07 اغسطس 2024
رسائل الحوار الاستراتيجي القطري الأميركي
عقدت في واشنطن، الأسبوع الماضي، جلسات الحوار الاستراتيجي السنوي بين قطر والولايات المتحدة، وحضر أولها وزيرا الدفاع والخارجية الأميركيان ونظيراهما القطريان، وخرجت بتصور إيجابي للعلاقات بين البلدين، وسبل تطويرها على المستويات الرئيسية، الأمن والدفاع والاقتصاد، في السنوات المقبلة، تماشيا مع تأسيس آلية الحوار الاستراتيجي السنوي، تنعقد جلستها الثانية العام المقبل في الدوحة. ويحمل تأسيس هذه الآلية، بعد ثمانية أشهر على الأزمة الخليجية، والتي شهدت مشاركة أولية صادمة للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في دعم دول الحصار، رسائل ودلالات مهمة لأطراف متعدّدة. أولها إلى الطرف الأميركي نفسه، حيث تسعى قطر إلى تعزيز علاقاتها بالولايات المتحدة على مستوى مؤسسات الحكم الأميركية نفسها، وبشكل يضمن عدم تكرار ما حدث من الرئيس ترامب.
وقد اشتمل البيان الذي صدر، بعد انتهاء جلسة الحوار الأولى، قائمةً طويلةً من جوانب استثمار قطر في تحالفها مع أميركا في جوانبه المختلفة، وفي مقدمتها استضافة القاعدة الأميركية في العيديد، واستثمار حوالي مائة مليار دولار في الاقتصاد الأميركي، وكذلك التعاون في المجالات الاقتصادية والأمنية ومكافحة الإرهاب. وقد عبر المسؤولون القطريون أيضا، على هامش الحوار، عن رغبتهم في تعميق العلاقة أكثر، من خلال توسيع قاعدة العيديد، وهي الأهم لأميركا في الشرق الأوسط، وتحويلها إلى قاعدة دائمة، وكذلك توقيع مزيد من اتفاقات شراء الأسلحة والتدريب العسكري من الولايات المتحدة، وتشجيع التعاون والتنسيق بين مختلف مؤسسات الحكم الأميركية ونظيرتها القطرية.
باختصار، تريد قطر تذكير الولايات المتحدة وصانعي القرار الأميركيين، على مستوياتٍ
مختلفة، بما تقدّمه للولايات المتحدة بوصفها حليفا في المنطقة، وهي رسالةٌ يبدو أنها وصلت إلى فئات عديدة في المجتمع الأميركي. حيث سبق عقد الحوار، بأيام، اتصال هاتفي أجراه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مع أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، أشاد فيه ترامب "بدور قطر في مكافحة الإرهاب". كما شهدت انطلاقة الحوار مشاركة وزيري الدفاع والخارجية الأميركيين، جيمس ماتيس وريكس تيلرسون، كما تزامن انعقاده مع مشاركاتٍ للمسؤولين القطريين في مؤتمرات إعلامية في أكبر مراكز الفكر الأميركية المحافظة، مثل "هريتاج فوندايشين ومعهد أميركان إنتربرايز، وهما تقريبا أهم مركزي أبحاث محسوبين على الحزب الجمهوري واليمين الأميركي، وكأن قطر تحاول التأكد من وصول رسالتها إلى الفئات الأقل تعاطفا معها، والمتمثلة في هذا اليمين وقواعده السياسية والجماهيرية. ويعد عقد الحوار على هذا المستوى خطوة مهمة للغاية، غير أن من المهم أن تتبعه خطوات قطرية مستمرة، للوصول إلى وسائل الإعلام واللوبيات الأميركية النافذة، وهو المتوقع، لأن الطريق للتأثير على الرأي العام الأميركي طويل ومرهق للغاية، ويحتاج عملا متشعبا مستمرا، لا يتوقف.
الرسالة الثانية للمؤتمر هي تراجع الحصار وانحساره في ظل نمو دبلوماسية قطر واستقلاليتها، ففي يونيو/ حزيران الماضي، دعم الرئيس ترامب الحصار ودوله. وسارعت قطر، في المقابل، لتفعيل علاقاتها بشركائها الأوروبيين، وظهر دور فاعل لألمانيا ووزير خارجيتها، والذي انتقد بشكل مباشر ترامب ودوره في الأزمة. وبعد مرور ثمانية أشهر، تظهر بعض ثمار تفعيل قطر دبلوماسيتها في واشنطن نفسها.
تزامن ذلك مع تراجع الحصار وانحساره على المستويات المختلفة، فقد امتصت قطر أزمة غلق حدودها البرية، وعدم توافر الأغذية القادمة من العربية السعودية، وامتصت الضغوط الأولية على اقتصادها ومحاولة التأثير على عملتها، بل توسعت في تصدير الغاز وفتح موانئها والاستيراد بحرا.
وحرصت قطر أيضا على تنويع علاقاتها، خصوصا على الصعيد العسكري والأمني، من خلال استضافة مزيد من الجنود الأتراك، وتوقيع عقود استيراد طائرات إف - 15 الأميركية، وشراء سفن حربية من إيطاليا وطائرات حربية من بريطانيا، هذا بالإضافة إلى اتفاقات سابقة لشراء طائرات الرافال القطرية، حتى أن نائب رئيس الوزراء، وزير الدولة لشؤون الدفاع القطري، خالد بن عطية، بعد كلمة ألقاها في مركز هريتاج فواندايشين عما إذا كانت بلاده تنوي شراء أنظمة دفاع جوي روسية. ومعلوم أن تنويع مصادر الأسلحة والشراكات الأمنية والاقتصادية القطرية بعد الحصار أصبح بمثابة ضرورة أمنية لقطر، خصوصا بعد الموقف الأولي لترامب تجاه الأزمة، والذي عمق مخاوف القطريين ولاعبين دوليين كثيرين، منهم قادة أوروبيون أساسيون، بخصوص مدى التزام أميركا بشراكاتها السياسية والأمنية. بمعنى آخر، لا يعني إطلاق الحوار الاستراتيجي بين قطر والولايات المتحدة انكفاء قطر على علاقاتها بأميركا، لكنه يعني استمرار مساعيها إلى إفشال الحصار المفروض عليها بتعميق علاقاتها بأميركا، من دون التخلي عن تنويع مصادر أمنها.
الرسالة الثالثة من عقد الحوار، وقد تبدت في تصريحات المسؤولين القطريين، قبل الجلسات
وبعدها، أن قطر لن تتراجع عن مواقفها الأساسية التي تراها مشروعة، وأن الأزمة الخليجية سوف تستمر حتى تغير دول الحصار سياساتها، بل طالبت قطر بما يمكن وصفه نظاما أمنيا جماعيا جديدا في المنطقة، يقوم على الياتٍ للتعاون وفض النزاع، تضمن المساواة بين دول المنطقة، بغض النظر عن حجمها. ومعروف أن دخول أنظمة المنطقة في نظم أمن جماعية أمر غاية في الصعوبة، بسبب طبيعة النظم العربية نفسها، والتي تفضّل علاقات القوة والتنافس، وترفض الثقة في جيرانها، أو الدخول في شراكاتٍ منتظمة معهم، ونظم جامعة حاكمة، خوفا من أن تحد من نزواتها، وتفرض قيودا عليها، فالنظم الاستبدادية لا تثق في شعوبها، أو في النخب الحاكمة في بلدانها، ومن ثم لن تقبل بالخضوع لنظم أمن خارجية جماعية، ذات معايير واضحة، تطبق على الجميع، وتحد من شهوتهم للسلطة والنفوذ.
وقد أدت الأزمة الخليجية إلى انهيار الثقة بين النظم الخليجية، وهي ثقة لن تعود بسهولة، فهي تتطلب توقف الحصار، وإعادة بناء العلاقات على أسسٍ جديدة، كالتي تطالب بها قطر، وهو أمر يصعب تصور تحققه حاليا، خصوصا في غياب أي ضغوط أميركية حاسمة على دول الحصار، فالولايات المتحدة تبدو مكتفيةً، في الفترة الحالية، بالوضع الراهن، لأسباب غير واضحة، فربما لا ترغب في استثمار مزيد من الجهد لحل الأزمة، أو في ممارسة أي ضغوط إضافية على دول الحصار، يمكن أن تضر بمصالحها مع الدول التي تتعنت في مواقفها. وربما لا تمتلك إدارة ترامب بعد تصورا واضحا للتعامل مع دول الحصار التي تشارك في أزمةٍ أكبر من أزمة حصار قطر، والمتمثلة في حرب اليمن، وقد تشهد الشهور المقبلة تبلور مثل هذا التصور. أو ربما ترى قياداتٌ أميركية يمينيةٌ أن الأزمة الحالية تحقق مصالحها، حيث تعود على الولايات المتحدة بمزيد من الشراكات الأمنية والاقتصادية الثنائية، وترسخ الحاجة للضمانات الأمنية الأميركية، في غياب أي نظم أمنية إقليمية جامعة.
باختصار، الحوار الاستراتيجي القطري الأميركي من ثمار ردود الفعل القطرية على الأزمة الخليجية، ومحاولة قطر تعميق علاقاتها بالولايات المتحدة، خصوصا على المستوى المؤسسي، وتذكير صانعي القرار الأميركي بمزايا الشراكة القطرية الأميركية، وذلك من دون الانكفاء على العلاقات بين البلدين، أو التخلي عن تنويع قطر مصادر أمنها وشراكتها السياسية والاقتصادية، أو التخلي عن موقف قطر من الأزمة الخليجية، وإصرارها على عدم التراجع عن مبادئها، ومطالبة دول الحصار بتغيير سلوكها، وهو ما لا تتوقع قطر حدوثه سريعا، لما يتطلبه من تغيير جاد في طريقة تفكير سياسات تلك الدول وطبيعتها.
وقد اشتمل البيان الذي صدر، بعد انتهاء جلسة الحوار الأولى، قائمةً طويلةً من جوانب استثمار قطر في تحالفها مع أميركا في جوانبه المختلفة، وفي مقدمتها استضافة القاعدة الأميركية في العيديد، واستثمار حوالي مائة مليار دولار في الاقتصاد الأميركي، وكذلك التعاون في المجالات الاقتصادية والأمنية ومكافحة الإرهاب. وقد عبر المسؤولون القطريون أيضا، على هامش الحوار، عن رغبتهم في تعميق العلاقة أكثر، من خلال توسيع قاعدة العيديد، وهي الأهم لأميركا في الشرق الأوسط، وتحويلها إلى قاعدة دائمة، وكذلك توقيع مزيد من اتفاقات شراء الأسلحة والتدريب العسكري من الولايات المتحدة، وتشجيع التعاون والتنسيق بين مختلف مؤسسات الحكم الأميركية ونظيرتها القطرية.
باختصار، تريد قطر تذكير الولايات المتحدة وصانعي القرار الأميركيين، على مستوياتٍ
الرسالة الثانية للمؤتمر هي تراجع الحصار وانحساره في ظل نمو دبلوماسية قطر واستقلاليتها، ففي يونيو/ حزيران الماضي، دعم الرئيس ترامب الحصار ودوله. وسارعت قطر، في المقابل، لتفعيل علاقاتها بشركائها الأوروبيين، وظهر دور فاعل لألمانيا ووزير خارجيتها، والذي انتقد بشكل مباشر ترامب ودوره في الأزمة. وبعد مرور ثمانية أشهر، تظهر بعض ثمار تفعيل قطر دبلوماسيتها في واشنطن نفسها.
تزامن ذلك مع تراجع الحصار وانحساره على المستويات المختلفة، فقد امتصت قطر أزمة غلق حدودها البرية، وعدم توافر الأغذية القادمة من العربية السعودية، وامتصت الضغوط الأولية على اقتصادها ومحاولة التأثير على عملتها، بل توسعت في تصدير الغاز وفتح موانئها والاستيراد بحرا.
وحرصت قطر أيضا على تنويع علاقاتها، خصوصا على الصعيد العسكري والأمني، من خلال استضافة مزيد من الجنود الأتراك، وتوقيع عقود استيراد طائرات إف - 15 الأميركية، وشراء سفن حربية من إيطاليا وطائرات حربية من بريطانيا، هذا بالإضافة إلى اتفاقات سابقة لشراء طائرات الرافال القطرية، حتى أن نائب رئيس الوزراء، وزير الدولة لشؤون الدفاع القطري، خالد بن عطية، بعد كلمة ألقاها في مركز هريتاج فواندايشين عما إذا كانت بلاده تنوي شراء أنظمة دفاع جوي روسية. ومعلوم أن تنويع مصادر الأسلحة والشراكات الأمنية والاقتصادية القطرية بعد الحصار أصبح بمثابة ضرورة أمنية لقطر، خصوصا بعد الموقف الأولي لترامب تجاه الأزمة، والذي عمق مخاوف القطريين ولاعبين دوليين كثيرين، منهم قادة أوروبيون أساسيون، بخصوص مدى التزام أميركا بشراكاتها السياسية والأمنية. بمعنى آخر، لا يعني إطلاق الحوار الاستراتيجي بين قطر والولايات المتحدة انكفاء قطر على علاقاتها بأميركا، لكنه يعني استمرار مساعيها إلى إفشال الحصار المفروض عليها بتعميق علاقاتها بأميركا، من دون التخلي عن تنويع مصادر أمنها.
الرسالة الثالثة من عقد الحوار، وقد تبدت في تصريحات المسؤولين القطريين، قبل الجلسات
وقد أدت الأزمة الخليجية إلى انهيار الثقة بين النظم الخليجية، وهي ثقة لن تعود بسهولة، فهي تتطلب توقف الحصار، وإعادة بناء العلاقات على أسسٍ جديدة، كالتي تطالب بها قطر، وهو أمر يصعب تصور تحققه حاليا، خصوصا في غياب أي ضغوط أميركية حاسمة على دول الحصار، فالولايات المتحدة تبدو مكتفيةً، في الفترة الحالية، بالوضع الراهن، لأسباب غير واضحة، فربما لا ترغب في استثمار مزيد من الجهد لحل الأزمة، أو في ممارسة أي ضغوط إضافية على دول الحصار، يمكن أن تضر بمصالحها مع الدول التي تتعنت في مواقفها. وربما لا تمتلك إدارة ترامب بعد تصورا واضحا للتعامل مع دول الحصار التي تشارك في أزمةٍ أكبر من أزمة حصار قطر، والمتمثلة في حرب اليمن، وقد تشهد الشهور المقبلة تبلور مثل هذا التصور. أو ربما ترى قياداتٌ أميركية يمينيةٌ أن الأزمة الحالية تحقق مصالحها، حيث تعود على الولايات المتحدة بمزيد من الشراكات الأمنية والاقتصادية الثنائية، وترسخ الحاجة للضمانات الأمنية الأميركية، في غياب أي نظم أمنية إقليمية جامعة.
باختصار، الحوار الاستراتيجي القطري الأميركي من ثمار ردود الفعل القطرية على الأزمة الخليجية، ومحاولة قطر تعميق علاقاتها بالولايات المتحدة، خصوصا على المستوى المؤسسي، وتذكير صانعي القرار الأميركي بمزايا الشراكة القطرية الأميركية، وذلك من دون الانكفاء على العلاقات بين البلدين، أو التخلي عن تنويع قطر مصادر أمنها وشراكتها السياسية والاقتصادية، أو التخلي عن موقف قطر من الأزمة الخليجية، وإصرارها على عدم التراجع عن مبادئها، ومطالبة دول الحصار بتغيير سلوكها، وهو ما لا تتوقع قطر حدوثه سريعا، لما يتطلبه من تغيير جاد في طريقة تفكير سياسات تلك الدول وطبيعتها.