19 نوفمبر 2023
رحيل الأحبة
وقفتُ حيثُ أكون، بباب الشقّة الصغيرة المتواضعة التي نقيم فيها، هنا، في مقاطعة "شتاير مارك"، في مدينة "غراز" النمساوية، وبيدي كأس من الشاي الأحمر الذي أحضرته منذ قليل، بعد أن ألمّت بي وَعكة صحية مفاجئة، لم تدم أكثر من ثلاثة أيام، وتبعها زكام حاد، إلا أنّها تجاوزتني بحمد الله وشكره.
وحينما أدرتُ رأسي، من باب الشقّة التي أقيم فيها، منذ ما يزيد عن الأربعة أشهر ونيّف، بصورةٍ متواضعة، أدركتُ أن نظري، في هذه المرّة، أصابه حوَلٌ غريب، فذهبَ بي حيثُ مدينة الرَّقة، وأهلها، وأنسها، وليالي الفرح التي تزيّن أناسها، وفراتها العذب، وشعبها الطيّب البسيط.
من منفذ غرفتي، أطللتُ هذه المرّة، وتذكرتُ في حينها، خبر وفاة إنسان عزيز على قلبي، وقلب كل من عرفه والتقاه.. إنسان، كان همّه الوحيد في هذه الدنيا، التي غلبتها نوازع كثيرة، من يكون قريباً إلى قلوب الناس، ويكسب ودّهم، والترحاب بهم، بصدر يفيضُ حباً وحناناً.
صحيح أنَّ الحياة رفسته بثقلها، وأنهكته بآلامها، وأوجعته بأحزانها، ونال، كما غيره، جزاءَه من عذاب الدنيا، إلّا أنه لم يكن يوماً يشغله همّ الدنيا، أو الركض خلف جني المال، أو مصلحة خاصة، بقدر ما كان يحاول أن يُخفف عن الآخرين أحزانهم وآلامهم!
أي شيء يمتلكه، وما كان يحبه لنفسه، كان يحاول، جاهداً، أن يشرك الناس به ويدفع به إلى الآخرين، مهما غلا ثمنه. فالمالُ ليس له أي تصنيف بالنسبة إليه، على الرغم من الفقر المدقع الذي يُعانيه!
كريم بطبعه، مضياف في بيته، إلى درجة الجنون. سلس ورحيم في تعامله. تضرّع من عالم الحياة المؤسي الذي لفظته يوماً، إلا أنّ أمثاله قليل لما يحتكم به إلى العقل أولاً، وهو هدفه الأساس، أضف إلى خدماته الجليلة التي يسعى إلى تحقيقها، وإن كانت بسيطة، والتي لا يمكن لأحد أن ينكرها، وتضحياته الجسام التي يقوم بها في سبيل مد يد المساعدة لكل من سبق له أن عرفه، وهناك أمثلة كثيرة يمكنها أن تحكي سرّ هذا الإنسان الذي افتقدناه منذ ثلاث سنوات، وطال عنا غيابه!
غياب الأب والأخ والصديق (محمد مجبل الحمد)، في الواقع كان صدمة كبيرة، لنا، نحن الذين عايشناه، وتعلّمنا منه كثيراً من الدروس والعبر في هذه الحياة التي يعتريها كثير من الصور المترهلة.. سماع نبأ وفاة طيّب الذكر، ترك فينا حزناً شديداً، وآلمني بصورةٍ خاصة، فهو يُعد بالنسبة لي مدرسة حياة متكاملة.
وان كان يكبرني سناً، واهتماماته تختلف عن اهتماماتي كليةً، إلا أنني أقف، وباحترام، أمام مدرسة الحياة التي أنارت لي طريقي، فضلاً عن ألفاظه المفعمة بالجزالة، وسوقه أحاديث وقصصاً ممتعة ومشوقه، وذات هدف، يستعرضها للمحبين، اكتسبها خلال مشواره الطويل ورصدها في طور حياة قلّ فيها الانزعاج.
خبر وفاة رفيق الدرب كان فاجعة بالنسبة إلينا، نحن محبوه وأصدقاؤه... لم يكن في يوم ما يحلمُ بتحقيق أي من المستحيلات الثلاثة، ولم يكن بمقدوره أن يفكر في أن يفرش الأرض ذهباً، أو حتى حزمةً من الحَطب، أو جني أموالاً، تحت أي مسمى. ما كان يحلم به، هو أن يعيش حياةً مستقرة، يتوفر فيها أكله وشربه ومسكنه.
طوال سنوات عمره المديد، كانت تحتضنه وأسرته، التي يصل عدد أفرادها إلى أكثر من عشرة أشخاص، غرفة يتيمة ومطبخ بسيط. وشاءت الأقدار، وبعد محاولات، تكلل آخرها، الفوز بجائزة اليانصيب العالمية، بحصوله على تأشيرة زيارة الولايات المتحدة الأميركية، وأراد المولى تعالى أن يكون من نصيبه الوصول إلى تلك البلاد المشرعة ذات المساحة الكبيرة، التي تعد متنفساً لكثير من الطامحين في الوصول إليها. وبعد محاولات جادة، تمكّن من الوصول إلى أرض الميعاد، وخلال الأشهر التي قضاها، هناك، استطاع أن يحصل على بعض المال. وبجهد شخصي، تمكن من بناء غرفتين ومطبخ، ولم يستطع إكمالهما، وبمساعدة الأخوة والأصدقاء أنجز ما كان يحلم به.
لم يكن يحلم أخي وصديقي يوماً بأن ينافس مشايخ أهل الخليج في قصورهم، ولا في ركوب سياراتهم، ولا في مواكبهم المهيبة، ولا حتى في طعامهم أو شرابهم، بل أكثر ما كان يهمّه الاستئناس بفيء غرفته القديمة المبنية من الحجر الغشيم، المطلة على الشارع الرئيس في مدينته الرّقة التي يعشقها حتى الثمالة، وهو الإنسان الذي لم يخلصُ منه أحد في تواضعه، واحترامه وترحيبه، بعيداً عن أي عرق، أو طائفة، أو مذهب، أو عشيرة، أو فخذ، لكل من تضعه ظروفه أمام بيته، لأنه كان بالفعل، نموذج الإنسان الخجول، المتواضع، المحب لكل الناس، المقدام، والذي لم يكن يهمّه أي نوع من أنواع الزينة أو البهرجة، ومحبته لأبنائه وبناته لا يفوقها أي حب آخر، وقد بذل الغالي والرخيص، من أجل راحتهم، وتذليل صعاب الحياة، والخطوط الحمراء لا يمكن لأحد المساس بها تحت أي شعار. فالبساطة جوهره والعقل زينته.
هذه هي أحوال الدنيا التي نقرأ في طياتها أحداثاً كثيرة وصوراً تغرّد بعيداً عن السرب الذي ما زال يفسح الطريق لآخرين للعبور فوقه... فالطريق ما زالت طويلة.
رحمك الله أيها العزيز الغالي بواسع رحمته وأحسن مثواك.
وأخيراً لا يسعنا في هذا المقام إلا أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وحينما أدرتُ رأسي، من باب الشقّة التي أقيم فيها، منذ ما يزيد عن الأربعة أشهر ونيّف، بصورةٍ متواضعة، أدركتُ أن نظري، في هذه المرّة، أصابه حوَلٌ غريب، فذهبَ بي حيثُ مدينة الرَّقة، وأهلها، وأنسها، وليالي الفرح التي تزيّن أناسها، وفراتها العذب، وشعبها الطيّب البسيط.
من منفذ غرفتي، أطللتُ هذه المرّة، وتذكرتُ في حينها، خبر وفاة إنسان عزيز على قلبي، وقلب كل من عرفه والتقاه.. إنسان، كان همّه الوحيد في هذه الدنيا، التي غلبتها نوازع كثيرة، من يكون قريباً إلى قلوب الناس، ويكسب ودّهم، والترحاب بهم، بصدر يفيضُ حباً وحناناً.
صحيح أنَّ الحياة رفسته بثقلها، وأنهكته بآلامها، وأوجعته بأحزانها، ونال، كما غيره، جزاءَه من عذاب الدنيا، إلّا أنه لم يكن يوماً يشغله همّ الدنيا، أو الركض خلف جني المال، أو مصلحة خاصة، بقدر ما كان يحاول أن يُخفف عن الآخرين أحزانهم وآلامهم!
أي شيء يمتلكه، وما كان يحبه لنفسه، كان يحاول، جاهداً، أن يشرك الناس به ويدفع به إلى الآخرين، مهما غلا ثمنه. فالمالُ ليس له أي تصنيف بالنسبة إليه، على الرغم من الفقر المدقع الذي يُعانيه!
كريم بطبعه، مضياف في بيته، إلى درجة الجنون. سلس ورحيم في تعامله. تضرّع من عالم الحياة المؤسي الذي لفظته يوماً، إلا أنّ أمثاله قليل لما يحتكم به إلى العقل أولاً، وهو هدفه الأساس، أضف إلى خدماته الجليلة التي يسعى إلى تحقيقها، وإن كانت بسيطة، والتي لا يمكن لأحد أن ينكرها، وتضحياته الجسام التي يقوم بها في سبيل مد يد المساعدة لكل من سبق له أن عرفه، وهناك أمثلة كثيرة يمكنها أن تحكي سرّ هذا الإنسان الذي افتقدناه منذ ثلاث سنوات، وطال عنا غيابه!
غياب الأب والأخ والصديق (محمد مجبل الحمد)، في الواقع كان صدمة كبيرة، لنا، نحن الذين عايشناه، وتعلّمنا منه كثيراً من الدروس والعبر في هذه الحياة التي يعتريها كثير من الصور المترهلة.. سماع نبأ وفاة طيّب الذكر، ترك فينا حزناً شديداً، وآلمني بصورةٍ خاصة، فهو يُعد بالنسبة لي مدرسة حياة متكاملة.
وان كان يكبرني سناً، واهتماماته تختلف عن اهتماماتي كليةً، إلا أنني أقف، وباحترام، أمام مدرسة الحياة التي أنارت لي طريقي، فضلاً عن ألفاظه المفعمة بالجزالة، وسوقه أحاديث وقصصاً ممتعة ومشوقه، وذات هدف، يستعرضها للمحبين، اكتسبها خلال مشواره الطويل ورصدها في طور حياة قلّ فيها الانزعاج.
خبر وفاة رفيق الدرب كان فاجعة بالنسبة إلينا، نحن محبوه وأصدقاؤه... لم يكن في يوم ما يحلمُ بتحقيق أي من المستحيلات الثلاثة، ولم يكن بمقدوره أن يفكر في أن يفرش الأرض ذهباً، أو حتى حزمةً من الحَطب، أو جني أموالاً، تحت أي مسمى. ما كان يحلم به، هو أن يعيش حياةً مستقرة، يتوفر فيها أكله وشربه ومسكنه.
طوال سنوات عمره المديد، كانت تحتضنه وأسرته، التي يصل عدد أفرادها إلى أكثر من عشرة أشخاص، غرفة يتيمة ومطبخ بسيط. وشاءت الأقدار، وبعد محاولات، تكلل آخرها، الفوز بجائزة اليانصيب العالمية، بحصوله على تأشيرة زيارة الولايات المتحدة الأميركية، وأراد المولى تعالى أن يكون من نصيبه الوصول إلى تلك البلاد المشرعة ذات المساحة الكبيرة، التي تعد متنفساً لكثير من الطامحين في الوصول إليها. وبعد محاولات جادة، تمكّن من الوصول إلى أرض الميعاد، وخلال الأشهر التي قضاها، هناك، استطاع أن يحصل على بعض المال. وبجهد شخصي، تمكن من بناء غرفتين ومطبخ، ولم يستطع إكمالهما، وبمساعدة الأخوة والأصدقاء أنجز ما كان يحلم به.
لم يكن يحلم أخي وصديقي يوماً بأن ينافس مشايخ أهل الخليج في قصورهم، ولا في ركوب سياراتهم، ولا في مواكبهم المهيبة، ولا حتى في طعامهم أو شرابهم، بل أكثر ما كان يهمّه الاستئناس بفيء غرفته القديمة المبنية من الحجر الغشيم، المطلة على الشارع الرئيس في مدينته الرّقة التي يعشقها حتى الثمالة، وهو الإنسان الذي لم يخلصُ منه أحد في تواضعه، واحترامه وترحيبه، بعيداً عن أي عرق، أو طائفة، أو مذهب، أو عشيرة، أو فخذ، لكل من تضعه ظروفه أمام بيته، لأنه كان بالفعل، نموذج الإنسان الخجول، المتواضع، المحب لكل الناس، المقدام، والذي لم يكن يهمّه أي نوع من أنواع الزينة أو البهرجة، ومحبته لأبنائه وبناته لا يفوقها أي حب آخر، وقد بذل الغالي والرخيص، من أجل راحتهم، وتذليل صعاب الحياة، والخطوط الحمراء لا يمكن لأحد المساس بها تحت أي شعار. فالبساطة جوهره والعقل زينته.
هذه هي أحوال الدنيا التي نقرأ في طياتها أحداثاً كثيرة وصوراً تغرّد بعيداً عن السرب الذي ما زال يفسح الطريق لآخرين للعبور فوقه... فالطريق ما زالت طويلة.
رحمك الله أيها العزيز الغالي بواسع رحمته وأحسن مثواك.
وأخيراً لا يسعنا في هذا المقام إلا أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.