رسالة السيسي على لسان عمرو
- "بس يا فندم الوقت متأخر دلوقتي، هل ممكن نأجلها لبكره الصبح، عشان أكتب كلام كويس ونصوره بشكل حلو.
ـ انت هترغي ليه، يا شيخ عمرو، البلد والعة والشباب محتاج اللي يهدّيه، صوّر أي كلمتين من بتوعك ونزلهم على النت فورا".
هل دار هذا الحوار بين الداعية "الدعائي" عمرو خالد ولواءٍ ما، قبل أن يسجل عمرو رسالته المصورة الأخيرة لشباب مصر، والتي اختار بثها من دون مؤثرات فنية، كالتي يستخدمها في برامجه؟ أم أن عمرو قرر تسجيل رسالته بذلك الشكل لتبدو عفوية، فتصل أسرع إلى "جمهوره المستهدف"؟، هل أرادت دولة عبد الفتاح السيسي أن تستغل مجدداً قدرة عمرو على الإقناع؟ كما فعلت قبل مذبحة رابعة، حين استدعته مع الشيخ علي جمعة والشيخ سالم عبد الجليل، ليرفعوا معنويات الضباط المكلفين بفض اعتصام ميدان رابعة، فيقتلوا بقلب جامد وعزيمة راسخة؟ أم أن عمرو قرر متطوعاً مجاملة دولة السيسي في لحظة زنقة، لعلها تتيح له مجالاً أوسع للحركة، أم أن عمرو أوحشته الأيام التي كان مؤثراً فيها بجد على شباب مصر، فتصوّر أن اللحظة مواتية لاستعادة مكانته، خصوصاً لدى الشباب الذين لم يعاصروا تقلباته السياسية التي بدأت قبل ثورة يناير، حين قرر أن يسير "على خطى الحبيب العادلي"، ويصنع نسخة "دايت" من الإسلام، يرضى عنها الله ورسوله والحزب الوطني، وهل المسألة أبسط من كل هذه التكهنات، أم أنها خليط من كل هذه التكهنات؟
سواءً كانت رسالة عمرو خالد الأخيرة لشباب مصر موجّهة أم طوعية، فالمؤكد أنها تعبر عن جوهر فكر نظام السيسي الذي لم يعد يمتلك، بعد انكشاف أقنعة البطل المخلص والرئيس المنقذ، سوى رسالة "اشتغل.. إعرق.. ابذل مجهود عشان تنجح.. مضى زمن الكسل"، وغيرها من العبارات التي كرّرها عمرو خالد في (فيديو العودة)، والتي سيظهر منها خلال الفترة المقبلة، أكثر من توزيع وإخراج وطريقة تغليف، ستظهر منها نسخ موجهة للشباب، وأخرى لكبار السن، وأخرى للنساء، وربما نسخ للأطفال، وكل هاتيك النسخ، ستعزف على نغمة رئيسية، مفادها أن الشعب المصري كسول يرفض العمل ويكره العرق ويمقت الكفاح، وهذا هو سبب تدهور أحواله، وسر فشل المخلص السيسي في إنهاء معاناته، لأن "عبد الفتاح لا يساعد الذين لا يساعدون أنفسهم".
قبل عامين، كان هناك شعب من نوع آخر، حاضر في كل خطابات قادة الحكم العسكري ومؤيديه: "شعب عظيم.. جبار.. يحمل جينات سبعة آلاف سنة حضارة.. مالوش حل.. يقظ.. ذكي.. لا يأكل من الأونطة.. واعي.. وسطي.. يبهر العالم ويتحداه في نفس الوقت.. وعشان كده، هيبني بلده زي ما بنى الأهرامات وحفر قناة السويس وعبر خط بارليف"، ولم يكن كل ذلك المديح المكتوب والمنطوق والمُغنّى والمرقوص والمهتوف آتياً من فراغ، فقد كانت أغلبية الشعب المصري وقتها موافقة على كل مذابح السيسي ومظالمه، ومبادرة إلى الرقص في الميادين وأمام اللجان الانتخابية، ومفوّضة على الناشف، كلما طلب منها السيسي ذلك، وأحياناً من دون أن يطلب منها ذلك، خصوصاً بعد أن شعرت أن "السعد واعدها" أخيراً، برئيس "دكر" يقتل كل من يزعزع الاستقرار، ويفرم كل من يطالب بالعقل والحوار، فتتعاظم قدرته على الإنجاز والحسم، وينحني أمامه العالم، ليقول له بكل اللغات: "شبيك لبيك.. خذ ما أردت من مساعدات ومنح ومعونات. لكن، لا تحرجنا أمام شعوبنا بما تقدمه لشعبك من إنجازات".
ومع مرور الأيام، وتوالي الفضائح والإخفاقات، أخذت قطاعات متزايدة من الشعب تدرك، بشكل أو بآخر، حقيقة المقلب الذي شربته، فهي أمام رئيس مرتبك، يتشطر نظامه فقط، على الشباب العُزّل والمدنيين المسالمين، لا على المسلحين والإرهابيين، وما يأخذه من معونات ومنح، ينفقه على مشاريع وهمية غير محسوبة، أو يستخدمه في رفع مرتبات ومعاشات أذرعه الأمنية والقضائية الباطشة، في حين يترك باقي الشعب نهباً للفقر والفساد والفوضى، وحتى أخلاقه الدمثة ولسانه الحلو، اتضح أنها كانت مجرد قناع، تمت من خلفه حماية انحطاط إعلامي، لم تشهد له مصر مثيلاً. بالطبع، حاول كثيرون مقاومة كل هذه الحقائق، بالحديث عن أن ما يجري في البلاد من عك ومصائب، لا علاقة له بشخص السيسي الطاهر الواثق النزيه الشريف، قبل أن تأتي حزمة التغييرات الوزارية، ومن بعدها تفاصيل الانتخابات النيابية، لتفرغ تلك الحجة من معناها، وتثبت أن السيسي شخصياً هو الراعي الرسمي لعودة أفسد وأحط من أنجبت مصر، لكي يتسيدوا الساحة السياسية والإعلامية، ويجهضوا آمال الناس في مستقبل أفضل "وأنضف".
وهنا، أصبح على نظام السيسي أن يجد لنفسه رسالة رئيسية بديلة، بعد انتهاء صلاحية رسائل "الشعب الجبار الواعي"، و"الرئيس الطاهر في منبت السوء"، حتى يستطيع الاتكاء عليها في لحظات الأزمات، التي بدأت تستفحل وتتوالى، وبالطبع لن يجد نظام محدود القدرات العقلية، أفضل من رسالة "الشعب الكسول الكاره للعمل والإنتاج"، والتي عزف عليها نظام حسني مبارك طوال ثلاثين سنة، في تنويعات عديدة، كان أشهرها تنويعة "أجيب لكو منين"، لينجح الدوي على آذان المصريين في جعل عبارة "إحنا أصلاً شعب ابن كلب"، تتردد على ألسنة كثيرين منهم، باستثناء الأوقات التي تعقب لحظات الفوز بكأس الأمم الأفريقية، أو تنتعش فيها آمال الصعود إلى كأس العالم، ولم يكن ذلك لغزاً عصياً على التفسير، فرسائل جلد الذات سريعة الشعبية والانتشار في الدول القمعية، لأنها تريح المواطن من تبعات التفكير، في مسؤولية الفساد المنظم والقمع المنهجي الذي ترعاه أنظمة الحكم المتتالية، عن تدهور أحواله، ما قد يدفعه إلى التساؤل عن جدوى سماحه لتلك الأنظمة بأن تستغفله وتسرقه وتنهبه. وبالطبع، يدرك المواطن أن ذلك خطير، لأنه لو فكر في تطوير تساؤلاته إلى حركة ما من أي نوع، سيهدد ذلك حياته وحريته وأمانه ورزقه، حتى لو كان فتاتاً يكفي بالكاد للبقاء على قيد الحياة.
في إطار هذا كله، يمكن أن تفهم "الدخول المفاجئ" لعمرو خالد، بعد صمته الطويل على كل ما جرى في البلاد من انتهاكات وجرائم ومهازل، لا علاقة لها بالدين والأخلاق الذين يُفترض أن عمرو معني بالذود عن حياضهما. وفي هذا الإطار الذي يتجاوز شخص عمرو خالد، وغيره من وكلاء بيزنس الجنة والوطنية، يجب أن تتأمل كيف تتصاعد رسائل "ابدأ بنفسك وصلح أحوالك واشتغل واعرق وكافح" التي يوجهها، بحماس شديد، مشايخ "النظام المباركسيسي" وفنانوه وكتابه ومثقفوه وإعلاميوه، مستهدفين بها المواطن العادي، الذي لا يخاف النظام إلا من غضبته التي رآها بأم عينيه يوم الثامن والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، وهي غضبة ستظل حاضرة إلى الأبد في ذاكرة رجال النظام، حتى وهم يبذلون قصارى جهده، على تبويخها وتشويهها في ذاكرة الذين شاركوا فيها.
ولكي لا تتهمني بالدخول في النيات، والافتراء على الراغبين في إصلاح المجتمع، دعني أذكّرك أنه لو كان هؤلاء أصحاب رسالة اجتماعية إصلاحية حقاً وصدقاً، لوجهوا رسائل مماثلة، ولو حتى شديدة التهذيب، يطلبون فيها مثلاً، من قادة الجيش أن يبدأوا إصلاح مؤسسات المجتمع من مؤسساتهم، فيتوقفوا عن ابتلاع ميزانية الدولة لصالح صفقات أسلحة لا يعرف أحد لها جدوى ملموسة، خصوصاً في ظل سياسة خارجية منبطحة من إسرائيل إلى أثيوبيا، وصدقني لن أطلب من هؤلاء أن يأتوا في رسائلهم على ذكر عمولات صفات الأسلحة، التي ستُكتشف حين يتخانق عليها الورثة بعد حين، كما حدث لورثة المشير أبو غزالة الذي لم يكسب بالتأكيد ملايين الدولارات من عائدات كتبه ومقالاته المليئة بالثرثرة الاستراتيجية.
بلاش، كان يمكن لأصحاب نظرية "ابدأ بنفسك"، أن يوجهوا رسائل مهذبة، يطلبون من قادة جهاز الشرطة محاسبة الضباط المختلين نفسياً وعصبياً الذين لا يكفون عن تعذيب المساجين وترويع كل مواطن يطلب حقه في المعاملة كبني آدم، أو رسائل لطيفة تشرح للقضاة خطورة أحكامهم الجائرة على أصحاب الرأي، المطبطبة على أهل الفساد، ولن أقول: أو كان يمكن أن يطلبوا من راعي كل هؤلاء عبد الفتاح السيسي، أن يسلم نفسه إلى العدالة، لتحاسبه على قفزه على مطلب الانتخابات الرئاسية المبكرة، من أجل أن يحقق حلمه الشخصي بالرئاسة، فيتسبب في سفك أكبر قدر من الدماء في تاريخ مصر الحديث، فذلك ما لن يجرؤوا عليه. ولأنه لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، دعني أسأل: ألم يكن ممكناً حتى أن يطلبوا من عبد الفتاح السيسي أن يبدأ بدولته، فيثبت أنه راغب في محاربة الفساد حقاً، ويلتفت إلى تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات التي تكشف بالمستندات إهدار أجهزته السيادية المستمر مليارات الجنيهات، فيحاسب المسؤولين عن ذلك، ويعيد ما أهدروه إلى خزينة الدولة.
بالطبع، لن يستطيع هؤلاء "المصلحون العظماء" توجيه مثل هذه الرسائل أبداً، ولو حتى بأشد الطرق تهذيباً وعمومية، لأنهم يعلمون أنها رسائل خطيرة، تفضي إلى الموت أو السجن أو التخوين أو انتهاك الحرمات. ولأنهم، في حقيقة الأمر، مستفيدون من بقاء نظام الحكم العسكري الذي يعطي الأولوية للولاء وليس للكفاءة. ولذلك، لن يخاطروا بمصالحهم، من أجل أن يحكم البلاد يوماً ما، نظام ديمقراطي مدني، يحق للناس فيه أن يتساءلوا عن كفاءة هؤلاء، وعن أحقيتهم فيما يشغلونه من مواقع إعلامية وثقافية ودينية، تدر عليهم مكاسب بالملايين. ولذلك، يستثمرون كل ما يملكونه من طاقات، في التخديم طوعاً أو امتثالاً، على الرسائل التي يرغب نظام الحكم العسكري في إيصالها إلى الناس، حتى لو كانت متناقضة، ترفع الشعب المصري إلى أعلى عليين، حين يصفق ويفوّض، وتهوي به إلى أسفل سافلين، حين يعود إلى الزمزقة والسخرية والانكفاء على ذاته.
الآن وغداً، سيشتد هؤلاء في الضرب على وتر لوم الشعب، بعد أن اشتد من قبل الضرب على وتر تمجيده، مع أن الشعب المصري لا يملك مميزاتٍ خاصةً، تجعله أفضل من باقي الشعوب، ولا يملك عيوباً خاصة، تجعله ألعن من باقي الشعوب، فهو ككل شعوب الأرض، حين يتوفر مناخ عادل، تسود فيه المساواة والحرية، ستظهر فضائله الإنسانية، وستزداد إنتاجيته حين يزداد انتماؤه لوطنه، ويدرك أن خير الوطن سيعم على الكل، وحين يتوفر مناخ فاسد، يسود فيه الظلم وتعمه المحسوبية والوساخة، سيظهر قطعاً أسوأ ما فيه.
ليس الشعب المصري جباراً بطبعه، ولا كسولاً بطبعه، هو ككل شعوب الأرض، ستقل إنتاجيته حين يقل انتماؤه لوطنه، وحين يدرك أن خير الوطن ذاهبٌ، لا محالة، إلى حسابات اللواءات والقضاة ودلاديلهم من الصحافيين والإعلاميين وجيوبهم، ومن اتبعهم بتعريص إلى يوم الدين. ولذلك، سيلجأ إلى أساليب التحايل من أجل البقاء، فيأخذ حكامه على قد عقولهم أحياناً، لعل ذلك يعينه على الاستمرار في نيل الفتات اللازم لبقائه على قيد الحياة، وسيكون على حكام البلاد المنتفعين بها أن يوفروا له هذا الفتات، أو يغضّوا الطرف عنه، وهو يحاول أن يتصرف لتحسين دخله، في مقابل أن يغض الطرف عنهم بدوره، وهم ينهبون البلاد، وهكذا، ليستمر تدوير العفن أكبر قدر ممكن، أو يخفقوا في تأمين ذلك الفتات، بشكل يدفع الشعب إلى أن يهب لإطاحة كل شيء، رافعاً شعار "يا واخد قوتي يا ناوي على موتي".
حينها، قد ينجح النظام العسكري في ارتداء أقنعة جديدة، تساعده على إعادة تدوير نفسه، وقد ينجح الشعب في رفض كل أشكال إعادة إنتاج أنظمة القهر والتسلط، وهو ما أثق أنه سيحدث لا محالة، ليس لأنني "محكوم بالأمل"، أو مريض بالتفاؤل، بل لأنني، بواقعية شديدة، أؤمن أن مصر وصلت إلى حالة من الإنحدار والتردي والتدهور، ستجعل أي نظام متسلط، ملتحياً كان أو حليق الذقن، ببيادة أو ببدلة، يفشل في إقناع أغلبية المصريين بإمكانية أن يواصلوا العيش رعايا، في ظل خرابةٍ تنتحل صفة الدولة، بينما يمكن لهم أن يعيشوا، مثل باقي شعوب الأرض الذين اختاروا التغيير، مواطنين لا رعايا، في ظل دولة لا معسكر، بلد لا خرابة.