16 نوفمبر 2024
رئاسيات تونس.. نمط جديد من الزعامة
عقب وفاة الرئيس التونسي الباجي السبسي، في 25 يوليو/ تموز الماضي، ومنذ الإعلان عن تحديد موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية، والتونسيون يعيشون موسما انتخابيا فريدا، فبعد الاستحقاق الرئاسي الذي وقع في 15 سبتمبر/ أيلول الحالي، فإن استحقاق التشريعيات يقترب بعد ثلاثة أسابيع على الاستحقاق الأول الذي لم يكتمل، وينتظر جولة حسم بين المتصدّرين، قيس سعيد ونبيل القروي. ولمّا كانت الجولة الأولى قد وصفت بالزلزال أو تسونامي، نتيجة الإخفاق الذي منيت به الأحزاب "الكبيرة والتاريخية" لمصلحة فائز أول مستقل وغير حزبي (قيس سعيد) وفائز ثانٍ (نبيل القروي) مسجون، ويتصدّر حزباً حديث النشأة هو "قلب تونس"، لما كان الأمر كذلك، فإن الانفعالات التي صاحبت الإعلان عن النتائج ما زالت تضطرم في النفوس، وتحجب بعض الشيء الاهتمام المنتظر بالاستحقاق التشريعي، وكأنما لسان حال نسبة من المقترعين هو أن الشعب قال كلمته في الانتخابات الرئاسية، وليست مُهمة الوجهة التي سوف تتخذها الانتخابات التشريعية. وبطبيعة الحال، هذا التقدير غير صائب، فالاستحقاق التشريعي أكثر أهمية من الرئاسي، وذلك لما يمنحه الدستور من أدوار وصلاحيات لمجلس النواب، وللحكومة التي تنبثق عن هذا المجلس. غير أن نسبة من المواطنين (يعلم الله ما هو حجمها!) تبدو كأنها قد استنزفت انتخابيا، وهذا ما لاحظه كاتب هذا المقال وسط عينةٍ من الناس في أسواق العاصمة. علما أن انتخابات بلدية قد جرت قبل نحو 16 شهرا، وفيها، وقد غلب عليها الطابع السياسي، كانت نسبة العزوف كبيرة، اذ لم تتعد المشاركة نسبة 35%. أما في الانتخابات الرئاسية أخيرا، فقد وصلت نسبة المشاركة إلى 49%، وهي نسبة عادية، غير أنه يسترعي الانتباه أن الأجيال الشابة كانت الأقل إقبالا بين شرائح المجتمع على ممارسة الحق الانتخابي، ولكن شرائح منها، يسارية و"إسلامية"، اقترعت لقيس سعيد.
لا يقلل ذلك من أهمية المسار الديمقراطي الذي نجح التونسيون في الانتظام به، والوفاء له، بعد ثورة خريف 2010. وبما أمكن عبور المرحلة الانتقالية بسلام، مع غياب حظوظ أو حتى وجود ثورة مضادة في بلاد الياسمين. غير أن الحياة السياسية والعامة شهدت تعرّجات طيلة السنوات الثماني الماضية، كما أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي لم ينله تحسّن يُذكر. وكان لافتا يوم الثلاثاء الماضي أنه، بينما كان منتدون كُثر يتداولون على التلفزة في نتائج الاستحقاق الرئاسي وأجوائه، كان يتم الإعلان عن غرق مركب جديد من مراكب الهجرة غير الشرعية إلى إيطاليا، وأمكن إنقاذ تسعة من ركاب المركب الـ16.
ومنذ الانتخابات النيابية السابقة عام 2014، تكاثرت الأحزاب، وتزايدت معها عمليات الانشقاق
والتفكك التي طاولت أحزابا وسطية ويسارية. ما أسهم في عملية انفضاضٍ جرى التعبير عنها في فوز مرشح غير حزبي في المركز الأول للرئاسة، على الرغم من أنه لا يمتلك مقرا حزبيا، وأدار مؤيدوه الشباب حملة انتخابية متواضعة لصالحه، وكان المترشح الوحيد الذي رفض قبول الدعم الحكومي له (مئة ألف دينار تونسي).
وتمثلت المفارقة في أن الناخبين اختاروا شخصين متباعدين، أحدهما زاهد ومتعفف، والثاني رجل أعمال نشط في اجتذاب "تبرّعات" عينية للفقراء مقابل إشهارات (إعلانات تجارية) عبر قناته "نسمة"، وما زال يخضع لنظر القضاء في اتهاماتٍ إدارية تتعلق بالتهرب الضريبي ومصادر الأموال. ولهذا وصفت نتائج الانتخابات بأنها انطوت على موقفٍ عقابيٍّ لمنظومة الحكم والمعارضة معا. على أن هذه المنظومة تبدو مطمئنة إلى أن العقاب لن يتكرر في الاستحقاق التشريعي يوم 6 أكتوبر، فليس لقيس سعيد حزبٌ ولا قوائم انتخابية (بعض الأحزاب حاولت استمالته للوقوف معها)، أما حزب القروي "قلب تونس"، فيتمحور، إلى حد ملحوظ، حول شخص رئيسه، على أنه يجمع بينهما أن الأول، أستاذ القانون الدستوري، قيس سعيد، كان، باستثناء المشاركة في المناظرة الجماعية للمترشحين، شبه صامتٍ، مقارنة بغيره من المترشحين. أما القروي فقد ظل صامتا تماما بحكم احتجازه وراء القضبان، ما يدل على أن الإكثار من التواصل والحضور الإعلامي قد يؤدي إلى نتيجة معاكسة لما هو مأمول.
ويبقى أن نجاح قيس سعيد يعود، في المقام الأول، إلى جِدّة النموذج السياسي الذي عبّر عنه هذا الرجل الذي يرى في المسؤولية الأولى تكليفاً لا تشريفاً، والمرتكِز على البعد الأخلاقي والبراعة في اختيار الكلمات. وقد وصف، قبل ترشيحه للانتخابات، السلطة بأنها ابتلاءٌ وتمنّى ألا يُبتلى. وقال إن الوصول إلى قصر قرطاج لم يكن يوما هدفا أو أمنية له. وسبق أن عرضت عليه
مناصب وزارية ورفضها، كما كان بارعا في اختيار عبارة "الشعب يريد" شعاراً لحملته الانتخابية، بما أعاد للجمهور ثقته بنفسه، واستحضر معه أجواء الانتفاضة الشعبية التي أطاحت النظام السابق. مع تشديده على أن الشعب يعرف ماذا يريد، وأن من المهم، في جميع الأحوال، الإصغاء إلى ما يريده الناس وترجمة ذلك إلى برامج. وقد بيّن، إثر الإعلان عن نتائج الجولة الأولى، أن حملته الانتخابية لم تكن تقليدية، وكانت أقرب إلى حلقات نقاش أدارها الشباب بأنفسهم، وأن هؤلاء الشباب نشطوا في جمع تبرعاتٍ بأموال رمزية، لتسيير الحملة الانتخابية.
يضاف إلى ما تقدّم أن قيس سعيد برع متقدّما على غيره من المترشحين في إلقاء خطابات قصيرة مكثفة، بلغةٍ عربيةٍ فصحى لا تخالطها كلمة عامية أو أجنبية واحدة، وبغير الوقوع في أي خطأ نحوي، وبصوت جهوري عميق، جمع صاحبه بين التواضع والأنفة، وبنبرة حازمة ودافئة، مما لم يعهده التونسيون من قبل في خطابات زعمائهم. وإن كان هنا في تونس من رأى أن الأوفق له كان أن يتحدث بلغة الشعب، وكما يتحدث في بيته... ولكن الرجل، في نهاية المطاف، نجح بكسر الصورة النمطية شبه الشعبوية للزعماء، وأضفى على موقع الرئاسة مهابة صاحب الرسالة الذي يخاطب شعبه بلغةٍ فصيحةٍ قابلة للحفظ والتوثيق، وأن يمتحنها الزمن، والمترفّع مسبقا وابتداءً عن الجاه والمال "دمعة واحدة وحبّة عرق واحدة لتونسي أو تونسية، وشعرة واحدة في مفرق إحدى حرائر تونس أغلى من خزائن الدنيا كلها"، كما قال، هذا مع ما يجمعه، في إهابه، من تواضع الثائر الرصين، العازم على القطع مع سوءات النظام القديم.
ولا يملك المرء بالمناسبة سوى تهنئة التونسيات والتونسيين، قد تجاوزوا الأصعب في مرحلة الانتقال، ولم يبق سوى تدارك الأخطاء، واستكمال المسيرة بالعزيمة نفسها.
ومنذ الانتخابات النيابية السابقة عام 2014، تكاثرت الأحزاب، وتزايدت معها عمليات الانشقاق
وتمثلت المفارقة في أن الناخبين اختاروا شخصين متباعدين، أحدهما زاهد ومتعفف، والثاني رجل أعمال نشط في اجتذاب "تبرّعات" عينية للفقراء مقابل إشهارات (إعلانات تجارية) عبر قناته "نسمة"، وما زال يخضع لنظر القضاء في اتهاماتٍ إدارية تتعلق بالتهرب الضريبي ومصادر الأموال. ولهذا وصفت نتائج الانتخابات بأنها انطوت على موقفٍ عقابيٍّ لمنظومة الحكم والمعارضة معا. على أن هذه المنظومة تبدو مطمئنة إلى أن العقاب لن يتكرر في الاستحقاق التشريعي يوم 6 أكتوبر، فليس لقيس سعيد حزبٌ ولا قوائم انتخابية (بعض الأحزاب حاولت استمالته للوقوف معها)، أما حزب القروي "قلب تونس"، فيتمحور، إلى حد ملحوظ، حول شخص رئيسه، على أنه يجمع بينهما أن الأول، أستاذ القانون الدستوري، قيس سعيد، كان، باستثناء المشاركة في المناظرة الجماعية للمترشحين، شبه صامتٍ، مقارنة بغيره من المترشحين. أما القروي فقد ظل صامتا تماما بحكم احتجازه وراء القضبان، ما يدل على أن الإكثار من التواصل والحضور الإعلامي قد يؤدي إلى نتيجة معاكسة لما هو مأمول.
ويبقى أن نجاح قيس سعيد يعود، في المقام الأول، إلى جِدّة النموذج السياسي الذي عبّر عنه هذا الرجل الذي يرى في المسؤولية الأولى تكليفاً لا تشريفاً، والمرتكِز على البعد الأخلاقي والبراعة في اختيار الكلمات. وقد وصف، قبل ترشيحه للانتخابات، السلطة بأنها ابتلاءٌ وتمنّى ألا يُبتلى. وقال إن الوصول إلى قصر قرطاج لم يكن يوما هدفا أو أمنية له. وسبق أن عرضت عليه
يضاف إلى ما تقدّم أن قيس سعيد برع متقدّما على غيره من المترشحين في إلقاء خطابات قصيرة مكثفة، بلغةٍ عربيةٍ فصحى لا تخالطها كلمة عامية أو أجنبية واحدة، وبغير الوقوع في أي خطأ نحوي، وبصوت جهوري عميق، جمع صاحبه بين التواضع والأنفة، وبنبرة حازمة ودافئة، مما لم يعهده التونسيون من قبل في خطابات زعمائهم. وإن كان هنا في تونس من رأى أن الأوفق له كان أن يتحدث بلغة الشعب، وكما يتحدث في بيته... ولكن الرجل، في نهاية المطاف، نجح بكسر الصورة النمطية شبه الشعبوية للزعماء، وأضفى على موقع الرئاسة مهابة صاحب الرسالة الذي يخاطب شعبه بلغةٍ فصيحةٍ قابلة للحفظ والتوثيق، وأن يمتحنها الزمن، والمترفّع مسبقا وابتداءً عن الجاه والمال "دمعة واحدة وحبّة عرق واحدة لتونسي أو تونسية، وشعرة واحدة في مفرق إحدى حرائر تونس أغلى من خزائن الدنيا كلها"، كما قال، هذا مع ما يجمعه، في إهابه، من تواضع الثائر الرصين، العازم على القطع مع سوءات النظام القديم.
ولا يملك المرء بالمناسبة سوى تهنئة التونسيات والتونسيين، قد تجاوزوا الأصعب في مرحلة الانتقال، ولم يبق سوى تدارك الأخطاء، واستكمال المسيرة بالعزيمة نفسها.