدية النكبة لحظة حدوثها، واستمرت حتى يومنا هذا، بحيث يصح القول بشأنها إنها رؤية عابرة للأجيال.
تكامل الانتماءات
جاء حصاد البداية على يدي جيل من المثقفين القوميين هجس، أكثر من أي شيء آخر، بمشروع العمل الوطني والقومي، فانهمك حتى النخاع في صوغ أسس هذا المشروع ورؤاه.
حرص أبناء هذا الجيل على تحقيق مطلبين هما: أولاً، التزوّد بالثقافة التي تتعانق فيها وتتكامل الدراية الواسعة العميقة بالتراث الثقافي والحضاري العربي - الإسلامي، مع التهام شتى عطاءات العلوم والآداب والفنون الغربية القديمة والحديثة. ثانياً، الغوص في هموم مجتمعهم وأمتهم العربية والبحث عن أسباب تخلفها، والعمل بالفكر والنضال من أجل تجاوز ذلك التخلف ومن أجل توليد كيان عربي موحد وحديث ومتكامل، يرفد بعطائه الأمة العربية وسائر شعوب العالم.
وقد أصاب عزمي بشارة حين أكد أننا بتنا نفتقد هذا الجيل في الزمن الحالي "لأنه جيل جمع ما بين القومية العربية والوطنية الفلسطينية من دون أن يتنازل عن أي منهما، ولم يعش توتراً بين الانتماءين، بل على العكس عاش تكاملاً بين الانتماءين، وفي الوقت نفسه لم يكن وليد صدمة الحداثة أو الصراع بين الحداثة والأصالة، وإنما رأى، أيضاً، تكاملاً بينهما".
في ذكرى مرور 60 سنة على النكبة أصدرت مؤسسة الدراسات الفلسطينية كتاباً بعنوان "نكبة 1948: أسبابها وسبل علاجها"، وهو من الكتب المهمة في هذا المجال، ويضم كتابات أربعة من رجال الفكر العرب البارزين.
لا ضير في العودة إلى الخلف
قدّم للكتاب الباحث، وليد الخالدي، مؤكداً أنه "لا يضير العرب، في هذه الذكرى، أن يعودوا إلى الخلف ليستذكروا وقع النكبة على الآباء والأجداد الذين عاشوها وعاصروها، وليستشفوا ما أدركه أنفذهم بصيرة منهم عن حقيقة الصهيونية، وما تحمله من أخطار لا على فلسطين فحسب، بل، أيضاً، على العرب أجمعين، وليقارنوا بين هذه التوقعات وما حدث فعلاً - منذئذٍ - عسى أن يعينهم ذلك على الاستهداء على هوية عدوهم الحقيقي وسط البلبلة العارمة التي يتيه فيها وطننا اليوم".
ويشير الخالدي إلى أن أولئك الكتّاب "استحوذت نكبة 1948 على مشاعرهم وأذهانهم، فانكبوا وهم تحت وطأتها المباشرة على تصفية أفكارهم في ما يتعلق بأبعاد النكبة، وطبيعة الصهيونية وأهدافها، وأسباب هزيمة العرب، وسبل العلاج والمعالجة القريبة منها والبعيدة".
والأربعة الذين اختارهم الخالدي، هم: المؤرخ السوري قسطنطين زريق، والطبيب جورج حنا اللبناني، والمحامي السياسي موسى العلمي وعالم الرياضيات قدري حافظ طوقان الفلسطينيان.
الأول كتب "معنى النكبة" الصادر سنة 1948، والثاني كتب "طريق الخلاص" الصادر سنة 1948 أيضاً، والثالث كتب "عبرة فلسطين" الصادر سنة 1949، والرابع كتب "بعد النكبة" الصادر سنة 1950.
كان زريق أول من عمّم تسمية "النكبة" التي وصفها، أيضاً، بأنها "الهزة العنيفة" و"الخطر الأعظم" و"الأزمة الخانقة"، ووصفها جورج حنا بـ"الفاجعة الفلسطينية أو بالأحرى فاجعة العرب في فلسطين"، بينما وصفها العلمي بـ"الكارثة القومية الشديدة" وطوقان بـ"الكارثة التي حلّت بالأمة العربية في فلسطين".
تسجيل نكبات أخرى
في حقيقة الأمر، لجأ زريق إلى منهج النقد الذاتي في مقاربة النكبة، ولم يفارقه في كل كتبه اللاحقة. وفي الوقت الذي لم يتجاهل دور العوامل الخارجية وقوة العدو الذي يواجهه العرب، ركّز جهده الفكري، منذ وقت مبكر، على استكشاف مسؤولية العرب الذاتية في التخبط والتعثر الذي أصابهم إبان النكبة وفي السنوات اللاحقة.
وتمثيلاً على منهجه هذا، في مقال نشره في كانون الثاني/ يناير 1991، تعليقاً على حرب الخليج التي أعقبت قيام النظام العراقي بغزو الكويت، كتب زريق ما يلي: "في الأيام الأولى بعد حرب 1948 وقيام إسرائيل وتهجير العرب الفلسطينيين والعجز الذي بدا من الدول العربية وجيوشها، نفثت عما كان يجول في نفسي من خواطر مقلقة بكتيب دعوته: معنى النكبة.
ولعل هذا الكتيّب كان أول ما طرح هذه التسمية لتلك الهزيمة حينذاك. وحاولت فيه أن أحلل الأسباب البعيدة والقريبة لتلك الواقعة في ضوء الامتحان الداخلي والنقد الذاتي، وأن أتلمس سبل الخلاص من الضعف الذي كنا نعانيه... ثم وقعت نكبة 1967 التالية - لا "النكسة" كما أراد تصويرها بعض حكام العرب ومفكريهم - فوجدت نفسي مدفوعاً إلى إعداد كتيب آخر دعوته: معنى النكبة مجدداً، جريت فيه على مثال الكتيب الأول في محاولة تحليل الأسباب وتقويم النتائج واستخلاص العبر. وقد جاءت الآن هذه الحرب المشتعلة لتثير في نفسي التساؤل عمّا إذا كان يجب متابعة الجهدين السابقين بتحليل مشابه لهما يدعى: معنى النكبة مثلثاً".
وتابع زريق: "الواقع أن المرء إذا رصد مسيرتنا في العقود الأخيرة وجد مناسبات عدة لتسجيل نكبات أخرى وتحليلها، إذ إن هذه النوائب ليست محصورة في الحروب وهزائمها وخسائرها، بل تمتد إلى غيرها من نواحي الحياة. فثمة نكبات في شؤون الحكم، وفي العلاقات الخارجية (وأبرزها في السنوات الأخيرة خروج مصر السادات على الإجماع العربي ومصالحتها إسرائيل من دون ضمان حقوق الفلسطينيين)، وفي السياسات الاقتصادية الخاطئة المُهدرة للموارد والمعيقة للنهضة وفي "الخطط" الاجتماعية والتعليمية التي تثقل أعباءنا بدلاً من أن تخففها، وفي استشراء الفساد في كثير من وجوه حياتنا الخاصة والعامة".
الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة
تبنّى منهج النقد الذاتي هذا عدد من المفكرين العرب. غير أن أكثر من شدّد على أهمية الالتزام بمنهج النقد الذاتي، هو ياسين الحافظ، في كتابه "الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة" الصادر سنة 1979، والذي طالب فيه المثقف العربي بهجر "الوعي الامتثالي" والانتقال إلى "الوعي النقدي"، معتبراً أن الثورية الحقة هي تلك التي "ترفض تغطية عورات الواقع العربي، في جميع حيزاته ومستوياته. ترفض أن ترش على العفن العربي عطراً، وعلى الموت العربي سكراً. تسمي الأشياء بأسمائها، ترفض التهوين من حجم بلايانا العربية، ترفض تبسيط وتسطيح مشكلاتنا".
وأضاف الحافظ، أنه بات مطلوباً بعد كل الهزائم والإخفاقات التي لحقت بالعرب، "أن تنتهي عمليات التبخير الذاتي، وأن تطلق عملية نقد ذاتي صارمة تخترق المجتمع العربي (لا السطح السياسي فقط) طولاً وعرضاً وعمقاً، بلا خوف، بلا مراعاة، وبالطبع بلا تشفٍ".
لا بُدّ من أن نلفت، بين هذا الجيل أيضاً، إلى مساهمة أنيس الصايغ وأساساً عمله الدؤوب في إنجاز بحث ممأسس يعتمد الشروط العلمية الصارمة للدراسة، حتى وهو يتصدّى لدراسة العدو، ولذا فإنه تجنّب الوقوع في شراك الموروث الشعبي أو الأساطير المختلقة في هذا الشأن. وكان الصايغ يردّد أن أحد أسباب الردّة في العالم العربي يعود إلى واقع أن أساسنا الوطني القومي الوحدوي العلماني التقدمي كان أساساً عاطفياً، ولم يكن مبنياً على استعمال كامل العقل والإدراك.
طروحات عن النهضة المعاقة
من جيل المفكرين الحالي تميّزت مساهمات عزمي بشارة، الذي فتح العلاقة بين السياسة والثقافة على أفق الحوار، باعتبار ذلك شرطاً من شروط تحديث الوعي الاجتماعي، وإقراراً بأن أي مشروع سياسي هو مشروع ثقافي بامتياز. وفي ضوء ذلك ظل يحمل هاجس النهضة الثقافية، وجاء كتابه "طروحات عن النهضة المعاقة" بمثابة إنباء مدوٍّ به.
رأى بشارة أن معركة النهضة ليست معركة حرية تعبير، وإنما معركة دفاع عن العقل ضد الخرافة، عن العلم ضد الجهل، عن التجريبية ضد الغيبية، عن النقد العلمي ضد العقائدية. إن المعركة برأيه هي "الدفاع عن صحة الرأي الصحيح" لا عن "حق صاحب الرأي في التعبير عن ذاته، ولو كانوا لا يتفقون معه".
كما رأى أن معيقات النهضة هي معيقات اجتماعية ناشئة تاريخياً، وليست عربية الجوهر، مركزاً على المحاور التالية: أولاً العلاقة مع الحداثة، ذلك أن نقد الحداثة في الغرب بمصطلحات ما بعد الحداثة عادة ما يستعمل كمبرّر لعداء التحديث في مجتمعات لم تبلغ الحداثة بعد كي تقفز إلى ما بعدها، كما في حالة المجتمعات العربية. ثانياً، الغيبية في السياسة، بما في ذلك الغيبية في "صنع صورة الآخر". ثالثاً، مناقشة المتكلم هروباً من مناقشة كلامه. رابعاً، الحرية هي جوهر الفكرة الأخلاقية في التنوير. وأخيراً، أن الفكرة القومية الديمقراطية، والتي تعتبر بصمته المخصوصة أكثر شيء.
ديمقراطية الفكر القومي
يجب الإشارة هنا إلى توكيده أن الفصل بين المفهومين يجعل القومية شوفينية وسياسات هوية خاوية، كما أنّ غياب الوجهة الديمقراطية التنويرية للفكر القومي يؤدي إلى وجهة أخرى أصولية، لا تنأى عن الأصولية الدينية، من حيث نمط الوعي أو من حيث الإكثار من استثمار الخرافات والأساطير.
بيد أن بشارة لم يتوقف عند جوهر المعيقات الرئيسة للنهضة، وإنما تعدّى ذلك إلى "مسح" النماذج البشرية، التي تجسّد تلك المعيقات في الحياة والممارسة اليومية. إن تقديم هذه النماذج البشرية عادة ما يجري على قاعدة التعرية وسبر غور المكنونات، وصولاً إلى هتك الغلالة السميكة عن مسلكيات وقعت تبيئتها وظل وعينا غافلاً عنها حتى استحال إلى ما يشبه لاوعي يتحمل، بدوره، جانباً من المسؤولية عن عدم محاصرة تلك النماذج. وهذا النسق من "المسح" ينطوي على موقف نقدي للمفكر يعتبر، في الآن ذاته، مساهمة في التحدّي والمواجهة.
(كاتب فلسطيني/ عكا)