لم يكن قد تجاوز العاشرة من عمره، حين طلب من أستاذه على آلة البيانو أن يعلّمه عزف أغنية "لسّه فاكر" لأم كلثوم، بعد أربع سنوات من دراسة الآلة. وحين كان الجواب باستحالة ذلك على البيانو، عاد الطفل في الحصة التالية ليعزف "لسّه فاكر"، رغم إدراكه لفقر تلك النغمات التي لم يكن لها مكان بين الأبيض والأسود.
هكذا ودّع البيانو، لتكون ولادته الموسيقية بعد ذلك على آلة العود، التي عكف ذاتياً على دراستها لسنوات، قبل أن يلتحق في دراستها أكاديمياً عام 2001 في القدس.
أطلق عازف العود والمؤلف الموسيقي الفلسطيني رمسيس قسّيس (1976)، منذ شهرين، في مسقط رأسه حيفا، ألبومه الأول "دجل"، بدعم من "مؤسسة عبد المحسن قطان"، وبالتعاون مع "بيت الموسيقى" في شفا عمرو. يضمّ العمل سبع مقطوعات وأغنيتين من ألحانه وتوزيعه وكلماته، مستعيناً بآلات التخت الشرقي.
يعتمد قسّيس على معنى الكلمة ومدلولها، لتلهمه بالفكرة الموسيقية؛ ابتداءً من عنوان الألبوم، وانتهاءً بأسماء المقطوعات، التي يُلاحَظ أن لها دلالات مرتبطة بالواقع المعاش، متجنّباً الدلالات الموسيقية التقليدية التي عادةً ما تقترن باسم مقام أو نغم موسيقي.
استطاع قسّيس في عمله أن يقرّب الهوّة بين الموسيقى الشرقية الكلاسيكية وبين ما هو سائد من قوالب معاصرة، من دون تقديم أي تنازل، وإنما بحسن التصرّف الموسيقي تارة، وبالتوزيع تارة أخرى.
مثلاً، نجد في مقطوعة "ولادة" (مقام نهاوند) قفلات موسيقية موفّقة في كل جملة، إلى جانب احتوائها بناءً درامياً لافتاً، وتقنيات عزف عالية تجعل منها مقطوعة تلبّي حاجة المستمع إلى ما هو طربي، وتحاكي الواقع بطريقة تخلو من المبالغات العاطفية في استخدام المقام.
حول ذلك، يوضّح في حديث إلى "العربي الجديد": "لماذا على الموسيقى الكلاسيكية أن يكون بينها وبين الناس فجوة طبقية؟ كان كبار الموسيقيين يعملون على إلغاء هذه الفجوات. فألحان الشيخ زكريا أحمد مثلاً، كانت تُلاقي مستمعين من معظم الفئات الاجتماعية".
يضيف: "لا بد من دراسة العوامل المشتركة بين ما هو كلاسيكي وما هو "بوب". ففي مقطوعة "سماعي وطن"، قدّمت حالة وصفية على قالب السماعي لوطن مفقود، لم أستخدم فيه الإيقاع التقليدي للخانة الرابعة.
وفي مقطوعة "دجل"، كانت القفلة أقرب ما تكون إلى الـ"بوب". وفي "ولادة"، لم يكن الإيقاع تقليدياً، خصوصاً مع استخدام آلة الكاخون". أمّا في ما يتعلّق بالتوزيع، فلم يتقلّد العود دور البطولة كونه آلة الملحّن والموزّع، بل كانت الفكرة الموسيقية أهم في هذا العمل.
يُحسب للتوزيع ميزة الحوار التكاملي الذي أسهم في جعل البناء الموسيقي والدرامي يظهر بشكل تلقائي غير مصطنع. ففي "رقصة الزار"، تبدأ المقطوعة كأنها تقسيمة عود حرة تقليدية، إلى أن يدخل الإيقاع ليجعلها تبدو وكأنها تقسيمة موزونة، وهكذا إلى أن تبدأ الرقصة بشكل تصاعدي من تقسيمة إلى مقطوعة متكاملة.
وحول التوجه العام في تأليف التقاسيم، يقول الفنان: "برأيي، التقاسيم التقليدية استُنفدت وأصبحت تُستعمل بشكل لا يخدم سياق الموسيقى الحديثة. ففي "دجل"، نجد تقسيمتين للعود وتقسيمة للقانون وتقسيمة للكمان، كل منها تخدم سياق المقطوعة التي تحيطها، ولا تتبع التقاسيم التقليدية من ناحية سيرورة العمل في المقام، إنما تتبع روح المقطوعة.
أما في "وصال الروح"، فكانت هناك تقسيمة (رَسْت) تقليدية تعبّر عن حنين إلى موسيقى قد ننساها من كثرة التجديد. حاولتُ تجنّب كثرة التقاسيم؛ لكي أعطي للألحان دور البطولة والمركزية في هذا العمل، ولا أريد مقطوعات قصيرة يملأها الارتجال، كما صار مُتّبعاً في ما يسمى بالموسيقى العالمية".