رفع سقف الفُتات!

04 يونيو 2015
+ الخط -

إذن فقد ثبتت الرؤية، واتضح أن الإطاحة بوزير العدل محفوظ صابر، لم تكن إنصافا لأبناء الزبالين والفقراء، وإنما ترضية للقضاة الذين قام بتأجيل طلبهم برفع بدلات العلاج، ولذلك كان أول قرارات خليفته الزند: توفير الأموال التي طلبها وهو رئيس لنادي القضاة، ولذلك أيضا لم نسمع ولو حتى عن وعد بإنصاف مئات المتفوقين من خريجي كليات الحقوق، الذين حُرموا من حق التعيين في القضاء، بفعل (كشف الهيئة) اللعين الذي يُتّخذ حجة لتوريث أبناء الأسياد ـ طبقا لتعبير الزند ـ والإطاحة بأحلام أبناء العبيد في مقالب الزبالة، وهو ما لا يفعله أسياد القضاء وحدهم، بل يفعله كل أسياد الجهات المتحكمة في مفاصل الدولة، والذين اعتبروا ثورة يناير خطراً داهماً، لأنها ستتيح الفرصة للعبيد، أن يفتحوا أعينهم تبجحا في وجه الأسياد، فيسألوا ويساءلوا، ومن يدري فربما طلبوا وتأمّروا، ليصبح معيار القبول في المناصب هو الكفاءة وحدها، كما تقضي النصوص الدستورية المكتوبة بزبدة مخلوطة بهراء يمنعها من أن تسيح، لتبقى إلى الأبد، حبرا محفوظا على ورق كسيح.

قرأت مؤخرا تدوينة حزينة كتبها الصديق الدكتور عيد محمد مدرس العلوم السياسية تقول: "كان لي صديق أيام الثانوية، من الأوائل الطموحين الواعدين، لكنه آثر ألا يدخل كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، لأنه يعلم أن أبناء الطبقة البسيطة لا حظ لهم في "الوظائف السيادية"، فاختار كلية جديدة هي كلية التجارة الخارجية بالزمالك، وكان في أول دفعة تلتحق بها، لكنه عندما ذهب إليها، وجدها متكدسة بسيارات طلبة تنتمي إلى طبقة أغنى، فأدرك أنه لا ناقة له ولا جمل فيها، فقرر بعد السنة الأولى أن يذهب إلى كلية الآداب، ليتخرج منها بتقدير متميز، ولكن بعد التخرج بخلت عليه دولة الباشوات والبهوات بأي وظيفة، فقرر التقدم لوظيفة بوزارة التعليم، ظننا أنها مسابقة للمعلمين، لكننا اكتشفنا أنه تقدم لوظيفة "عامل" بمدرسة، ووضع الشهادة الجامعية في الدرج، وتقدم بالشهادة الابتدائية فقط حتى يتم قبوله، وقد كان، وعاد إلينا وقد توهج وجهه فرحا بما نال، بينما تغمره عيوننا باللوم وعدم الرضا عن اختياراته، رغم علمنا جميعا بظروفه القاسية، قرر صديقي النابه أن يوفر راتبه، وأن يذهب إلى عمله بالدراجة، عشرين كيلومتراً يوميا، من أجل أن يوفر أجرة المواصلات التي تبلغ 120 جنيهاً،
وهي كامل راتبه حينذاك، لكن وكأنه قد زاد عند ربه قدرا وعزة، بترفعه على "دنيا" قاسية فانية، فتعرض صديقي لحادث سيارة، وهو في طريق عودته من عمله، كعامل بمدرسة بدرجة جامعية، لتصعد روحه الطاهرة المتواضعة إلى ربها، والله لو لم يستحق مبارك الإعدام، إلا من أجل هذه الروح البريئة لكفاه وكان عدلاً مستحقاً".

على عكس الأكاذيب التي روجها مؤيدوه من المثقفين والسياسيين، لم يغير عبد الفتاح السيسي تفصيلة من طريقة الإدارة المباركية للدولة، ولم يظهر حتى أمارة على أنه يرى ضرورة ملحة للتغيير، وكل ما أنجزه حتى الآن، هو أنه جمع بين إلهام شاهين ويسرا من جديد، وأعاد إحياء كلمة "يهابر" بعد موات، وقام بتحويل القتل والاختطاف إلى روتين يومي، وفيما عدا ذلك ما زال يواصل مع معاونيه ترديد الخطاب المباركي المفضل، عن "الشعب الكسول الذي لا يرغب في العمل الشاق، والذي يحب الكلام والرغي والمكسب الجاهز"، كأن الشعب المصري ولد دونا عن شعوب الأرض، بعيوب خلقية تمنعه من الإنجاز والاجتهاد، مع أن كل العيوب الاجتماعية التي يمكن أن تلمس وجودها بالفعل في كثير من المواطنين المصريين، لا يمكن أبدا فصلها عن مناخ الفساد الشامل الذي ساد لسنوات طويلة، والذي يغيب فيه تكافؤ الفرص، وتنعدم فيه آليات الرقابة والمحاسبة، وينزل فيه سيف القانون على رقاب الضعفاء وغير المسنودين، بينما ينجح الفاسدون والذين لهم ضهر في الإفلات من الضرب على بطونهم، مهما كانت ممتلئة بالمال الحرام.

في ظل هذا المنطق "المباركسيسي"، أصبح مطلوبا من ملايين البسطاء والفقراء، أن لا يظهروا في المجال العام، إلا كمجاميع تصفق وتفوض وتهلل، وتهتف بحياة القائد الهمام الذي يحنو عليها، ويزيد كمية المرهم اللازمة لإنفاذ المزيد من الخوازيق فيها، وهو نفسه القائد الذي يحرص على طرطشة الدماء بانتظام، لتحذير مجاميع الشعب من مغبة التمرد على دور الكومبارس، وعاقبة الطمع فيما عند الأسياد، لتعتاد الرضا بالفتات المتناقص، وتقتنع بأنها وحدها دون غيرها، السبب في كل ما تعانيه من شظف العيش، وأن ذلك الشظف لن يزول بالاحتجاج والغضب، بل ربما أدى المزيد من التصفيق والتهليل والرضا بالظلم، إلى رفع سقف الفُتات، وكفى بذلك من نعمة.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.