04 نوفمبر 2024
رسائل "بركات لطيف" الحزينة إلى الأول من أيار
لا أحد في سورية، أو من المطلعين عن قرب على المشهد الشعري السوري، في ثمانينيات القرن العشرين إلا ويعلم تلك المكانة التي احتلها الشاعر بركات لطيف - مدَّ الله في عمره - بعد صدور مجوعته الشعرية الأولى في قلوب مُحبيه. وإذا كان يحلو للبعض، وأنا منهم، أن يعتبر أن ديوان "أناشيد سائق القطار" الصادر عن وزارة الثقافة تلك الأيام، كان هدية ثمينة تناولته الأيدي بشغف ودهشة ومحبة لما تضمنه من قصائد مذهلة في بساطتها وعمقها ورقة حواشيها ومنخول عباراتها، فكان خير جليس في ذلك الزمان.
ورحنا نسأل بشغف، ونحن فتيان لا نزال، والبسمة لا تفارق ثغورنا، هل حقاً بركات لطيف سائق قطار؟.. سألتني زميلتي في الجامعة وكانت مهتمة بالشعر والشعراء - ومتى كفَّ البشر عن الاهتمام بالشعر - مع أنها تدرس الطب وكنت لا أزال متدرباً في المعهد الطبي قسم تخدير وإنعاش، نعمل معاً في غرفة العمليات في مشفى الكندي في حلب، نساعد على قدر خبرتنا المكتسبة في عملية جراحيَّة لاستخراج حصى من كلية مريضة في الخمسين من عمرها، وهي عملية دقيقة ومتعبة وتتطلب جهداً وصبراً وتستغرق وقتاً طويلاً.
كان ديوان "أناشيد سائق القطار" من ضمن ما دخل معي إلى غرفة العمليات، أقرأ قصائده للطاقم الطبي الكبير الذي يقوم بالعمل المتعب لساعات مديدة. وكان الشعر يكسر تلك الرتابة والجديَّة المفرطة في غرفة العمليات، وزيادة في الإمتاع والمؤانسة يرافقنا صوت كوكب الشرق من مسجل صغير في زاوية الغرفة الواسعة تصدح برباعيات الخيام.
بعد قراءة مجموعة من قصائد الديوان، قالت: هل أنتَ على يقين أن مَن كتب هذه القصائد يعمل سائق قطار؟.. قلت: على حدَّ علمي، نعم، هو سائق قطار درعا - دمشق.
ولكن ما سبب دهشتك؟.. قالت: سبب دهشتي أن قصائد الديوان تشبه كلام الرسائل الحزينة التي يكتبها العمال في الغربة إلى أهاليهم وحبيباتهم يبوحون فيها بمكنونات صدورهم العامرة بالشوق والحنين إلى تلك الحياة البسيطة الأليفة في ديارهم. إنه أحد هؤلاء الذين يمكنك الوثوق بما يكتبون عن مدن هذا العالم الظالم الجشع الذي يسعى لسحق البشر على سكك الحديد التي تسير عليها كل قطارات العالم في كل الاتجاهات.
تحس من كلماته وجمله وتعابيره وتشبيهاته بأن كاتبها سائق قطار فعلاً، ولكن في كلماته حزناً مُقيماً، وكأنه الحزن الذي قال فيه الثائر الأرجنتيني المشهور أرنستو تشي غيفارا: كنت أتصور أن الحزن يمكن أن يكون صديقاً، لكنني لم أكن أتصور أن يكون وطناً نسكنه، ونتكلم لغته، ونحمل جنسيته.
تسمع من خلال قصائد بركات لطيف صافرة قاطرته، وتشمّ رائحة الديزل والزيت المحروق المُتسرب من أنابيب ووصلات وبراغي وعزقات المحرك الجبار الذي يجرّ القطار إلى الأمام، وتعتريك الرغبة في الصعود على متن هذا القطار الذي يشق فجر الصباح ويتجه إلى قرص الشمس الأحمر مباشرة. وتتمنى أن تُسافر معه على هدير أو ضجيج صوت تلك العجلات المنطلقة بحريَّة وثبات على القضيبين الحديديين المتوازيين وأنت تُصغي إلى هسهسة الحصى التي تشد عضد بعضها تحت ثقل القطار المُسافر.
أعجبني كلام الطبيبة في تقويم قصائد بركات لطيف، فسألتها: هل أنت شيوعيَّة؟ فقالت: ما يهمك من أمري أكنت شيوعية أو كونفشيوسية. حفظت ما قالته عن ظهر قلب - أين أنت الآن يا صديقتي الكونفشيوسية الجميلة في زمننا الأغبر هذا - وبعد حين صدر الديوان الثاني "أوراق الليمون"، فرحنا بقصائده فرح العيد.
في الصفحة الأولى يكتب:
ورحنا نسأل بشغف، ونحن فتيان لا نزال، والبسمة لا تفارق ثغورنا، هل حقاً بركات لطيف سائق قطار؟.. سألتني زميلتي في الجامعة وكانت مهتمة بالشعر والشعراء - ومتى كفَّ البشر عن الاهتمام بالشعر - مع أنها تدرس الطب وكنت لا أزال متدرباً في المعهد الطبي قسم تخدير وإنعاش، نعمل معاً في غرفة العمليات في مشفى الكندي في حلب، نساعد على قدر خبرتنا المكتسبة في عملية جراحيَّة لاستخراج حصى من كلية مريضة في الخمسين من عمرها، وهي عملية دقيقة ومتعبة وتتطلب جهداً وصبراً وتستغرق وقتاً طويلاً.
كان ديوان "أناشيد سائق القطار" من ضمن ما دخل معي إلى غرفة العمليات، أقرأ قصائده للطاقم الطبي الكبير الذي يقوم بالعمل المتعب لساعات مديدة. وكان الشعر يكسر تلك الرتابة والجديَّة المفرطة في غرفة العمليات، وزيادة في الإمتاع والمؤانسة يرافقنا صوت كوكب الشرق من مسجل صغير في زاوية الغرفة الواسعة تصدح برباعيات الخيام.
بعد قراءة مجموعة من قصائد الديوان، قالت: هل أنتَ على يقين أن مَن كتب هذه القصائد يعمل سائق قطار؟.. قلت: على حدَّ علمي، نعم، هو سائق قطار درعا - دمشق.
ولكن ما سبب دهشتك؟.. قالت: سبب دهشتي أن قصائد الديوان تشبه كلام الرسائل الحزينة التي يكتبها العمال في الغربة إلى أهاليهم وحبيباتهم يبوحون فيها بمكنونات صدورهم العامرة بالشوق والحنين إلى تلك الحياة البسيطة الأليفة في ديارهم. إنه أحد هؤلاء الذين يمكنك الوثوق بما يكتبون عن مدن هذا العالم الظالم الجشع الذي يسعى لسحق البشر على سكك الحديد التي تسير عليها كل قطارات العالم في كل الاتجاهات.
تحس من كلماته وجمله وتعابيره وتشبيهاته بأن كاتبها سائق قطار فعلاً، ولكن في كلماته حزناً مُقيماً، وكأنه الحزن الذي قال فيه الثائر الأرجنتيني المشهور أرنستو تشي غيفارا: كنت أتصور أن الحزن يمكن أن يكون صديقاً، لكنني لم أكن أتصور أن يكون وطناً نسكنه، ونتكلم لغته، ونحمل جنسيته.
تسمع من خلال قصائد بركات لطيف صافرة قاطرته، وتشمّ رائحة الديزل والزيت المحروق المُتسرب من أنابيب ووصلات وبراغي وعزقات المحرك الجبار الذي يجرّ القطار إلى الأمام، وتعتريك الرغبة في الصعود على متن هذا القطار الذي يشق فجر الصباح ويتجه إلى قرص الشمس الأحمر مباشرة. وتتمنى أن تُسافر معه على هدير أو ضجيج صوت تلك العجلات المنطلقة بحريَّة وثبات على القضيبين الحديديين المتوازيين وأنت تُصغي إلى هسهسة الحصى التي تشد عضد بعضها تحت ثقل القطار المُسافر.
أعجبني كلام الطبيبة في تقويم قصائد بركات لطيف، فسألتها: هل أنت شيوعيَّة؟ فقالت: ما يهمك من أمري أكنت شيوعية أو كونفشيوسية. حفظت ما قالته عن ظهر قلب - أين أنت الآن يا صديقتي الكونفشيوسية الجميلة في زمننا الأغبر هذا - وبعد حين صدر الديوان الثاني "أوراق الليمون"، فرحنا بقصائده فرح العيد.
في الصفحة الأولى يكتب:
الشعر ثقيل الظل
وفي البيت تحطم أوزانه
طلبات الأطفال
والكلمات ترفض احتواء الأحزان
فهل يكفي يوم من عام
لنفرغ فيه قرنا من البكاء
حملت معي ديوان "أوراق الليمون" إلى فرقة الدبابات التي أخدم فيها فترة التجنيد في مدينة الصنمين، تلقفه ساعة وصولي صديقي الجميل من قرية بشرائيل في صافيتا رجب حسن عيسى - أسعد الله أوقاته - فأُعجب بالقصائد جداً.. قصائد الديوان كأنها أوراق ليمون طازجة رماها بركات لطيف في وجه هذا العالم القاسي والفاجر والمثقل بالحزن عسى ولعل تُنعشه برائحتها المميزة.
وفي البيت تحطم أوزانه
طلبات الأطفال
والكلمات ترفض احتواء الأحزان
فهل يكفي يوم من عام
لنفرغ فيه قرنا من البكاء
حملت معي ديوان "أوراق الليمون" إلى فرقة الدبابات التي أخدم فيها فترة التجنيد في مدينة الصنمين، تلقفه ساعة وصولي صديقي الجميل من قرية بشرائيل في صافيتا رجب حسن عيسى - أسعد الله أوقاته - فأُعجب بالقصائد جداً.. قصائد الديوان كأنها أوراق ليمون طازجة رماها بركات لطيف في وجه هذا العالم القاسي والفاجر والمثقل بالحزن عسى ولعل تُنعشه برائحتها المميزة.