رام الله الغاضبة
في أجواء أرجعتنا إلى مشاهد الاجتياحات الإسرائيلية في انتفاضة الأقصى عام 2001، بدت رام الله على غير عادتها. استنفار عام للشباب في الزقاق، المحلات التجارية مغلقة حداداً على شهيدها محمود عطا الله إسماعيل، وحالة من الغضب والسخط الشعبي، بسبب التنسيق الأمني بين أجهزة أمن الاحتلال وأجهزة السلطة الفلسطينية.
تسير في الطرقات في وسط المدينة، ترى المارة بوجوه متجهمة ومكفهرة، تحبس أنفاسها من شدة الغضب. حتى الأطفال لا صوت لهم. تسير السيارات ببطء، حتى أنك لا تسمع صوت زامور سيارة، وكأن ثمة اتفاق جماعي على الخرس، على غير عادة رام الله، المدينة المفعمة بالحركة والضجيج. تكمل الطريق، فترى تجمعات للشباب، هنا وهناك، يتحدثون في همس عمّا جرى. يردد حاج طاعن في السن أغنية أمام محل البقالة، بابه مفتوح قليلاً، لتأكيد التزامه الحداد، وتخفيف العبء عن الناس، وهو ما اعتاده الناس في الانتفاضات السابقة، يردد أغنية "هبت النار والبارود غنى.. اطلب شبابك يا وطن واتمنى". ثمة صيدلة مفتوحة أبوابها. هذا العرف متفق عليه أيضاً لتخفيف الحالات المرضية. الشرطة المرورية موجودة بين شارع وآخر.
وعند دوار الأسود، حيث مركز الشرطة الفلسطينية الذي استهدفه الشبان الغاضبون، عقب انسحاب الجيش الإسرائيلي في المدينة فجراً، لوجودهم في المكان وعدم الدفاع عنهم، كانت الأرض مغطاة بالحجارة، لتكون الشاهد على واقعة السخط الجماهيري. الأمن مستتب، وبنظام، لكن لا يبشر بالخير.
ثمة عجوز تجلس على طرقات الشارع القريب من الدوار، جاءت من القرى القريبة من رام الله، كما اعتادت كل صباح، تقول إنها جاءت بعد قطف ثمار بستانها لتسترزق. تخوض في الحديث معها، فتكتشف أن غضبها لا يقل عن الشبان الذين واجهوا الاحتلال وأجهزة الأمن الفلسطينية. تلوم السلطة الفلسطينية لمساعدتها إسرائيل على قتل أبناء الشعب الفلسطيني، وتردد بتنهيدة ووجع "الله يستر من القادم".
تسأل شرطياً فلسطينياً عن الذي حصل، يقف، وهو أيضاً لا إجابة له، تشفق عليه، لأنه واقع بين مطرقة الأوامر بالالتزام بالمخبأ وعدم الخروج في أثناء وجود جيش الاحتلال، هذا ما نص عليه اتفاق أوسلو، وبين عتب شعبي كبير على ما فعلوه. وكأن كلمة خائن لا تفارق سماعها في أذنيه. كما يحاول أن يستوعب ما يردده كثيرون، علّه يجد ما يبرره "كان يجب أن تدافع عنا الشرطة، كان يجب أن يخروجوا بأسلحتهم لتخويف الاحتلال، كان يجب أن يمنعوا سقوط شهيد آخر في صفوف شعبنا المنكوب. أليست الشرطة في خدمة الشعب؟ ما الذي يحصل؟"
يرفض الشرطي التمادي في الحديث، لكنه، أيضاً، يشعر بالغضب، وأعتقد أنه مضاعف عن شعور الشبان المنتفضين.
تسير، وبالقرب من نوافذ البيوت المطلة على الشارع، ثمة صدى صوت أغنيات وطنية، ترددها النسوة معها، وهن على ما يبدو منهمكات في تنظيف البيت، وما تيسر سماعه بعض من مقاطع فدائي، وأنا يا أخي.
في مخيم الأمعري القريب من رام الله، مداخل المدينة فارغة، ليس كعادتها، ويسرح بك الخيال لترى اجتماعات تعقد لترتيب الأوضاع ومنع الاقتحامات الاسرائيلية مرة أخرى، تتصل بأحدهم تعرفه في المخيم، فيبدأ في التذمر وبتنهيدات قد يسمعها العالم كله. يتحدث عن الانكسار والشعور بالهزيمة، نتيجة اختراق الجيش الإسرائيلي حرمة المخيمات. يثور لأن رجولة ابن المخيم شرخت تحت أقدام الاحتلال، وهو ما كان عصياً في السابق. يتهم عبر الهاتف السلطة بالتواطؤ، ويسميها الخائنة. يرددها من دون تردد، بل يرددها في تحدٍّ.
غضب، هذا ما يمكن وصف رام الله به اليوم، غضب عارم. بيانات واستنكارات وتظاهرات تندد بالتنسيق الأمني مع إسرائيل. أحاديث في التجمعات عن الخيانة. نقد لاذع من قيادات التنظيمات الفلسطينية غير الفتحاوية على الوضع، على مواقع الإنترنت الإعلامية لغير فتح نقد حاد، وعلى "فيسبوك" تهجم واضح طال الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، حملات عديدة وتعليقات كلها تطالبه بالرحيل، وتؤكد بأنه لا يمثل الشعب الفلسطيني وإرادته.
الأجهزة الأمنية الفلسطينية تحاول التعامل مع الوضع بروية، وعدم الظهور في الشوارع. عندما يريدون أحداً للاستجواب، تتم العملية بهدوء ويسر، هو ونصيبه، إذا ما أرادت سلطات الاحتلال أن تعتقله بعدها.
حالة من الوحدة، لم يشهدها الشارع الفلسطيني من قبل عند كل الفصائل، وكل الفئات، في المخيم والقرية والمدينة، شعور واحد، غضب واحد، وهدف واحد، تأكيد لا لبس فيه على مقاومة الاحتلال، مهما كان الثمن، على الرغم من حالة الانكسار، بسبب موقف السلطة. الشارع يقول، إن للسلطة الفلسطينية مهمة واحدة، التنسيق مع الاحتلال، أما الشعب الفلسطيني فله الله.