(1)
والخوف ده شيء معروف بيفرعن الحلوف
رزق الملوك الخوف من غيره يندثروا
رزق الملوك بقشيش من خوفنا شعب وجيش
ومفيش ملك بيعيش لو شعبك افتكره
مَن يعيش في مصر في الوقت الحالي بعد الانقلاب العسكري -إن كان ما نسميه هنا حياة فعلاً-، لا يأمن على نفسه مثقال ذرة من أمان بكل أوجهه ورفاهية الشعور به، لا أحد هنا يحظى بجزء منه وإن كان لحظياً، ولو لغمضة عينٍ مطمئنة، فالكل بات يخاف الآخر، لا أحد هنا من جميع الأطراف المختلفة المعارضة لبعضها يتقبلّ الآخر كما هو كي يحظوا جميعاً بقلب الأمان كهدية، فالخوف كل يومٍ يخلق إرهابنا ويطعمه ويكبّره حتى صار وحشاً يقتات على دمائنا!
(2)
أمشي في شوارع مصر -وطني- خائفة أترقب كسيدنا موسى عليه السلام، إلّا أنني لم أرتكب "جنايته" التي جناها -تفسير الطبري-، لم أقتل أحداً.. لم أفعل شيئاً!
أصبح مجرد أن تعيش، أن تمشي بالشوارع، أن تُمارس حياتك اليومية، أن تقضي حاجاتك الضرورية أو أمورك العالقة في روتين الدولة؛ خطرا يهدّدك دون جناية بالاعتقال أو الاختفاء قسراً أو الموت!
الآن وعندما أركب المواصلات أو سيارة الأجرة لا أدخل مع الركاب أو السائق في أحاديث سياسية أو خاصة بأوضاع الوطن كما كنت أفعل في الماضي بعد ثورة يناير، ويا للسخرية وحتى قبلها، ليس لأنه لم يعد يُجدي، بل لأنني أخشى الوشاية بي عند أول كمين شرطة يقابلنا -كما حدث مع أحدهما عندما استقلّ سيارة أجرة وأخذ سائقها يتحدث في السياسة ويسبّ النظام الحالي للبلاد حتى قال الراكب أن ما حدث في مصر انقلاب لا نرضى به ويجب مقاومته فسلّمه السائق عند أول كمين يمران به؛ قائلاً: ياباشا ده بيقول إنه ضد الانقلاب، هكذا ببساطة.. ثم قاد سيارته واختفى!
أو عندما يُبلغ زوجٌ الأمن عن زوجته متهماً إياها بأنها تنضم لفصيل سياسي معارض ومناهض للنظام العسكري الحالي لا لشيء سوى لوجود خلافات أسرية بينهما وكان ذلك عام ٢٠١٤، وفي نفس العام قامت أم بإبلاغ السلطات الأمنية عن ابنها فلذة كبدها بانتمائه لحركة شبابية معارضة للنظام فتم اعتقاله من منزله -مأمنه!
ليس أشد رعباً من ذلك كله إلّا أن تكون في نزهةٍ تحاول أن تسرق لحظات مرح من الواقع المختلّ ثم تُختطف وتختفي ١٥ يوماً لا أحد يعلم عنك فيها شيئاً، ولا تعلم مصيرك هل ستظهر مجدداً للعلن أم ستُدوّن في كشوف المفقودين إلى الأبد -هذا ما حدث فعلياً لإسراء الطويل وصهيب سعد وعمر محمد بتاريخ ١ يونيو/حزيران ٢٠١٥، كانت مجرد نزهة لهم ولم يعودوا؛ ثم ظهروا بالتهم المنسّقة لبدء المحاكمات!
ما لا أعلمه بدقةٍ ما كانت تفكرّ فيه أو تشعر به إسراء وهي مُختطفة من قِبل جهاز الأمن الوطني -أمن الدولة ما قبل الثورة- لكن أكثر ما يُرعبني أن أُختطف وأختفي قسرياً دون أن يعلم أهلي مكاني ومصيري، دون رجعة، ربما كالصحفي رضا هلال المختفي منذ ١١ عاما ولا جديد في قضيته حتى يومنا هذا، أو كآلاف المفقودين منذ ثورة يناير لا نعلم عنهم شيئاً!
في بيتك أيضاً أنت لست آمناً، أنت معرّض لهجوم أمني مسلّح في أية لحظة ليلاً أو نهاراً -لم يعد هناك فرق أو تحسّب-، لا تستطيع النوم مِلء جفنيك، أو تعيش يومك ببراحٍ، قد يشتبهون في حاسوبك أو هاتفك، قد تكون تهمتَك كتبُك، أو ورقة دونت عليها جملة أعجبتك أو رقم صديق أو رمز يُمثِّل مبادئك، أو أو أو أو أنفاس في صدرك ارتفع صوتها قلقاً فاحتسبها سجانوك اعتراضاً، كل تهمتك أنك معارض!
بعد اعتقال أخي الثاني الأصغر من البيت عندما أتى رجال الأمن بحثاً عن أبي المتوفى عام 2010، وأثناء ترحيله في سيارة بوكس الشرطة وهم يضربونه بقسوة وحقد على ظهره ورأسه بدأ أهالي الحيّ بتشجيع الشرطة وتأييد فعلها بقولهم: تسلم الأيادي.. ماترحموش حد!
لكن الأكثر مرارة عندما يمرّ جثمان أخو زوجي بعد سقوطه في مجزرة رمسيس الثانية بتاريخ 16 أغسطس/ آب 2013، وتقوم إحداهنّ بالشماتة تصفيقاً وزغردةً وضحكاً؛ وتقول: أحسن.. عقبالكم كلكم لما تحصّلوه!
فإن أنت تسير في تظاهرة أو مسيرة تجوب شوارع حيكّ ضد الانقلاب هنا أو تغضب للشهداء والاغتيالات المتكررة للمعارضين على يد قوات أمن النظام العسكري، لا تأمن أن تعود منها صحيحاً، فلربما تناوشك بلطجية حيك مَن يعرفونك حق المعرفة -كانوا من قبل لا يقربونك فأنت تُمثِّل لهم قيمةً ومكانةً-، ربما تتلقى كيس قمامة فوق رأسك أو ماء قذرا من ساكنٍ يرفضك -هو جارك أو جار جارك-، أو تسمع من الكلام القبيح والسباب ما يصمّ أذنيك لكن الأقسى على نفسك عندما يلفظك جيرانك بأنه إن لم يعجبك هذا الوطن فارحل عنه، وكأنهم مالكوه وحدهم دونك!
وعندما تقرّر في ألمٍ أن تغادر وطنك فعلاً يصاحبك خوف التوقيف الأمني بالمطار أو وجود اسمك مدرجاً في لوائح المنع من السفر، أو تكون في لوائح ترقّب الوصول كآلاف المصريين المنتظر قدومهم للاعتقال فوراً -كأنه لا يتسع مكان في مصر لهم سوى معتقلات الموت-، أو تزور دولة ما وضعها النظام العسكري في لائحة المغضوب عليهم؛ فيكون قدرك التوقيف 4 ساعات للتحقيق معك في كل ما قمت به في حياتك؛ كما وقع على الزميل براء أشرف في مطار القاهرة يوم الأربعاء 26 أغسطس/ آب 2015 عند عودته لمصر بعدما تبيّن في جواز سفره ختم لدولة تركيا!
لا أسير بهاتفي الجوال مطلقاً وبداخله صور لي أو صور لمناسبات أو أحداثٍ أو شعارات قد تتسبب في اعتقالي لأن السلطة الحالية ببساطة ترفض ذلك ولا تقبل برأيي المعارض لها، فالصورة أصبحت دليل إدانة، وتطبيقات الهاتف الذكي دليل اتهام بأنك من مؤجّجي حروب الجيلين الرابع والخامس وأخيرا السابع، وستهدم تلك الدولة -نكتة مُخجلة-!
أعرف أصدقاء يمسحون من هواتفهم الذكية التطبيقات التي قد تشير إليهم بالريبة أو تجعل منهم مصدر شكٍ لدى أجهزة الأمن وهم خارج منازلهم؛ ثم يعودون لتثبيتها مجدداً حال دخولهم المنازل، ثم عند النوم يُخفون أي أثرٍ لوجودها عن عيون الأخ الأكبر في البلاد!
أحلم بكوابيس مرعبة كل ليلة؛ وأفيق أتحسّس وجهي وأتصبب عرقاً وأنفاسي تلهث وراء السكون، وأتفقّد صغيرتي، أخاف كثيراً على صغيرتي من أهوال ما حاق بمصر، لم أتخيّل نفسي أن أصبح هكذا يوماً خائفة أترقب من كل شيء حتى في مناماتي شديدة الوطأة؛ بعدما كنت أشارك في التظاهرات والمطحنات ولا أبالي، بعدما كنت أجاهر برأيي مهما كانت النتائج، وبعدما كنت أبرز عدائي الشديد لحكم العسكر في شتى وسائل المواصلات والأماكن العامة دون انقباضة خوف، وأناقش بقوة حقٍ كل مَن يرغب في الحوار أو العداء!
أصبح الخوف من طرقة باب، أو سرينة سيارة مسرعةٍ، أو من إيماءة جار لمخبر أمن، أو من حوار لا يقبل بآخر في نهاية الأمر.
(3)
منذ أزمان يرمقنا المجتمع أو الأغلبية الصامتة بنظرات ريبة وحذر وقلق وفضول وفي بعض الأحيان خوف؛ وأننا قلة مندسّة في حشاه ستسبب له أحداثا غامضة ومستقبلا غير مستقر، تهدّد لقمة عيشه، واستقراره المزيف، فيخاف من التغيير.
ربما هذا صحيح بعض الشيء، ربما لا تتقبلنا الأغلبية الصامتة إلا بعد أن ترى منا ما يُقرّ حالها تحسّناً، وما يضمن لها لقمةَ عيش دائمة، وبادرةً حقيقية لمحاربة فسادٍ متجذّر الأركان، وقوةً تغنيها عن البدلة العسكرية.
أذكر أن سائق سيارة أجرة مِمَّن ركبت معهم وكان يُصرّ على الحديث معي في السياسة وحال البلد؛ قال في انتشاء عجيب: أخيراً البلد رجعت لراجل عسكري بحق وحقيقي، راجل يشكمها صحّ ويضرب بإيد من حديد على الكل، ويوقفها على رجلها من تاني، ويحارب الإرهاب، بس اللي حواليه يا أستاذة مش عايزين يسيبوه وعايزينه يفشل!!
إلّا أن سائقا آخر في مشوار آخر تماماً، قال بثقة المحلّل: عارفة يا أستاذة الإخوان كانوا هيفشلوا هيفشلوا في حكم البلد؛ كانوا ضعفا ومش مالين مكانهم، وعايزين يحكموا لوحدهم، أنا كنت بأيد حمدين صباحي وأبطلت صوتي في الإعادة، بس انتخبت المشير السيسي طبعاً.
السائقون والباعة والبسطاء يعكسون شرائح المجتمع المختلفة والمتشعبة، وأمنياتهم المشروعة الصامتة.
يخبرني أحد الباعة أن الحال يزداد صعوبة والغلاء يلتهمنا جميعاً، لكن الرئيس السيسي سينهض بالبلاد وما علينا سوى القليل من الصبر بعض الشيء.. فانظر له واصمت!
(4)
يقبض على سلاحه برعبٍ؛ وعيناه زائغتان من هول الأفكار التي تدور في رأسه؛ لا يستطيع أن يطرف بعينيه للحظة: سيقتلوننا ويمثّلون بِنَا هؤلاء الإرهابيين إن وقعنا في أيديهم كما في الفيديوهات المصورة؛ أو سيقتلوننا بتفجير مدوّ دون أن نأخذ حذرنا في آخر لحظة كما حدث مع عدد من الضباط، هكذا تدور المشاهد بوتيرة سريعة في رأس عسكري الأمن المكلف وزملاءه بتفريق المظاهرات المعارضة واعتقال أصحابها، في ذات اللحظة لا يريد أن يطلق النار، إلّا أن أوامر قائده كتاب مقدس واجب التنفيذ دون نقاش أو يفقد حياته هنا أيضاً ووسط زملائه وبرصاص قائده، فيشجع نفسه قائلاً: الأوامر بتقول كده، وهم عارفين أكتر مني ومننا الناس دي عملت إيه، ويستاهلوا القتل ليه، دول بيرفعوا علامة التوحيد وعلامة رابعة، يبقوا إرهابيين زي ما القائد بيقول، القائد مش بيكدب، ثم دي بردو الحكومة، في حد يخالف الحكومة؟!، ويطلق وابلا من الرصاص الحيّ تُجاه المتظاهرين.. فسيكافئه القائد على ذلك!
(5)
قالَ ليَ الطبيبْ:
خُذ نفساً
فكدتُ ـمن فرط اختناقي
بالأسى والقهر- أستجيبْ
لكنني خشيتُ أن يلمحني الرقيبْ
وقال: ممَّ تشتكي؟
أردتُ أن أُجيبْ
لكنني خشيتُ أن يسمعني الرقيبْ
وعندما حيَّرتهُ بصمتيَ الرهيبْ
وجّه ضوءاً باهراً لمقلتي
حاولَ رفعَ هامتي
لكنني خفضتها
ولذتُ بالنحيبْ
قلتُ له: معذرةً ياسيدي الطبيبْ
أودّ أن أرفعَ رأسي عالياً
لكنني
أخافُ أنْ..يحذفهُ الرقيبْ!
والخوف ده شيء معروف بيفرعن الحلوف
رزق الملوك الخوف من غيره يندثروا
رزق الملوك بقشيش من خوفنا شعب وجيش
ومفيش ملك بيعيش لو شعبك افتكره
مَن يعيش في مصر في الوقت الحالي بعد الانقلاب العسكري -إن كان ما نسميه هنا حياة فعلاً-، لا يأمن على نفسه مثقال ذرة من أمان بكل أوجهه ورفاهية الشعور به، لا أحد هنا يحظى بجزء منه وإن كان لحظياً، ولو لغمضة عينٍ مطمئنة، فالكل بات يخاف الآخر، لا أحد هنا من جميع الأطراف المختلفة المعارضة لبعضها يتقبلّ الآخر كما هو كي يحظوا جميعاً بقلب الأمان كهدية، فالخوف كل يومٍ يخلق إرهابنا ويطعمه ويكبّره حتى صار وحشاً يقتات على دمائنا!
(2)
أمشي في شوارع مصر -وطني- خائفة أترقب كسيدنا موسى عليه السلام، إلّا أنني لم أرتكب "جنايته" التي جناها -تفسير الطبري-، لم أقتل أحداً.. لم أفعل شيئاً!
أصبح مجرد أن تعيش، أن تمشي بالشوارع، أن تُمارس حياتك اليومية، أن تقضي حاجاتك الضرورية أو أمورك العالقة في روتين الدولة؛ خطرا يهدّدك دون جناية بالاعتقال أو الاختفاء قسراً أو الموت!
الآن وعندما أركب المواصلات أو سيارة الأجرة لا أدخل مع الركاب أو السائق في أحاديث سياسية أو خاصة بأوضاع الوطن كما كنت أفعل في الماضي بعد ثورة يناير، ويا للسخرية وحتى قبلها، ليس لأنه لم يعد يُجدي، بل لأنني أخشى الوشاية بي عند أول كمين شرطة يقابلنا -كما حدث مع أحدهما عندما استقلّ سيارة أجرة وأخذ سائقها يتحدث في السياسة ويسبّ النظام الحالي للبلاد حتى قال الراكب أن ما حدث في مصر انقلاب لا نرضى به ويجب مقاومته فسلّمه السائق عند أول كمين يمران به؛ قائلاً: ياباشا ده بيقول إنه ضد الانقلاب، هكذا ببساطة.. ثم قاد سيارته واختفى!
أو عندما يُبلغ زوجٌ الأمن عن زوجته متهماً إياها بأنها تنضم لفصيل سياسي معارض ومناهض للنظام العسكري الحالي لا لشيء سوى لوجود خلافات أسرية بينهما وكان ذلك عام ٢٠١٤، وفي نفس العام قامت أم بإبلاغ السلطات الأمنية عن ابنها فلذة كبدها بانتمائه لحركة شبابية معارضة للنظام فتم اعتقاله من منزله -مأمنه!
ليس أشد رعباً من ذلك كله إلّا أن تكون في نزهةٍ تحاول أن تسرق لحظات مرح من الواقع المختلّ ثم تُختطف وتختفي ١٥ يوماً لا أحد يعلم عنك فيها شيئاً، ولا تعلم مصيرك هل ستظهر مجدداً للعلن أم ستُدوّن في كشوف المفقودين إلى الأبد -هذا ما حدث فعلياً لإسراء الطويل وصهيب سعد وعمر محمد بتاريخ ١ يونيو/حزيران ٢٠١٥، كانت مجرد نزهة لهم ولم يعودوا؛ ثم ظهروا بالتهم المنسّقة لبدء المحاكمات!
ما لا أعلمه بدقةٍ ما كانت تفكرّ فيه أو تشعر به إسراء وهي مُختطفة من قِبل جهاز الأمن الوطني -أمن الدولة ما قبل الثورة- لكن أكثر ما يُرعبني أن أُختطف وأختفي قسرياً دون أن يعلم أهلي مكاني ومصيري، دون رجعة، ربما كالصحفي رضا هلال المختفي منذ ١١ عاما ولا جديد في قضيته حتى يومنا هذا، أو كآلاف المفقودين منذ ثورة يناير لا نعلم عنهم شيئاً!
في بيتك أيضاً أنت لست آمناً، أنت معرّض لهجوم أمني مسلّح في أية لحظة ليلاً أو نهاراً -لم يعد هناك فرق أو تحسّب-، لا تستطيع النوم مِلء جفنيك، أو تعيش يومك ببراحٍ، قد يشتبهون في حاسوبك أو هاتفك، قد تكون تهمتَك كتبُك، أو ورقة دونت عليها جملة أعجبتك أو رقم صديق أو رمز يُمثِّل مبادئك، أو أو أو أو أنفاس في صدرك ارتفع صوتها قلقاً فاحتسبها سجانوك اعتراضاً، كل تهمتك أنك معارض!
بعد اعتقال أخي الثاني الأصغر من البيت عندما أتى رجال الأمن بحثاً عن أبي المتوفى عام 2010، وأثناء ترحيله في سيارة بوكس الشرطة وهم يضربونه بقسوة وحقد على ظهره ورأسه بدأ أهالي الحيّ بتشجيع الشرطة وتأييد فعلها بقولهم: تسلم الأيادي.. ماترحموش حد!
لكن الأكثر مرارة عندما يمرّ جثمان أخو زوجي بعد سقوطه في مجزرة رمسيس الثانية بتاريخ 16 أغسطس/ آب 2013، وتقوم إحداهنّ بالشماتة تصفيقاً وزغردةً وضحكاً؛ وتقول: أحسن.. عقبالكم كلكم لما تحصّلوه!
فإن أنت تسير في تظاهرة أو مسيرة تجوب شوارع حيكّ ضد الانقلاب هنا أو تغضب للشهداء والاغتيالات المتكررة للمعارضين على يد قوات أمن النظام العسكري، لا تأمن أن تعود منها صحيحاً، فلربما تناوشك بلطجية حيك مَن يعرفونك حق المعرفة -كانوا من قبل لا يقربونك فأنت تُمثِّل لهم قيمةً ومكانةً-، ربما تتلقى كيس قمامة فوق رأسك أو ماء قذرا من ساكنٍ يرفضك -هو جارك أو جار جارك-، أو تسمع من الكلام القبيح والسباب ما يصمّ أذنيك لكن الأقسى على نفسك عندما يلفظك جيرانك بأنه إن لم يعجبك هذا الوطن فارحل عنه، وكأنهم مالكوه وحدهم دونك!
وعندما تقرّر في ألمٍ أن تغادر وطنك فعلاً يصاحبك خوف التوقيف الأمني بالمطار أو وجود اسمك مدرجاً في لوائح المنع من السفر، أو تكون في لوائح ترقّب الوصول كآلاف المصريين المنتظر قدومهم للاعتقال فوراً -كأنه لا يتسع مكان في مصر لهم سوى معتقلات الموت-، أو تزور دولة ما وضعها النظام العسكري في لائحة المغضوب عليهم؛ فيكون قدرك التوقيف 4 ساعات للتحقيق معك في كل ما قمت به في حياتك؛ كما وقع على الزميل براء أشرف في مطار القاهرة يوم الأربعاء 26 أغسطس/ آب 2015 عند عودته لمصر بعدما تبيّن في جواز سفره ختم لدولة تركيا!
لا أسير بهاتفي الجوال مطلقاً وبداخله صور لي أو صور لمناسبات أو أحداثٍ أو شعارات قد تتسبب في اعتقالي لأن السلطة الحالية ببساطة ترفض ذلك ولا تقبل برأيي المعارض لها، فالصورة أصبحت دليل إدانة، وتطبيقات الهاتف الذكي دليل اتهام بأنك من مؤجّجي حروب الجيلين الرابع والخامس وأخيرا السابع، وستهدم تلك الدولة -نكتة مُخجلة-!
أعرف أصدقاء يمسحون من هواتفهم الذكية التطبيقات التي قد تشير إليهم بالريبة أو تجعل منهم مصدر شكٍ لدى أجهزة الأمن وهم خارج منازلهم؛ ثم يعودون لتثبيتها مجدداً حال دخولهم المنازل، ثم عند النوم يُخفون أي أثرٍ لوجودها عن عيون الأخ الأكبر في البلاد!
أحلم بكوابيس مرعبة كل ليلة؛ وأفيق أتحسّس وجهي وأتصبب عرقاً وأنفاسي تلهث وراء السكون، وأتفقّد صغيرتي، أخاف كثيراً على صغيرتي من أهوال ما حاق بمصر، لم أتخيّل نفسي أن أصبح هكذا يوماً خائفة أترقب من كل شيء حتى في مناماتي شديدة الوطأة؛ بعدما كنت أشارك في التظاهرات والمطحنات ولا أبالي، بعدما كنت أجاهر برأيي مهما كانت النتائج، وبعدما كنت أبرز عدائي الشديد لحكم العسكر في شتى وسائل المواصلات والأماكن العامة دون انقباضة خوف، وأناقش بقوة حقٍ كل مَن يرغب في الحوار أو العداء!
أصبح الخوف من طرقة باب، أو سرينة سيارة مسرعةٍ، أو من إيماءة جار لمخبر أمن، أو من حوار لا يقبل بآخر في نهاية الأمر.
(3)
منذ أزمان يرمقنا المجتمع أو الأغلبية الصامتة بنظرات ريبة وحذر وقلق وفضول وفي بعض الأحيان خوف؛ وأننا قلة مندسّة في حشاه ستسبب له أحداثا غامضة ومستقبلا غير مستقر، تهدّد لقمة عيشه، واستقراره المزيف، فيخاف من التغيير.
ربما هذا صحيح بعض الشيء، ربما لا تتقبلنا الأغلبية الصامتة إلا بعد أن ترى منا ما يُقرّ حالها تحسّناً، وما يضمن لها لقمةَ عيش دائمة، وبادرةً حقيقية لمحاربة فسادٍ متجذّر الأركان، وقوةً تغنيها عن البدلة العسكرية.
أذكر أن سائق سيارة أجرة مِمَّن ركبت معهم وكان يُصرّ على الحديث معي في السياسة وحال البلد؛ قال في انتشاء عجيب: أخيراً البلد رجعت لراجل عسكري بحق وحقيقي، راجل يشكمها صحّ ويضرب بإيد من حديد على الكل، ويوقفها على رجلها من تاني، ويحارب الإرهاب، بس اللي حواليه يا أستاذة مش عايزين يسيبوه وعايزينه يفشل!!
إلّا أن سائقا آخر في مشوار آخر تماماً، قال بثقة المحلّل: عارفة يا أستاذة الإخوان كانوا هيفشلوا هيفشلوا في حكم البلد؛ كانوا ضعفا ومش مالين مكانهم، وعايزين يحكموا لوحدهم، أنا كنت بأيد حمدين صباحي وأبطلت صوتي في الإعادة، بس انتخبت المشير السيسي طبعاً.
السائقون والباعة والبسطاء يعكسون شرائح المجتمع المختلفة والمتشعبة، وأمنياتهم المشروعة الصامتة.
يخبرني أحد الباعة أن الحال يزداد صعوبة والغلاء يلتهمنا جميعاً، لكن الرئيس السيسي سينهض بالبلاد وما علينا سوى القليل من الصبر بعض الشيء.. فانظر له واصمت!
(4)
يقبض على سلاحه برعبٍ؛ وعيناه زائغتان من هول الأفكار التي تدور في رأسه؛ لا يستطيع أن يطرف بعينيه للحظة: سيقتلوننا ويمثّلون بِنَا هؤلاء الإرهابيين إن وقعنا في أيديهم كما في الفيديوهات المصورة؛ أو سيقتلوننا بتفجير مدوّ دون أن نأخذ حذرنا في آخر لحظة كما حدث مع عدد من الضباط، هكذا تدور المشاهد بوتيرة سريعة في رأس عسكري الأمن المكلف وزملاءه بتفريق المظاهرات المعارضة واعتقال أصحابها، في ذات اللحظة لا يريد أن يطلق النار، إلّا أن أوامر قائده كتاب مقدس واجب التنفيذ دون نقاش أو يفقد حياته هنا أيضاً ووسط زملائه وبرصاص قائده، فيشجع نفسه قائلاً: الأوامر بتقول كده، وهم عارفين أكتر مني ومننا الناس دي عملت إيه، ويستاهلوا القتل ليه، دول بيرفعوا علامة التوحيد وعلامة رابعة، يبقوا إرهابيين زي ما القائد بيقول، القائد مش بيكدب، ثم دي بردو الحكومة، في حد يخالف الحكومة؟!، ويطلق وابلا من الرصاص الحيّ تُجاه المتظاهرين.. فسيكافئه القائد على ذلك!
(5)
قالَ ليَ الطبيبْ:
خُذ نفساً
فكدتُ ـمن فرط اختناقي
بالأسى والقهر- أستجيبْ
لكنني خشيتُ أن يلمحني الرقيبْ
وقال: ممَّ تشتكي؟
أردتُ أن أُجيبْ
لكنني خشيتُ أن يسمعني الرقيبْ
وعندما حيَّرتهُ بصمتيَ الرهيبْ
وجّه ضوءاً باهراً لمقلتي
حاولَ رفعَ هامتي
لكنني خفضتها
ولذتُ بالنحيبْ
قلتُ له: معذرةً ياسيدي الطبيبْ
أودّ أن أرفعَ رأسي عالياً
لكنني
أخافُ أنْ..يحذفهُ الرقيبْ!
..
*الشعر في (1) للشاعر تميم البرغوثي
*الشعر في (5) للشاعر أحمد مطر
(مصر)