لم يكن الاندفاع والحماس الى تزيين المدينة ونشر البهجة فيها، من شباب القدس القديمة، إلا تحدياً للاحتلال ولبلديته التي اختتمت قبل أيام فقط مهرجانها السنوي "أنوار القدس"، متحدية مشاعر سكان المدينة الأصليين.
على نفقتهم الخاصة، قرر ناشطون شبان وناشطون مقدسيون تزيين أسوار وشوارع مدينتهم وأزقتها الضيقة بمصابيح ملونة، ابتهاجاً بقدوم شهر رمضان الفضيل.
"كنوع من التحدي كانت زينة رمضان هذا العام مضاعفة"، كما يقول الناشط عبد أبو صبيح لـ"العربي الجديد"، مؤكداً بأن تزيين القدس في رمضان هذا العام كان مقصوداً أن يكون واضحاً كي تبدو بحلتها العربية والإسلامية تضيء ليلها وسماءها أنوار الهلال بعد المهرجان الذي أقامه الاحتلال.
في "باب الأسباط" بدا المشهد الليلي جميلاً ولافتاً، وتزينت حارة "باب حطة" هي الأخرى بزينة رمضان، وعلقت مئات المصابيح والثريات في كل زقاق وحارة، والأمر كذلك بالنسبة لشارع "الواد"، الشريان الرئيس للحركة التجارية، وصولاً إلى سوق "القطانين"، التي تزينت بمئات المصابيح أيضاً، وعلى طرفيها تزدحم المحال التجارية، تعرض أشهى مأكولات رمضان من الحلوى والحلقوم، والزنجبيل، والشوكولاتة، والتمور.
ينهمك أبو صبيح، وهو شقيق شهيد قضى في مجزرة الأقصى عام 1990، يدعى مجدي، هو وأشقاؤه في تحضير محل الحلويات الذي يملكه والده في شارع "الواد" لاستقبال الشهر الفضيل، حيث اشتهر محله بصناعة الحلويات ومنها القطايف الجاهزة، والهريسة، والحلبة، والغُرّيبة، بينما زينت جدران المحل بصورة الشهيد مجدي، إلى جوار صورة كبيرة للوالد الذي يشرف على عمل أبنائه، وعلى ما ينتجه المحل من حلوى رمضان.
بجوار محل أبو صبيح، يجلس والد الشهيد خالد الشاويش، في محل صغير متواضع يبيع العصائر المثلجة، وفي صدر محله صورة كبيرة لنجله الوحيد خالد الذي ارتقى شهيداً في المجزرة ذاتها التي استشهد فيها مجدي.
رمضان هذا العام، كما يقول والد الشهيد خالد لـ"العربي الجديد": مثله كمثل شهور مضت من رمضان منذ أكثر من أربعة وعشرين عاماً، تعيد لذاكرته صورة نجله الذي قضى برصاص الاحتلال وهو يدافع عن الأقصى. "على كل حال، الله يرحمه ويرحم شهداءنا جميعاً"، يضيف والد الشهيد قبل أن يتركنا مستأذناً ليستقبل رفاق نجله الذين حضروا ليطمئنوا عليه.
المشهد في شارع "الواد" ينقلك إلى سوق "القطانين"، وهي واحدة من أشهر أسواق البلدة القديمة، يسمى أيضاً بـ"السوق العتم"، وكان في السابق يضم مواخير، لكنها رممت وتحولت إلى مقر جامعة القدس.
الحركة في السوق بدت نشطة، فيما انهمك أصحاب المحال في ضخ مزيد من البضائع والحلوى الجاهزة مثل الحلقوم والزنجبيل والتمور إلى داخل محلاتهم، وأيضاً ألعاب الأطفال وما أكثر ما تحتويه تلك المحال من بنادق ومسدسات بلاستيكية، وأيضاً قلائد من الخزف، ومصابيح رمضان، فيما امتلأت رفوف إحدى المكتبات القديمة هناك بكتب الحديث والتفسير والسيرة النبوية، والمصاحف الشريفة، واللباس الشرعي.
يأمل التجار في السوق أن يكون رمضان مختلفاً هذا العام عن سابقه، رغم ما عانوه طوال عام من استفزازات المستوطنين والجنود، وخاصة قيامهم بإغلاق مداخل السوق، والتحرش بهم والاعتداء على بسطاتهم، كما يقول معز أبو أرميلة أحد أصحاب المحال.
في حين يجلس وليد الزربا، وهو تاجر مقدسي معروف، أمام محله عند منتهى شارع "الواد" بسوق "القطانين" يرقب حركة الناس الذين غصت بهم الطرقات ذهاباً إلى المسجد الأقصى وإياباً منه، وهو كغيره يأمل أن يعود رمضان على القدس وأهلها بخير وعافية وبال هادئ.
في أسواق البلدة القديمة الأخرى، مثل "العطارين" و"اللحامين"، تبدو الحركة أقل نشاطاً وحضوراً، لكن أسواق أخرى قريبة منها تزدهر بحركة السياح الأجانب خاصة في سوق الدباغة المعروفة بسوق "أفتيموس"، وفي محيط "كنيسة القيامة".
عند مدخل سوق اللحامين هيأ أصحاب مطعم "أبو رشدي" أنفسهم لاستقبال الشهر الفضيل، وكذلك الحال بالنسبة لمحل "دعنا" لبيع القطائف، وهو من أشهر محلات بيع القطائف في القدس القديمة.
بدا المشهد مختلفاً، لقد اضطر الحاج ظاهر الشرباتي، وهو صاحب محل بيع اللحوم في السوق إلى إغلاق محله قبيل رمضان بسبب الملاحقات الضريبية، وعجزه عن سداد ما عليه من ضرائب، كما يقول لـ"العربي الجديد" مثله مثل كثير من تجار القدس القديمة.
ورغم ما يعانيه المقدسيون من حصار إسرائيلي ظالم على مدينتهم، وتدهور كبير في أوضاعهم الاقتصادية، إلا أن إدارة الأوقاف الإسلامية أتمت استعداداتها لاستقبال الشهر الفضيل، عبر نصب عشرات الخيام في ساحات الأقصى اتقاء لأشعة الشمس اللاهبة، كما فعلت لجان النظام والقانون.
ويؤكد المدير العام لأوقاف القدس، الشيخ عزام الخطيب لـ"العربي الجديد" بأن دائرة الأوقاف أعدت برنامجاً حافلاً لإحياء الشهر، خاصة أيام الجمع، وصلوات التراويح، وليلة القدر، إلى جانب تهيئة تكية "خاصكي سلطان" لإطعام المئات من فقراء البلدة القديمة، حيث جرت العادة أيضاً أن يساهم بعض التجار الميسورين بالتبرع للتكية.
وفي الأثناء، انتهت الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة، من استعداداتها لتسيير مئات الحافلات خلال شهر رمضان، وفق ما ذكر بيان لمؤسسة الأقصى للوقف والتراث، وبما يشمل الإعداد لتقديم 100 ألف وجبة إفطار رمضانية، بمعدل ستة آلاف وجبة يومياً.
في حين، تتهيأ فرق إنشاد وتواشيح مقدسية، لإحياء ليلة الخميس من كل جمعة بالقرب من باب الأسباط عند مدخل حي "باب حطة"، كما جرت العادة كل عام، وتجهزت العديد من الفنادق والمطاعم لاستقبال ولائم رمضان، وهو ما جرت عليه العادة أيضاً في هذه المناسبة التي يحييها المقدسيون بالصلوات والتعبد، وصلة الرحم، وهي سمة تميز نسيج الحياة المقدسية.