08 يوليو 2019
رحلة سحرية إلى القدس
ها أنا أزور القدس. الطقس بارد، والغيوم تكتنف السماء، وهذا يعني أن الفصل شتاء. قامتي قصيرة، ووجهي بلا شعرة واحدة. أظن أني في العاشرة من العمر، وليس في الستين. محشور مع أبي، وبضعة أقارب، في سيارة لاندروفر عسكرية. أبي شابٌ وسيمٌ ذو شاربين سوداوين، لا تتخللهما شعرة بيضاء واحدة. نتدثَّر بمعاطف ثقيلة. الكلام يتقافز من واحدٍ إلى آخر، تطبعه لهجة بدوية والتسميات تتوالى. قرى. منعطفات. جسور. الجميع يعرفها إلا أنا الذي يمرُّ في هذه المناطق للمرة الأولى. أحدّق بعيني الفضوليتين بالجغرافيا المتغيرة من مدينة الزرقاء، مروراً بعمَّان، ثم الهبوط إلى الغور السحيق. هناك آخرون على الطريق. يبدو أنهم يذهبون، مثلنا، إلى أداء صلاة الجمعة الأخيرة من رمضان في المسجد الأقصى، الجمعة التي سمعت أبي يسميها "اليتيمة". أتخيّلها بلا أب، أو أم. مسكينةٌ. أنا صائم، على الرغم من أني لم أصم شهراً كاملاً بعد.
مستثار. الرحلة هي التي تعنيني. عبور الأمكنة التي كنت أسمع ببعضها ولم أرها من قبل. أرى مفارز للجيش. هناك عسكرٌ كثيرون. إنهم رفاق أبي في الجيش الذي ينتمي إليه كل أقاربي بلا استثناء. تهبط سيارة اللاندرفر العسكرية، كأنها تسقط، إلى الغور، وتهبُّ روائح ثقيلة حريفة. كأنها رائحة كبريت. درجة الحرارة ترتفع درجةً، اثنتين، عشر. يصبح الشتاء صيفاً غائماً. وها نحن نعبر جسراً يسميه والدي "جسر سويمة".
أرى طائرات حربية تغير عليه وتدمّره. جنود وآليات عسكرية معطوبة. دخان حربٍ في درجة حرارة أربعين. رأسي مكتظ بالذكريات والمعلومات. ما هذا الوعي الشقي الذي انتابني دفعةً واحدة؟ هل هذا هو المستقبل؟ ماذا يجري؟ لِمَ أنا أكبر سناً؟ كيف صار لي شاربٌ ولحيةٌ وصوت عميق أجش؟ أرى جنوداً قتلى. وجرحى. وجلبة معدنية تلف المكان كله. بيدي سيجارة، وأعبُّ الدخان عبَّاً؟ من أنا؟
كانت المياه تحت الجسر عارمة. هذا هو نهر الأردن، يقول والدي. أو أسمعه يقول ذلك، كأنه دليل سياحي، ولكن ببزّةٍ عسكريةٍ مهندمة. بعد الجسر أرى "مقام النبي موسى". ثم بعد فترةٍ، يقول والدي إن هذا هو "الخان الأحمر"، ثم يلفظ أسماء غريبة: "أبو ديس"، "العيزرية". وها هي القدس، والمسجد ذو القبة الذهب التي تلمع على الرغم من الغيوم التي تكتنف السماء. لمعانٌ كابٍ. أشعر بخشوع، ورهبة، أمام ضخامة المعمار وتنوع أشكاله. الحجارة قديمةٌ، مرَّت بها أزمنة طويلة، تركت عليها بصمات وأسماء وكتابات أشبه بوثائق لا تمحى. هناك عقود حجرية عالية، وهيمنةٌ مهيبة للقبة الذهبية، الصخرة ترابية اللون، تتخللها أخاديد. ندخل باحةً واسعة، وصولاً إلى المسجد. أرى أحذيةً هائلة للمصلين، وأيدٍ تقطر ماء بعد الوضوء.
يقفز الزمن إلى الأمام. أسمع أغنية فيروز "زهرة المدائن" التي تهزُّ العالم العربي، ثم تتلاشى. تنتشر هذه الأغنية، في الفضاء العربي من مشرقه إلى مغربه، كنوع من التطهّر الجماعي من إثم عظيم، كعلاج أو مخدر لأنفسٍ ثلمتها الهزيمة. لكن أغنية أخرى هي التي تذكّرني برحلة قصيرة قمت بها إلى القدس في جمعة يتيمة من رمضان مع والدي. جاءت فيروز إلى القدس عام 1961، وقدّمت لها المدينة مفتاحها الخشبي ومزهرية كتذكار للسيدة التي تغنّت بالأرض والمدن والناس. ثم ستستعيد فيروز، مع الأخوين رحباني، ذكرى زيارتها تلك، والمزهرية التي أعطيت لها "من الناس الناطرين":
"مرّيت بالشوارع/ شوارع القدس العتيقة/ قدّام الدكاكين البقيت من فلسطين/ حكينا سوى الخبرية واعطوني مزهرية/ قالوا لي هيدي هدية من الناس الناطرين". إلى أن تصل إلى تلك الصرخة التي ظلت تزوبع في العالم من دون أن تلاقي صدى:
"يا صوتي ضلك طاير/ زوبع ب هالضماير/ خبرني عاللي صاير/ بلكي بيوعى الضمير".
تنتهي الصلاة. يخرج آلاف المصلين من المسجد وينتشرون. ننتشر مثلهم. الشوارع ضيقة، مرصوفة بالحجارة والدكاكين، تطل على بعضها بعضاً، تنبعث منها روائح أليفة. الناس تأتي وتذهب، وتتبضع في أسواقٍ مظللة ضيقة. كان صعباً أن نعثر على سيارتنا اللاندروفر، لأنَّ مثلها الكثير في الشوارع التي تحيط بالجامع. لكننا نجدها أخيراً. أنا جائع. ومنهك، لكني لا أرغب في أن تنتهي هذه الرحلة السحرية التي لم يتخلّلها حرف عبري واحد، ولا بندقية على أهبة الاستعداد لتسديد الرصاص.