- منذ البدايات، ورشا كاتبةٌ لكلمات أغانيها، سواءً في عهد "إطار شمع" وأغنية كـ "لعبة" إبان مسيرة شراكة مع الموسيقي إبراهيم سليماني، أم في مرحلة متأخرة كأغنية "سكروا الشبابيك" ضمن ألبوم "ملك"، لمس المرء وما زال، شحناً سياسياً وهمّاً اجتماعياً، وإن بقي في كمون التلميح غير الصريح والمجاز غير المُباشر. كيف تصفين التبّدل الذي طرأ على النص الذي تكتبينه اليوم في زمن الثورات العربية؟
* في خضم الربيع العربي، ومع بداية الثورة في سورية، ارتأيت شخصياً أن الذي يحدث ما هو إلّا فصل جديد من تاريخ نضال شعوب المنطقة الطويل في سبيل التحرر. فصلٌ تمخّض عنه بداهةً جمهور مستمعين جدد، بات لزاماً أن أتوجه إليهم عبر أغانٍ تحمل رسائل تتراوح بين المُباح الجلي والمُبطّن الخفي، ليس بداعي الهروب والخوف، وإنما تجنباً للتشخيص وابتغاءً لتوسيع عدسة الرؤية، استيعاباً لسعة المسألة وتغطيةً لمساحة القضية، الأمر الذي غيّر الكثير في الأغنية التي أقدمها اليوم؛ فغدت كلماتي أقل محليّةً، وصارت موسيقاي أندر نمطيةً، عما كانت عليه قبل نشوب الثورات العربية.
- الطرب الشرقي هو البستان الدمشقي الذي تفتّحت فيه حنجرة رشا برعاية أستاذها الأول نعيم حنا. بعد حين، التحقْتِ بصف الغناء الأوبرالي في المعهد العالي بدمشق، تدرُسينَ تقنيات الموسيقى الكلاسيكية الغربية. كيف يمكن الجمع والمداولة بين نهجين مختلفين في تطويع الحبال الصوتية، وكيف يُسهم كل منهما في إثراء الآخر؟
* أُلفتي الطربَ العربي سَبقت التاسعة من عمري. كان لوالدتي صوت جميل، وشغف بالموسيقى والغناء، وتأثّرٌ كبير بالسيدة فيروز والمدرسة الرحبانية، التي اعتمدت تقنياً، وللنساء تحديداً، مجالاً وسطاً جامعاً لكل من الطريقة الشرقية، لجهة إخراج الهواء من القفص الصدري، والغربية الأوبرالية، لجهة إصداره رنيناً عبر الرأس. تلك مدرسة مُستمدّة في الأصل من فنون الترتيل الكنسي البيزنطي. بعدها اكتشفني أستاذي نعيم حنا، وقد بلغت حينها التاسعة. على يديه، بدأت تعلمَ فروع المقامات والإيقاعات، وحفظ التراث الغنائي من قدود وموشّحات، والتي تتكئ في الأساس على الغناء انطلاقا من مجال الصدر. ما زلت أذكر كم كان في ذلك مشقّة لطفلة كانت دون حجوم البالغين وطاقاتهم الجسمية.
عبوري إلى الأوبرا لم يكن بالأمر اليسير هو الآخر. فبعد فتوّةٍ مالت إلى جهةَ الأغنية الشاعرية الفرنسية وألوان الجاز والروك، عزمت على الالتحاق بالمعهد العالي في دمشق، الذي لم يكن وقتها يُدرّس سوى الغناء الكلاسيكي الغربي، فوجئت هناك بهوّة الاختلاف الشاسعة في التقنية والأداء. إلا أنه ما كان من ذلك إلا أن شدّ عزيمة التعلم والتدرّب لديّ، بغية تطويع صوتيَ مستوعباً كلاً من الطرب الشرقي المتأصل فيّ والمنهاج الأوبرالي الجديد عليَّ. استيعاب ما زلت إلى اليوم أخاله صعباً، ويتطلب مني دائماً أخذ فواصل نقاهة وإعادة تأهيل فكري وبدني ما بين كلَّ حفلة طربية شرقية وأخرى كلاسيكية غربية. علاوةً على كونه جمعاً لم أره يوماً كهدفٍ بذاته، وإنما غايتي، بقيت في الجوهر، إدراك السوية العالية وإيصال الزخم الشعوري إلى الناس، مهما تباين النهج واختلفت الطريقة.
- لكن الحيوية والتوتر النغمي العالي لديك، إضافة إلى الوفرة والغزارة في أداء الزخارف اللحنية في جُملك الشرقية، لشد ما تُذكّر بلون المالوف الأندلسي، ألا تنظر رشا، إلى صوتها وكأنه مجالُ عبور وتلاقٍ بين الثقافات المتجاورة، كما كانت أرض الأندلس والمغرب العربي؟
* هذا من طبيعة الأحوال، إن التلاقح بين المشارب الثقافية والمعارف الشخصية أمرٌ محتّم لا بد منه، وحاصلٌ بتحصيل حاصل وعفوية وتلقائية، وإن حرصت أبداً على احترام استقلالية الأساليب وإعطاء كلٍّ منها حقها ومكانتها، والأمانة الفنية لجهة تحقيق ما نصّ عليه عمل المؤلِف إن هو كان غائباً عنّا، أو تبادل وجهات النظر معه إن كان لا يزال حيّا بيننا، مع افتراض إدراكه المسبق بأنه سيكون لي، في الأخير، بصمتي الفردية الخاصة، سواءً لجهة الأداء أم الصياغة.
- كيف لعبت الموسيقى والغناء دورهما، في صياغة تجربة المهجر الطارئ والقسري في حياة رشا، وكيف ساعدا أو صعّبا من تفاعلكِ مع المُجتمع الباريسي مُتعدد الأهواء والثقافات، وأثّرا في حضورك السريع وسط ساحة فنية صاخبة ومُزدحمة؟
* من حسن حظ، الفنان استطاعتُه حمْل فنه معه أينما حلّ وكان، وذلك على فرضٍ من دون تعميم، أن الموسيقى لغةٌ يُحسّها الكلّ في كل مكان. الأمر الذي سهّل من تواصلي مع الناس ومكّن أواصر الزمالة مع فنانين مُقيمين في المهجر، ناهيك عن ذلك، أن الاندماج بين الموسيقيين أيسر عليهم وأسرع، حيث إن أي وسط تخصصي يظلّ ضيقاً وحميمياً مهما كبُر واتسع، بحكم وحدة الحال والمقال في شؤون المهنة وشجون الصنعة والممارسة. أضف إلى هذا، كونيَ بحكم التكوين الفني والثقافي متعددةُ اللغات الموسيقية والألوان الغنائية، مما أتاح لي مزيداً من فرص العمل وأشكالا مُتنوعة من التعاون والشراكة.
- بالعودة إلى العالم العربي، وفي غمار نشاط الحركة النسوية الراهنة على صعيد الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، هل كان وما زال الوسط الفني العربي مُنصفاً بحق المرأة المُشتغلة بالموسيقى والغناء، وهل يجدر بقارئ هذا الحوار القلق إزاء معاملة النساء من قبل المُنتجين والفنانين العرب؟
* على الرغم من اختلاف المجتمعات عن بعضها، يظل الهم النسوي واحداً. في العالم العربي، لا تزال الفنانة العربية ضحية تنميط مستمر ما فتئ يُنتج صورة واحدة وهيئة مكرورة ثابتة بات من الصعوبة بمكان الخروج عنها، تشترط أولاً إبداء المفاتن الجسدية، تحت طائلة الفشل في الحصول على الاستحسان والقبول.
بالمقابل، يتنوع مظهر الفنانة ويتبدل ضمن المشهد الغنائي العالمي، باختلاف لونها الموسيقي، وسياق الأغنية التي تُقدمها، ومضمون الرسالة التي تحملها، والأمزجة التي تُخاطبها، مثلها مثل الممثلة في تجسيدها دوراً تؤديه وتقمصها شخصية تتّسق مع بيئتها الواقعية والثقافية. يمكن فهم المسألة من باب هيمنة أصحاب الشركات الفنية على القرارات الإنتاجية، وهُم في الغالب ليسوا من أهل الدراية والمعرفة الفنية، تختلط آراؤهم وترتبط مصالحهم برجالات المال والسياسة في الخليج العربي وغيره، ما يجعل دربَ كل مُغنية لا تؤمن بأن الحُسن والجمال هو جلّ ما تهبه المرأة للعالم عاثراً ووعراً.
- في ظل شح وحتى غياب إنتاجات الأوبرا والمسرح الغنائي في العالم العربي، وبالنظر إلى كون الأداء الدرامي جزءاً أساساً من تربية المُغني الفنية، هل أمّن الاشتغال بدبلجة برامج الأطفال منذ فترة مبكرة من سيرة رشا المهنية، البديل الذي قد يُشفي الغليل إلى الدراما والتمثيل؟
* الدبلجة ميدان شديد الأهمية، لكونه قائماً على الصوت وحده؛ إذ به يتعيّن على المُدبلِج توصيل المشاعر والأفكار. ناهيك عن التعقيدات الأخرى المُتعلقة بتطابق الصورة المتحركة والشفاه المُتحدثة، إضافة إلى صحّة اللغة وسلامة النطق وحُسن مخارج الحروف. شخصياً لم أشتغل في الدبلجة بشكل مباشر، وإنما عن طريق غناء شارات المسلسلات، وتدريب المُدبلِجين على أداء المقاطع الغنائية بأصواتهم، كما أني لا أعتقد البتّة بأن الدبلجة تُغني عن حضور المُغني الحيّ على الخشبة. مع علمي بحجم الصعوبة، نظراً إلى علوّ الكلفة ونقص الخبرة والمعرفة. مع ذلك، ما زلت آمل في قادم الأيام بأن يكون للعرب باع ونصيب في إبداع المسرح الغنائي، وإن ظل الأمل بعيدَ الأجل وعصيّ المنال.
- في سياق شارات برامج الأطفال، وفي إصدار مُرتقب لرشا، عددٌ من مُعجبيك من مختلف البلاد العربية والعالم ممن كبروا على سماع صوتك عبر المسلسلات الكرتونية المعروفة، سيشاركونك تصويرَ مقطع فيديو لأغنية قادمة، انطلاقاً من هذه التجربة المميزة، كيف تغيّرت العلاقة بين الفنان وجمهوره في عصر الصورة المرئية والسوشال ميديا؟
* على مدار أعوام، فاقت الخمسة عشر من العمل المطرد في مجال المسلسلات الكرتونية، استمع إليَّ جمهورٌ واسعٌ وسع العالم العربي. صغاراً وكباراً، حفظوا ورددوا الشارات الغنائية المعروفة. إلا أن أحداً خارج سورية، لم يعرف الكثير عن صاحبة ذلك الصوت، التي سكنت غُرفة الاستوديو أياماً وأسابيع، ووقفت خلف الميكروفون لساعات طوال. قُدِّر لغيابي الشخصي أن أضفى على حضوري الصوتي مسحة مُستحبة من الغموض، بادرها الجمهور بغامر التشوّق وعامل الفضول، يُريد أن يتعرّف إلى من سكنت الطفولة العربية طولَ سنين. لعله من الجيد أيضاً، أن أحبت شريحة واسعة من المستمعين صوتاً لصوته، لأدائه ولونه، وللمعاني التي تضمّنتها أغانيه، من دون أن تحظى برؤية ومشاهدة صاحبته. لذا، وما إن ظهرت على السوشال ميديا وأخذت أُطلّ مرئياً وصوتياً على الجمهور، حتى أحاطني الجميع بالاحتفاء والحبور.