رحلة البحث عن عزيزة بركات (2\2)
لم تكن مهمتي سهلة في قهوة بعرة كما ظننت، فقد وجدت القهوة خالية من قدامى الكومبارس أو الممثلين الثالثيين كما كنت أحب تسميتهم، ليس لأنهم باتوا أهم وأشهر من النزول إلى القهوة بانتظام، بل لأن السينما حين ذهبت إلى القهوة، كانت تشهد حالة انتعاش كبيرة بعد مرحلة انفجار فيلم (إسماعيلية رايح جاي)، والتي أخرجت استديوهات السينما من حالة الموات التي ظلت فيها لسنوات، فضلاً عن اقتراب شهر رمضان موسم المسلسلات التلفزيونية، التي كانت قد تحولت إلى مصدر رزق للممثلين من كل الفئات والدرجات بعد توعّك السينما.
وحين سألت عنهم المتجهم القائم على شئون القهوة ـ للعلم، لم أر حتى هذه اللحظة قائماً على شئون مقهى يتمتع بالبشاشة واللطف، أو يحب الاحتفاء بالقادمين إلى مقهاه، وقد يكون هذا من سوء حظي أو من سوء اختياري لما أجلس عليه من قهاوي ـ رد علي من طراطيف مناخيره ناصحاً أن آتي بالتحديد يوم الجمعة، لعلي أجد عم مطاوع عويس أو الحاجة فايزة عبد المجيد أو عم محمد هوندا، وهم الأقدم في العمل السينمائي من بين المترددين على القهوة، وقد كنت أعرف كلاً من العم مطاوع والحاجة فايزة، لأنني شاهدتهما مرة في حوار قصير أجراه معهما برنامج تلفزيوني عن السينما وكواليسها.
سُمعة بعرة!
حين عدت في الجمعة التالية، وجدت المقهى والأرصفة المجاورة له مكتظاً بالرواد المنهمكين في الرغي والطاولة والدمنة، لكني وجدت وجهاً مختلفاً في موقع المدير المسئول. كان هذه المرة أكبر سناً من سابقه وأكثر تجهماً، ولذلك لم أخبره بطبيعة رحلة البحث التي أقوم بها، احترازاً من عدوانيته الظاهرة، بل أخبرته أنني أقوم بعمل تحقيق صحفي عن قهوة بعرة العريقة الخالدة، ودورها المهم في تاريخ السينما وأبرز روادها الذين حظوا بشرف التردد عليها. وفيما كنت أزعم أنني قد أحكمت تلبيسه العمة، فوجئت به يقول غاضباً: "ماهو كل صحفي ييجي يشتغلنا بالكلمتين دول وبعد ما ياخد اللي عايزه، يكتب يقول قهوة الكومبارسات وكلام يسد النفس". ليتضح أن صحفياً من صحيفة حكومية بلهاء، كان قد نشر قبل يومين من مجيئي موضوعاً "ماسخاً" عن القهوة، أهمل فيه كل ما حرص القائمون على أمر القهوة على الحديث عنه، وخصوصاً كيف كانت عبر تاريخ السينما ملتقى لنجوم السينما المهمين، ليركز فقط على كونها الآن ملتقى للكومبارسات، وهو ما يعتقد أصحاب القهوة أنه يجعل الممثلين الصغار الراغبين في الشهرة أو الذين اقتربوا من نيلها، يطفشون من التردد عليها، لكي لا تلتصق بهم شبهة أنهم "كومبارس".
بالطبع لم يكن المتجهم الذي تحدثت معه، مهتماً بتأكيدي على أنني لست من هواة مصطلح (كومبارس)، ولا باعتقادي في أهمية ممثلي الأدوار الصغيرة، التي تهتم بهم السينما العالمية نفس اهتمامها بالممثلين الكبار، لتحقيق أكبر قدر من المصداقية الفنية للأفلام، لأنه قاطع كلامي بانفعال قائلاً: "ممثلين صغيرين إيه يا أستاذ، دي قهوة اللي سمّاها قهوة بعرة رشدي أباظة بجلالة قدره، وقعد عليها عادل إمام واستيفان روستي وفريد شوقي وعظماء السيما، ولحد وقت قريب محمود حميدة ومحمد هنيدي وعلاء ولي الدين كانوا بييجوا يسهروا هنا ويلعبوا طاولة، ولما حد فيهم بيبقى عند فاروق بيه صبري بييجي يشرب شايه وشيشته هنا ـ كان يشير إلى مكتب المنتج والسيناريست الكبير فاروق صبري الكائن في سينما كوزموس المجاورة للمقهى ـ وما بطّلوش ييجوا إلا لما الصحافة زودتها في موضوع قهوة الكومبارس اللي قرفونا بيه ده".
ظللت أهز رأسي مؤمّناً على كلامه بحماس، ثم غيرت الموضوع، وسألته عن قدامى المترددين على القهوة من العاملين في السينما، حتى لو لم يكونوا من الممثلين، وكيف يمكن أن أجدهم للحديث معهم، فعرفت أن أحداً منهم لم يأتِ يومها، وأن عم مطاوع والحاجة فايزة بالتحديد قل ترددهما على القهوة، بسبب السن والصحة والمشاغل، وربما لأنه شعر بخطئه حين هب فيّ دون مناسبة، نصحني بأن ألجأ إلى أي ريجسير لأحصل منه على أرقامهما، لأحدد معهما موعداً للقاء، وهنا استغللت وده المفاجئ.
فشرحت له باختصار هدف مجيئي إلى المقهى، وأنني أبحث عن وجه جميل لراقصة قديمة من أفلام الأبيض والأسود، فأطلق ضحكة عصبية، تجاوزت عما بها من "استهياف" لشأني، وقبل أن أكمل شرح هدفي، قال لي بجدية: "للأسف مش هتلاقي حد هنا يدلك، ما عادش في حد فاضل من أيام الأبيض والإسود غير اللي قلت لك عليهم، الحاجات دي تبقى تسأل عليها مخرج قديم ولا مصور قديم". ثم أضاف بنبرة ساخرة: "وربنا يوفقك في المهمة الصعبة دي"، ثم قال لأحد عماله: "شوف يا ابني الأستاذ يشرب إيه؟"، فأدركت أهمية قفل المشهد سريعاً، وشكرته وانصرفت، وبعد فترة من الزمن أدركت أن ما قاله لي الرجل عن الصورة الذهنية للقهوة كما تقوم الصحافة بتصديرها، كان يشغله بشدة هو وسائر القائمين على شئون القهوة، لأنهم قرروا ألا يكتفوا بتلك اللافتة التي كانت تحمل اسم المقهى الشهير والبسيط (قهوة بعرة)، ليستبدلوه بلافتة تحمل صور عدد من الفنانين الكبار الذين ذكر بعض أسمائهم، وقد كتب إلى جوارها اسم (قهوة بعرة ملتقى الفنانين) ثم كتب في لافتة أخرى مجاورة (أشهر قهوة لنجوم السينما).
من عمر الشريف إلى عاطف سالم
خرجت من المقهى ممتناً لمديره المتجهم، الذي لم يسعفني بمزيد من الود لأسأله عن طبيعة شخصيته وذكرياته، متعجباً كيف غفلت عن أهمية اللجوء إلى أي ريجيسير قديم، سيكون أقدر على مساعدتي في عملية البحث، بوصفه حلقة الوصل بين المخرجين والممثلين على اختلاف أهميتهم ومساحاتهم. لم أكن قد عملت في السينما وقتها، ولذلك لم أكن أعرف أحداً من الريجيسيرات القدامى أو الجدد، لكنني عزمت على الاستعانة بالأصدقاء العاملين في الصحافة والفن. ثم تذكرت أنني كنت أتلقى أحياناً مكالمات من ريجسير شاب، كان ملفتاً لي في أول مكالمة أنه يحمل اسم (عمر الشريف)، وكان يتصل بي من حين لآخر ليسألني عن عنواني، لكي يرسل إليه دعوة لحضور عرض خاص لأحد الأفلام، وكانت هذه مهمة يوكلها المنتجون لـ"الريجيسيرات"، الذين كان عملهم يقتضي امتلاك قاعدة بيانات بها عناوين وأرقام هواتف كل المرتبطين بالفن من قريب أو بعيد. وفكرت أن إقناع الريجسير عمر الشريف بإمدادي ببعض أرقام قدامى العاملين في الإخراج والتصوير، سيكون أسهل من طلبها من نقابة السينمائيين، التي حاولت عبرها مرة أن أصل إلى تليفون المخرج القديم حسين حلمي المهندس. فلم أحظ بالترحاب والتعاون، لكنني للأسف لم أجد ضالتي عنده، لأنه كان يتعامل مع أجيال أحدث في السن والالتحاق بدنيا الفن.
أخذت أتذكر أسماء من أعرف من قدامى المخرجين والمصورين الذين عملوا في تلك الفترة، كنت قد أجريت قبل سنوات حوارات مع يوسف شاهين وكمال الشيخ وتوفيق صالح وعاطف سالم، لكن ذلك كان قبل مرحلة الهوس المفاجئ بالبحث عن "اللونة الغامضة ذات الضحكة الجميلة". لم أر أنه من الحكمة معاودة الاتصال بمكتب يوسف شاهين وطلب مساعدة الأصدقاء العاملين فيه، لترتيب موعد للقاء به وسؤاله عنها، لأن إجابته ستكون في الأغلب بصوت حلقي منغّم. كان الأستاذ كمال الشيخ قد توفاه الله، والأستاذ توفيق صالح غارقاً في همومه ومشاكله. وكان الأستاذ عاطف سالم أقرب إلى ما كنت أبحث عنه، لأنه قبل أن يعمل في إخراج أفلامه الجميلة، كان قد عمل لفترة طويلة مساعداً للإخراج في أشهر الأفلام الغنائية والكوميدية.، وقد كان من بينها بالتحديد فيلم (تعال سلِّم) الذي كنا قد التقطنا صورة اللونة الغامضة من أحد مشاهده الاستعراضية. وقد بدا لي الرجل حين استضفته في برنامج تلفزيوني في قناة الإي آر تي عن عبدالحليم حافظ سنة 1998، أنه حاضر الذهن وصاحب ذاكرة حديدية، ولذلك جربت الاتصال برقم منزله الذي كان لدي، فوجدته مرفوعاً من الخدمة.
اتصلت لأسأل عنه الصديقة منى زكي التي كانت تعمل معه في فيلم (فارس ضهر الخيل) من إنتاج قطاع الإنتاج والذي كان آخر عهده بالسينما، لتخبرني أن الفيلم متوقف بسبب مشاكل كبيرة نشأت بينه وبين مسئولي القطاع، وأن صحته تدهورت للغاية، ليمدني صديق كان يتابع تصوير الفيلم بأخبار مؤسفة عن تدهور صحة وأعصاب وذاكرة ومزاج عاطف سالم. فأقرر تأجيل الاتصال به طلباً لراحته وصوناً لكرامتي، ثم تذكرت بعدها صديقي المنتج الفني عمرو الصيفي، والذي كان والده حسن الصيفي واحداً من أكثر مخرجي فترة الخمسينات نشاطاً، وكان قبلها المساعد الأول لأستاذه أنور وجدي في أهم أفلامه، وشعرت بالسعادة لأنني أخيراً جبت التايهة، وتعجبت من لخفنتي التي أنستني أهمية عمنا حسن في موضوع كهذا، لكنني حين اتصلت بعمرو، وجدت صوته متغيراً ومخنوقاً على غير عادته، وعرفت منه أنه منشغل بمرض والده، فلم أفاتحه في الموضوع، واتفقنا على أن نلتقي قريباً حين تتحسن الأحوال، عند صديقنا المشترك الموسيقار عمار الشريعي، لأفاتحه بالموضوع حينها في لحظة روقان.
ثم كان حسين عرعر
لم تأتِ تلك اللحظة سريعاً، لأنني بعدها بفترة قصيرة تلقيت مكالمة طال انتظاري لها، بدأت بعدها عملي ككاتب سيناريو في أول أفلامي (حرامية في كي جي تو)، مع المنتج وائل عبد الله والمخرجة ساندرا نشأت والصديق كريم عبد العزيز، لأتفرغ للعمل في الفيلم تماماً، وأنسى كل ما كان لدي من مشاريع، بما فيها رحلة البحث عن "اللونة الغامضة"، التي ضاعت بعض شرائط أفلامها خلال تنقلي من شقة لأخرى، لكني ظللت محتفظاً بصورتها على أمل استئناف البحث عنها يوماً ما.
ولم أكن أعرف أنني سأصل إلى حكايتها بعد سنتين، عن طريق واحد من قدامى أهل السينما، هو عامل الكلاكيت حسين عرعر الذي لم يكن شهيراً فقط بوصفه أقدم عامل كلاكيت في السينما المصرية، بل بكونه أيضاً واحداً من أشهر ممثلي المشاهد الوحيدة في السينما، فقد كان النجوم يتفاءلون بحضوره على الشاشة، فضلاً عن حضوره في "لوكيشن التصوير"، حتى أن وحش الشاشة فريد شوقي لم يكن يعمل في فيلم إلا إذا كان حسين عرعر هو الذي يمسك بالكلاكيت.
لم يكن التفاؤل والتشاؤم وراء ذلك الإصرار على حضور حسين عرعر؛ فقد كان عم حسين مزيجاً من الذكاء والظرف واللماحية، يجعله يوصل بعينيه إلى الممثل رأيه في طريقة أدائه للمشهد، وهل كان في أدائه مبالغة "وأفورة"، أم تباطؤ ومَوَات، لدرجة أن بعض النجوم كان يتلقى رأياً إيجابياً من المخرج في أدائه، فيصر على الإعادة لأنه لمح في عيني حسين عرعر عدم رضا عن أدائه، وبرغم ذلك النفوذ المعنوي الذي امتلكه عم حسين، والذي رسخته الحكايات المتداولة عنه، والتي لم يكن يؤكدها أو ينفيها أو يتوسع في تفاصيلها، إلا إذا ارتاح لك ورضي عنك. إلا أنه لم يكن أبداً بالغباء الذي يجعله يتصور لنفسه دوراً أكبر من حدود مهنته، التي كان يؤديها باتقان، محتفظاً لرأيه بنفسه، فلا يعلنه أبداً في حضور مخرج. إلا إذا طلب منه المخرج ذلك، وكان يحتفظ في داخله بكتالوج شفهي للنفسيات والشخصيات التي تعمل في الوسط الفني، فيحذر ويحذِّرك في لحظات الصفا من أصحاب العقد الذين يظنون أن تلقي الرأي من عامل يعتبر عيباً في قدراتهم، ويُقبل وينصحك بالإقبال على الموهوبين الأذكياء الذين يحترمون الخبرات الإنسانية ويقدرونها ويحرصون على طلبها.
لذلك كنت إذا دخلت إلى "لوكيشن تصوير" أي من أفلامي سواء كان في بلاتوه مغلق، أو في موقع تصوير خارجي، أحب أن أستمع إلى آراء عم حسين في السيناريو وفي ما تم تصويره من
مشاهده، ثم ألازمه ما استطعت في "البريك" أو في الوقت المتاح بين مشهد وآخر، لأستمع إلى ذكرياته وأسراره التي كان بعضها مما سبق لي أن سمعته من فنانين عاصروا الجيل الأقدم، وكان بعضها مما أسمعه لأول مرة. وكان يقسم عليّ بالله أن أحتفظ به لنفسي، لأنه يخص أسرار أناس دخل بيوتهم وأكل معهم على سفرة واحدة، فأجيبه إلى طلبه، ولا زلت أفعل برغم غواية الحكي، خاصة أن أكثر ما استفدته من حكاياته، كان متعلقاً بطريقة إدارة العمل التي تجمع بين المخرجين والممثلين، والتي فسّرت لي الكثير من جوانب القوة والضعف لدى أسماء كبيرة أحببت بعض أعمالها واستغربت من بعضها الآخر. والمهم أنني وسط كل ما جمعني بعم حسين من حواديت، لم أخبره بقصة اللونة الغامضة ورحلة بحثي عنها، ربما لأنه أخبرني أنه بدأ عمله السينمائي في الستينات مع الراحل حسين الإمام، ثم حين قادنا الحكي مرة إلى مصائر مغامير السينما وممثليها المظاليم، حدثته عن قصة رحلة بحثي المجهضة عن "اللونة الغامضة"، فشجعني على أن أحضر له صورتها، لعل "زخانيق" السينما تكون قد جمعته بها، خاصة أن بعض الراقصات والممثلات المغمورات كما قال لي، سبق وأن عملن بعد انحسار موجة الأفلام الاستعراضية، كعاملات ماكياج وكوافير وعاملات أزياء ولبّيسات.
اسمها عزيزة!
لم أصدق نفسي، حين نظر عم حسين بدهشة إلى الصورة التي أعطيتها له، ثم هتف قائلاً: "يااااه، دي عزيزة بركات، حد في بلاتوهات السيما ما يعرفش عزيزة بركات"، وبعد أن قفزت من الكرسي بفرحة، كان بديهياً أن يكون سؤالي التالي: "طيب ما تعرفش إذا كانت لسه عايشة؟"، فقال إنه بأمانة ليس متأكداً، لكنه ذكّرني بأسماء النجمات الأكبر منها سناً، ولا زلن بصحة وعافية، يكفي أن الست أمينة رزق كانت لا تزال على قيد الحياة وقتها، ولذلك لم أسأله عن الطريقة التي يمكن أن توصلني إلى من لم تعد غامضة، بل صارت عزيزة بركات، مؤجلاً كل أسئلتي إلى أن ينتهي من إخباري بكل ما يعرفه عنها.
كانت مفاجأته الأولى أنه لم يعرف بطلتي عن طريق السينما، بل عن طريق الكاسيت، وهي قصة شرحها يطول، ومختصرها أن الست عزيزة بركات، كانت قد أطلقت على نفسها هذا الاسم الفني، لأن أول فيلم عملت فيه كراقصة سنيدة في أحد مشاهده الاستعراضية، كان فيلم (لحن الخلود) الذي أخرجه الأستاذ هنري بركات، ولأنها كانت معروفة في كواليس السينما بأنها "عايقة ولعبيّة"، فقد جعل ذلك الأستاذ بركات يخشى أن يظن أحد أنه مرتبط بها بشكل أو بآخر، فيجلب له ذلك مشاكل أسرية هو في غنى عنها، خاصة أنه معروف بين الكل بالتزامه وحسن خلقه، وليس بحاجة إلى أن يستغل أحد منافسيه أي فرصة لتشويهه. ولذلك استدعى عزيزة على الملأ وطلب منها أن تغير اسمها على الفور، وفوجئ أنها لم تمتثل على الفور، بل قالت له متبجحة إن اسمها في النهاية لا يُكتب على التيترات والأفيشات، ولا يعرف أحد به سوى العاملين في السينما، ثم انهالت عليه بوصلات مجاملة وتودد أثارت ريبة بركات أكثر منها، فهددها أنه لن يسمح لها بدخول بلاتوه يعمل فيه هو وأي من أصدقائه ومعارفه، طالما لم تغير اسمها أولاً، خاصة أن أسماء المخرجين في مصر على قفا من يشيل، وفيهم من يسعده أن يشيل شيلة كهذه لا تَلزَمه شخصياً.
كان يمكن لعزيزة أن تقوم بحذف اسم بركات من اسمها الفني بهدوء، لكن الحكاية كبرت في دماغها، لأنها كانت عنيدة وناشفة الدماغ، ربما بسبب أصولها الصعيدية، التي كانت أيضاً سبباً في توعد أهلها بقتلها، لو استمرت في العمل في السينما، أو ربما لأنها ظنت أن بركات المشهور بلطفه ودماثة أخلاقه، لن يكبر الموضوع. لكنه بالفعل منعها من العمل معه، وفوجئت أن أكثر من مخرج مهم يطلب منها تغيير اسمها إذا رغبت في العمل معه، فكانت ترفض قائلة لهم إنها ليست سبة أو عاراً لكي يتم التبرؤ من ارتباط اسمها باسم بركات، وأنها تعرف أنها فنانة كويسة، لا تجيد الرقص والتمثيل فقط، بل وتجيد الغناء أيضاً، وسيكون لها مستقبل أهم من مستقبل الست هدى سلطان التي كانت يومها نجمة المرحلة، وكانت قصتها في التغلب على ممانعة أخيها محمد فوزي لعملها بالفن؛ قصة ملهمة لعزيزة التي وجدت بين مخرجي الصف الثاني من يتفهم موقفها ويساندها فتظهر في أفلام من بطولة مطربين أقل شهرة، صحيح أن تلك المشاهد كانت هامشية وغير مهمة، لكنها كانت تشبع رغبتها في استعراض موهبتها في الرقص، على أمل أن يقودها ذلك قريباً إلى فرصة أداء مشهد متكلم، يقودها إلى ما هو أكبر وأهم.
مرحلة البحّة!
لكن آمال عزيزة تحطمت على الفور، بعد أن أثبت أهلها أنهم لا يقلون جدية وعناداً عن بركات، فقام أحد أقاربها الغيورين ـ والذي كانت قد رفضت عرضه للزواج ـ برمي "قزازة مية نار بحالها" على وجهها ورقبتها، فشوّه ملامحها الجميلة إلى حد كبير، ولم تفلح المسكينة في مداواة كافة آثار العدوان الغادر عليها، بسبب كونها على باب الله ولا تملك تكلفة إجراء السفر إلى الخارج لإجراء عمليات تجميل ناجعة الأثر. لكن قصتها أثارت تعاطف الكثيرين، ففتح لها أولاد الحلال باب رزق يستغل صوتها، الذي لم يكن جميلاً إلى الحد الكافي لجعلها مطربة شهيرة، كما كانت تتصور، لكنه كان جميلاً لدرجة تكفل لها العمل كفتاة كورس أو كورال، خاصة أنها كانت تمتلك بحّة صوت مميزة، تجعلها حسب رأي المتخصصين بحة صوت مثالية للاشتراك في الأغاني الريفية أو الصعيدية، التي كانت موضة في عصر صعود العمال والفلاحين، لذلك أصبحت عزيزة ضيفة دائمة على استديوهات الإذاعة، تخرج من أوبريت إلى صورة غنائية إلى أغنية وطنية إلى أغنية فردية تحتاج إلى كورس.
ووسط ذلك النشاط الغنائي المحموم أكرمها الله، فتزوجت عازف كمان من العازفين المعينين بالإذاعة، بعد أن جمعهما الحب من أول نظرة، وهو حب لم تكن تتوقع مجيئه بعد ما جرى لملامحها من تشويه، وكان أكثر ما هزها كأنثى، أنه كان قادراً على أن يشعرها دائماً بأنها لا زالت في قمة جمالها. وحين اكتشفت أنه لا ينجب، تمسكت به برغم شوقها العارم إلى الخِلفة، وظلت محبة ومخلصة له، حتى مات في مطلع السبعينات، ومع أنها كانت مرغوبة بسبب "جسمها المدملك". إلا أنها لم تتزوج بعده، وظلت تقيم مع والدتها، التي كانت الوحيدة من أهلها التي صالحتها، وبعد أن ولى زمن الإذاعة وصورها الغنائية وأوبريتاتها، ودخلت مصر مع منتصف السبعينات عصر انفجار الأغاني الشعبية، زادت الأيام من أهمية بحّة صوت عزيزة التي ظلت متمسكة باسم بركات رغماً عنه وعن الزمن. فأصبحت القاسم المشترك الأعظم في كورس أغاني أحمد عدوية وكتكوت الأمير ومن هم أقل شهرة منهم، لتتحول مع مرور الوقت إلى بركة فعلية يزيدها عنصر الخبرة أهمية، حيث يحرص المطربون على أن تشارك في أعمالهم التي يرجون لها النجاح، ويأخذون رأيها في غنائهم وعُرَبِهم وقفلاتهم. وقد كان أول عهد عم حسين بها هو اشتراكها في كورس فيلم (شيء من الخوف) الذي عمل فيه عم حسين عرعر. وكان مخرجه الأستاذ حسين كمال يحبه ويحرص على أن يصحبه معه لحضور تسجيلات أغاني الفيلم، ليرتبط عم حسين بصداقة قوية معها، إلى أن انقطعت أخبارها عنه منذ بداية الثمانينات، لكنه سمع من أصدقاء مشتركين، أنها ظلت فتيّة الصوت حاضرة البحة، لدرجة أنها "لِحقِت" زمن حسن الأسمر، وغنت خلفه في شرائط مطلع التسعينات التي شهدت صعوده الكاسح، لكنه لا يعرف أين ذهبت بها الأيام بعد ذلك.
نهاية الرحلة
عدت يومها إلى البيت وأنا في قمة سعادتي بما سمعته عن بطلتي، وأذكر أن أول ما فعلته كان أن علقت صورتها على لوحة خشبية كنت أعلق عليها ملاحظاتي خلال كتابة السيناريو، وكتبت أسفل الصورة بخط فخور: (عزيزة بركات)، كنت سعيداً لأن صورتها المجهولة اكتسبت أخيراً اسماً وتاريخ حياة، ثم اتجهت إلى الكمبيوتر وفتحت ملفاً جديداً، أسميته (البحث عن عزيزة بركات)، وقمت فيه بكتابة ما حكاه لي عم حسين عرعر قبل أن أنساه، وبدأت أهنئ نفسي لأن المشروع الغائم الذي كنت أحلم به من سنين، لم تتضح معالمه فقط، بل أسفر عن قصة إنسانية مدهشة، تحتاج فقط إلى مخرج ماهر وجهة إنتاج محترمة، لينتج عن ذلك مشروع فيلم تسجيلي من أفضل ما يمكن. وقلت لنفسي إن نقطة البداية هذه المرة ستكون من عم حسين عرعر نفسه، الذي لا بد أن أذهب إليه في الغد مبكراً، لأنتحي به جانباً، وأتفق معه على العمل معي في المشروع بشكل رسمي، يبدأ من تعريفه على جهة الإنتاج التي فكرت فيها، واستطلعت رأي أحد أصدقائي العاملين فيها، فرحب بذلك وأثنى على الفكرة، وقلت إنه حين يتم التعاقد، سيكون علي أنا وعم حسين أن نطرق أبواب شركات إنتاج الكاسيت وستديوهات الإذاعة ونقابة الموسيقيين ومهندسي الصوت القدامى للبحث عن الست عزيزة، وإذا كنت قد وصلت إلى طرف خيط بعد طول السنين، جعلني أعرف من تكون، فقد زاد ذلك من ثقتي في الوصول إليها شخصياً، بمساعدة العم حسين عرعر وذاكرته الحديدية.
في اليوم التالي، لم أفهم امتقاع وجه عم حسين، حين قلت إنني سأطلب له على الموبايل صديقي المهم في شركة الإنتاج الكبيرة، ليتأكد عم حسين من جدية الموضوع، ولأثبت لصديقي أن كلامي معه ليس طق حنك والسلام، فظننت أن في الأمر حساسية مرتبطة بعلاقة شخصية ما بينه وبين الست عزيزة ذات البحّة، خاصة أن عم حسين كان من قدامى أعضاء نقابة "مقطّعي السمكة وذيلها"، فطلبت منه أن يكون صريحاً معي ويبلغني بأي تحفظات لديه، ووعدته أنني سأراعيه على الآخر. ولن أسبب له أي حرج. وذكرته بما بيننا من مودة وعِشرة، فزاد امتقاع وجهه، وقال لي: "ماهو ده اللي مزعلني من نفسي، أصل الحكاية وما فيها إني ما أعرفش أصلاً مين صاحبة الصورة، ولا أعرف إذا كان اسمها عزيزة ولّا أنيسة، ولا في بحّة ولا دياولو، أنا بس قلت أريّحك وأحكي لك حكاية تخليك تجيب آخر الموضوع وتقفله، ما كنتش أعرف إنك هتكبر المسائل كده ويطلع في فيلم وشركة إنتاج وشغلانة بجد، ويستحيل طبعاً أطلعك صغير قدام الناس دي". وحين وجدني أنظر إليه مذهولاً، وأنا أبحث عن رد مناسب يحترم سنه ويناسب ما بيننا من مودة، قرر التمادي في التعبير عن هزلية الموضوع، ليقول ضاحكاً بطريقة تسوق الهبل على الشيطنة: "هو إيه يا أستاذ هتحتكروا التأليف خلاص، مالناش نفس نألف احنا كمان مرة قبل ما نموت"، لينتزع مني ابتسامة، تعامل معها على أنها ضحكة، ليقول متخابثاً: "ما تنساش إني خبرة برضه في قصص الرقاصات وسيرتهم، مش اشتغلت مع عمك حسين الإمام فوق الخمستاشر فيلم".
بعد أن هدأ الضحك والعتاب والتقطيم والتهديد بعدم تصديق حكاياته مجدداً، قلت لعم حسين وأنا أنظر إلى صورة اللونة الغامضة التي لم تكن عزيزة ولا كان لها علاقة ببركات، إنني أعرف أن رحلة بحثي عنها لم تكن منطقية ولا عقلانية، لكنني مع ذلك كنت أتمنى بصدق أن أعرف حكايتها، فلم يبخل علي بواحدة من حِكمه، التي كان يطلقها ببساطة وسط معابثاته وقصصه وتشنيعاته، حين قال: "ما هو مش كل إنسان لازم يبقى ليه حكاية، في ناس بتعيش وتموت عادي كده"، فأغلق بذلك باب الحكاية.