ربع مليون فقير في سويسرا

05 مارس 2014
+ الخط -

في سويسرا التي تعد واحدة من أغنى دول العالم والأكثر دخلا ورفاهية بالنسبة للسكان، ينزعج البعض من وجود هامش سكاني قليل يعاني من الفقر ويعيشون على الإعانات من الحكومة ضمن نظام التضامن الاجتماعي بالكونفدرالية الذي أثيرت أزمة كبيرة بسبب المعايير المعتمدة فيه والسبل الكفيلة بتحسين فعاليته.

المآسي والمصاعب، كانت دائما جزءً لا يتجزأ من حياة ماريا سي (اسم مستعار)، التي نشأت وترعرعت في قرية مزارعين تقع خارج مدينة زيورخ. كانت أمُّها مهاجرة تتحدث بالكاد اللغة المحلية. وبعد وفاة والدها السويسري وهي في سن الثالثة، تم إرسالها إلى دار لرعاية الأطفال إلى أن بلغت الحادية عشرة من العمر، ولكنها لم تُعتبر مؤهلة بما فيه الكفاية للالتحاق بالمدرسة العادية.

وتقول الطفلة التي أصبحت اليوم سيّدة في الخمسين من العمر بشعر داكن وعينين سوداوتين "كُنا فقراء، وعشت في جحيم بسبب سخرية الأطفال الآخرين". يبدو على ماريا الحزن والجدّية في الآن نفسه وهي تجلس على أريكة من الأثاث المُستعمل وتُسند على ارتفاع طفيف ركبتَها اليُسرى المصابة بالتهاب المفاصل.

شُقتها المؤثثة بأناقة، تتكون من غرفتين وتقع في ضواحي مدينة بيل/ بيين في كانتون برن. تَصبُّ الشاي بالنعناع وتشعل سيجارة ملفوفة، فيما تتدلّى اللوحات والصور المؤطرة من جُدران بيتها. تقول: "إن تكون فقيرا وتعتمد على الإعانات الاجتماعية مثلي، يعني أنك تعيش بما يزيد قليلا على 1000 فرنك (1,120 دولارا) في الشهر، وهذا ليس بالأمر السهل، رغم أنني عشتُ دائما بتواضع شديد. فأنا لم أتمتع أبدا بعطلة حقيقية".

على إثر تعرضها لحادثة، فقدت ماريا وظيفتها الأخيرة كعاملة اجتماعية في مركز لمدمني المخدرات والمشردين السابقين. اشتدت آلام رُكبتها التي كانت ضعيفة قبل الحادث، وأًصبح من المُستحيل عليها القيام بعملها بدوام جزئي. ومنذ شهر أغسطس 2012، تعتمد ماريا على مساعدات الضمان الاجتماعي وعلى ما تحصل عليه مقابل بعض الوظائف الصغيرة التي تقوم بها.

ماريا هي واحدة من ربع مليون شخص يعيشون على الإعانات الاجتماعية في سويسرا. وتمثل هذه النسبة ما يربو قليلا على 3% من إجمالي سكان الكونفدرالية. ومع أن الرقم تضاعف بأكثر من مرة منذ عقد التسعينيات، لكنه ظل مستقرا على مدى السنوات القليلة الماضية.

دوروتي جوجيسبيرغ، مديرة المؤتمر السويسري لمؤسسات العمل الاجتماعي، وهي جمعية مهنية تلتزم بتصميم وتطوير المساعدات الاجتماعية في الكونفدرالية، تؤكد أنه "ليس كل من يعيش في مستوى الكفاف، يتقدم بطلب الحصول على مدفوعات الرعاية الاجتماعية".

و يُعتبر 8% من سكان سويسرا، فقراء. أما المقارنات مع بلدان أخرى، فهي تكاد تكون مستحيلة، نظرا للاختلاف والتنوع الكبيرين للبيانات. وفي هذا السياق، تشير غوغيسبيرغ إلى عمق الفوارق، حتى داخل سويسرا، بحيث تختلف الأوضاع بين المناطق الحضرية والقروية، كما أن سُلطات الضمان الاجتماعي، لا تستخدم نفس المعايير لتعريف الفقر.

ضمن السياق نفسه، تضيف غوغيسبيرغ قائلة: "تتوفر سويسرا بالتأكيد على نظام ضمان اجتماعي جيّد وباستطاعتها تحمل نفقاته، وهذا أمر بالغ الأهمية لاستقرار المجتمع. فإيواء العديد من الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر، يمكن أن يشكل تهديدا".

وقد وضع المؤتمر السويسري لمؤسسات العمل الاجتماعي، الذي يُعتبر "جماعة ضغط" في هذا المجال، مبادئ توجيهيّة للكانتونات الستة والعشرين ولما يقرب من 2400 بلدية، بما أن إدارة شئون الرعاية الاجتماعية من صلاحيات الكانتونات والبلديات في سويسرا الفدرالية.

سلة المُشتريات

استنادا إلى ما يُسمى بـ "سلة المُشتريات" لنسبة 10% من ذوي أدنى دخل، أوصى المؤتمر بأن تدفع مصالح الرعاية الاجتماعية مبلغا شهريا قدره 986 فرنكا لتغطية الاحتياجات الأساسية للأشخاص المعنيين.

في هذا السياق، توضح غوغيسبيرغ أن "الدستور السويسري ينصّ على وجوب توفّر المواطن على الوسائل التي تتيح له عيش حياة كريمة. والأموال المُقدمة، تغطي حاجياته من الطعام والنظافة والنقل والاتصالات، أي الأشياء الضرورية في الحياة اليومية". غير أن تلك الوسائل "لا تشمل تكاليف شقة أو غرفة وأقساط التأمين الصحي الإلزامي"، مثلما تذكّر غوغيسبيرغ.

بالفعل، ليس من الهيّن وضع معيار لمستوى الفقر في المجتمع يذهب إلى أبعد من مجرد توفير المساعدات الاجتماعية وتسهيل الاندماج. ومثلما تقول غوغيسبيرغ: "لا أحد في سويسرا ينام تحت الجسور. ولا توجد جيتوهات فقر يُفضَّل البقاء بعيدا عنها عند حلول الظلام".

المساعدات الاجتماعية

يمنح النظام الفدرالي السويسري للكانتونات حكما ذاتيا واسع النطاق، ونظرا لهذه الخصوصية، لا توجد تعريفات مُوحّـدة لمعايير الفقر ومقاييس الاستفادة من المُساعدات الإجماعية.

وفقا للمكتب الفدرالي للإحصاء، يعيش 580000 شخص تحت خط الفقر الرسمي في سويسرا الذي يحدد بـدخل شهري قدره 2250 فرنكا في الشهر لشخص يعيش بمفرده، وبـ 4050 لأسرة تتكون من بالغيْن وطفلين دون سن 14 عاما.

هذا العدد يمثل نحو 7,5٪ من إجمالي سكان الكونفدرالية، البالغ عددهم ثمانية ملايين نسمة.

تظهر آخر الأرقام المتوفرة أن أكثر من 250000 شخص يستفيدون من علاوات ومدفوعات الرعاية الاجتماعية – وهو ما يُمثل في المتوسط 3,1% من إجمالي عدد السكان خلال السنوات القليلة الماضية.

هناك فرق كبير بين المناطق الحضرية والقروية، ويُشكل الآباء الوحيدون أكبر المجموعات المتضررة، يليهم البالغون الذين يعيشون بمفردهم، ثم الأشخاص الذين ليست لديهم مؤهلات مهنية.

يُفترض أن يُغطي الحد الأدنى المُوصى به من مدفوعات الرعاية الاجتماعية: الطعام والنظافة والنقل والاتصالات للشخص المعني.

العمل والتدريب

بدوره، ينتقد الخبير الاقتصادي والمؤلف رودولف شترام نظام الرعاية الاجتماعية السويسري، ولكن ليس لدرجة دعم مواقف بيسار. فهو يُلفت الانتباه إلى أن "نقص التعليم والتدريب المهنيين، هو عامل الخطر الرئيسي المؤدي للفقر، خاصة في أوساط الشباب وذوي الخلفيات المهاجرة. فأصحاب المهارات المنخفضة، أكثر عرضة لطلب الإعانات الاجتماعية ثلاث مرات بالمقارنة مع من أنهوا تكوينهم المهني".

شترام، وهو عضو برلماني سابق من الحزب الاشتراكي وأحد أبرز المدافعين عن نظام التعليم المزدوج في سويسرا الذي يمزج بين التعلــّم في المدارس والعمل في الشركات]، يشير أيضا إلى أن الآباء الوحيدين، غالبا ما يُواجهون مشكلة عدم كفاية مرافق رعاية الأطفال، لكنه ينتقد كذلك نظام التدريب المهني الحالي للأخصائيين الاجتماعيين، ويُلاحظ أن "الطلبة يتعلمون التركيز على تأقلم المُستفيدين مع نظام الرعاية الاجتماعية، بدلا من تعزيز الجهود لإدماجهم في سوق العمل".

كبش الفداء

ماريا اعتادت على الكفاح من أجل نيل حقها في التعليم. فعندما كانت في الأربعينيات من عمرها، تأهلت للتدريب في كلية للعاملين الاجتماعيين وحصلت على وظيفة في القطاع لعدة سنوات.

أما أبرز الانتقادات التي يُوجّهها بيسار إلى نظام الرعاية الاجتماعية، فهي تنظر إليها بشيء من الازدراء وتقول: "إن هذه الأفكار الليبرالية الجديدة لا تزيد عن كونها نكتة سخيفة على حساب المُعوزين. إنهم بحاجة لكبش فداء لصالح الأغنياء الذين يزدادون ثراء". واستطردت ماريا قائلة: "إن النظام هنا قد أرهقني وجعلني أشعر باليأس، حتى أنني فكرت في الانتحار وكنت بالكاد أستطيع التفكير المستقيم".

ماريا ستغادر نظام الرعاية الاجتماعية ومدينة( بيين) أيضا، بعد أن تمّ بيعُ الشقة التي كانت تُقيم فيها. وبما أنها ستُطرد منها، سوف تغادر سويسرا لفترة من الوقت بإتجاه البرتغال، بلد والدتها. هناك، يسود شعور قوي بالتضامن مع الفقراء، حتى أن الناس متسامحون مع المُتسولين، مثلما تقول ماريا مؤكدة أنه "إذا ما انتهى بي الأمر بدون مأوى، فلن أكون مُتواجدة في سويسرا".

دلالات
المساهمون