30 أكتوبر 2024
رهانات "مهرجان المدينة" الفلسطيني
تُطلق جمعيّة الثقافة العربيّة، نهاية الأسبوع الحالي، مهرجان المدينة للثقافة والفنون، في دورة أولى تجريبيّة في حيفا. ووفقاً لها، يسعى المهرجان بالأساس إلى توفير مساحة ثقافيّة مستقلة، تشمل إبداعات متعدّدة تُعزّز من حضور الثّقافة العربيّة والهُويّة الفلسطينيّة في أراضي 1948.
تعتمد رؤية "مهرجان المدينة" على التاريخ الثقافي الفلسطيني، وعرض تطوره المعاصر من خلال ارتباطه بالماضي، وتعرّج على مداليل موضوعات متصلة، على غرار الحداثة والابتكار، والإبداع والخيال الفلسطيني والعربي، ومشاريع مستقلة مبتكرة، والتنمية الثقافية المستقلة في ظروف الفلسطينيين في الداخل. ودأب المهرجان على توحيد الجغرافيا الفلسطينيّة، متجاوزاً الحدود والتقسيمات القسرية، وعلى تقديم مضامين ذات علاقة تسلط الضوء على المجتمعيْن، المدني المحلي والإقليمي العربي، ومحاولات فصل العلاقة بين الهوية الفلسطينيّة والعربيّة، وموضوع الهويّة في سياقات الاحتلال والاستعمار والعولمة.
واختارت جمعيّة الثقافة العربيّة إطلاق اسم المدينة على هذا المهرجان الذي سيصبح تقليداً سنوياً، بسبب مركزيّة هذه الثيمة في السياق السياسي والثقافي للفلسطينيين في أراضي 48، الذين فقدوا في نكبة 1948 مدنهم المركزيّة، وهُجّر معظمهم منها.
واستناداً إلى دراساتٍ يصعب حصرها، كانت المدينة الفلسطينية ولا تزال موضع كراهية معلنة لدى الحركة الصهيونية، وأخذت مظهراً عملياً في حرب 1948. ويلفت الباحث إ. أمينوف، مثلاً، إلى أن الإرهاب الذي مارسه الصهاينة حيال المدن الفلسطينية الثلاث الكبيرة، يافا وحيفا والقدس، منذ ديسمبر/ كانون الأول 1947، شفّ عن إستراتيجية موحدة: في المرحلة الأولى ضرب الريف الزراعي للمدينة وتخريبه، بغرض إيجاد نقصٍ في المواد الغذائية داخلها. وفي المرحلة الثانية: ضرب نقاط إستراتيجية داخل المدن، مثل القنبلة التي ألقاها أفراد منظمة إيتسل على عمال عرب في معامل تكرير النفط في حيفا، والتي أجّجت دائرة دموية من المذابح وأعمال الانتقام، وقصف بناية السرايا في ميدان الساعة في يافا على أيدي أعضاء منظمة ليحي في الرابع من يونيو/ حزيران 1948، والذي أوقع عشرات القتلى ودمّر الأرشيف البلدي، وتفجير فندق سميراميس في حي القطمون في القدس في الخامس من يناير/ كانون الثاني 1948 على أيدي أفراد "الهاغاناه"، وقصف المباني والبيوت المطلة على محيطها في المدن الثلاث الرئيسية. وغداة هذه التفجيرات مرّت مدرعة تابعة لـ"الهاغاناه" في حي الطالبية في القدس، وطالبت السكان بواسطة مكبر للصوت بمغادرة الحي، وقد غادره بالفعل جزء منهم.
ويتطلع "مهرجان المدينة"، في ندواته الفكرية، إلى تأطير محاولات عديدة تواترت في آخر عقدين في حيفا تحديداً، وتمثلت غايتها في استعادة المدينة الفلسطينيّة المفقودة، أو إعادة تشكيلها وبناء حيّز وفضاء ثقافي مدني فلسطيني فيها، بغية الاستدلال على ما في الوسع التعويل عليه للرهان على المدينة بفضائها الأوسع الذي يتجاوز الجغرافيا، محلياً وعربياً وعالمياً.
يشتق المهرجان مدلوله الأهم من جعل الثقافة عموماً بمثابة ضوءٍ من شأنه أن يجعلنا نرى الواقع والعالم في مسار حياة راهنة بات فيه زمان الأسئلة يفيض على ما عداه من أزمنة، وعلى أساس التنائي عن الانصهار في التساؤل وحسب. فالتساؤل، بحدّ ذاته، لا يشكل منهجاً بأي حال، بل يمكن أن يكون مدخلاً (يُعدّ ضرورياً) للانتقاد الذاتي، حتى بإزاء مفاهيم وصلت إلى حافّة المصطلح الثابت أو القبول العام، تمهيداً لطرح بديل عنها.
وثمّة مسألة ثانية واقفة في خلفية المهرجان، هي إيجاد التوازن بين الذات المبدعة والمجتمع الذي تعيش بين ظهرانيه، أو ما اصطلح على تسميته "الكل الاجتماعي". وارتباطاً بحالتنا المخصوصة، وبالتأسيس على هذا التوازن، قد تنخفض إلى حدّ معيّن خطورة سقوط المبدع/ المبدعين في جزئية/ جزئيات ليست ذات قيمة أكثر من ذاتية محض، أو في سرداب الإيغال في الحاضر، وبتر صلته الحيّة بالماضي وبالمستقبل أيضاً، أو بالعكس: الإيغال في الماضي وقطع صلة الحاضر الحيّة به.
بطبيعة الحال، هناك رهانات أخرى لـ"مهرجان المدينة"، لا بُدّ من استنباطها إثر انتهاء فعالياته، وهي ذات صلة بما قبلها، وستكون هذه الفعاليات بمنزلة الضوء للمضي بها.
واختارت جمعيّة الثقافة العربيّة إطلاق اسم المدينة على هذا المهرجان الذي سيصبح تقليداً سنوياً، بسبب مركزيّة هذه الثيمة في السياق السياسي والثقافي للفلسطينيين في أراضي 48، الذين فقدوا في نكبة 1948 مدنهم المركزيّة، وهُجّر معظمهم منها.
واستناداً إلى دراساتٍ يصعب حصرها، كانت المدينة الفلسطينية ولا تزال موضع كراهية معلنة لدى الحركة الصهيونية، وأخذت مظهراً عملياً في حرب 1948. ويلفت الباحث إ. أمينوف، مثلاً، إلى أن الإرهاب الذي مارسه الصهاينة حيال المدن الفلسطينية الثلاث الكبيرة، يافا وحيفا والقدس، منذ ديسمبر/ كانون الأول 1947، شفّ عن إستراتيجية موحدة: في المرحلة الأولى ضرب الريف الزراعي للمدينة وتخريبه، بغرض إيجاد نقصٍ في المواد الغذائية داخلها. وفي المرحلة الثانية: ضرب نقاط إستراتيجية داخل المدن، مثل القنبلة التي ألقاها أفراد منظمة إيتسل على عمال عرب في معامل تكرير النفط في حيفا، والتي أجّجت دائرة دموية من المذابح وأعمال الانتقام، وقصف بناية السرايا في ميدان الساعة في يافا على أيدي أعضاء منظمة ليحي في الرابع من يونيو/ حزيران 1948، والذي أوقع عشرات القتلى ودمّر الأرشيف البلدي، وتفجير فندق سميراميس في حي القطمون في القدس في الخامس من يناير/ كانون الثاني 1948 على أيدي أفراد "الهاغاناه"، وقصف المباني والبيوت المطلة على محيطها في المدن الثلاث الرئيسية. وغداة هذه التفجيرات مرّت مدرعة تابعة لـ"الهاغاناه" في حي الطالبية في القدس، وطالبت السكان بواسطة مكبر للصوت بمغادرة الحي، وقد غادره بالفعل جزء منهم.
ويتطلع "مهرجان المدينة"، في ندواته الفكرية، إلى تأطير محاولات عديدة تواترت في آخر عقدين في حيفا تحديداً، وتمثلت غايتها في استعادة المدينة الفلسطينيّة المفقودة، أو إعادة تشكيلها وبناء حيّز وفضاء ثقافي مدني فلسطيني فيها، بغية الاستدلال على ما في الوسع التعويل عليه للرهان على المدينة بفضائها الأوسع الذي يتجاوز الجغرافيا، محلياً وعربياً وعالمياً.
يشتق المهرجان مدلوله الأهم من جعل الثقافة عموماً بمثابة ضوءٍ من شأنه أن يجعلنا نرى الواقع والعالم في مسار حياة راهنة بات فيه زمان الأسئلة يفيض على ما عداه من أزمنة، وعلى أساس التنائي عن الانصهار في التساؤل وحسب. فالتساؤل، بحدّ ذاته، لا يشكل منهجاً بأي حال، بل يمكن أن يكون مدخلاً (يُعدّ ضرورياً) للانتقاد الذاتي، حتى بإزاء مفاهيم وصلت إلى حافّة المصطلح الثابت أو القبول العام، تمهيداً لطرح بديل عنها.
وثمّة مسألة ثانية واقفة في خلفية المهرجان، هي إيجاد التوازن بين الذات المبدعة والمجتمع الذي تعيش بين ظهرانيه، أو ما اصطلح على تسميته "الكل الاجتماعي". وارتباطاً بحالتنا المخصوصة، وبالتأسيس على هذا التوازن، قد تنخفض إلى حدّ معيّن خطورة سقوط المبدع/ المبدعين في جزئية/ جزئيات ليست ذات قيمة أكثر من ذاتية محض، أو في سرداب الإيغال في الحاضر، وبتر صلته الحيّة بالماضي وبالمستقبل أيضاً، أو بالعكس: الإيغال في الماضي وقطع صلة الحاضر الحيّة به.
بطبيعة الحال، هناك رهانات أخرى لـ"مهرجان المدينة"، لا بُدّ من استنباطها إثر انتهاء فعالياته، وهي ذات صلة بما قبلها، وستكون هذه الفعاليات بمنزلة الضوء للمضي بها.