ولو تمعنّا في أدبيات النهضة العربية التي كان ينادي بها الأحرار العرب ضد التعنّت التركي، وانحياز الترك إلى صفوف الألمان، وسعيهم إلى الاستفادة من الإرث العثماني، لتكريس تفوقهم على العرب، لرأينا أن الدعوة إلى الثورة كانت مستفزة في أساسها من الوحدويين الذين صدّوا كل الأبواب في وجه أي تفاهم أو إصلاح يمنح الأمة العربية في يقظتها فرصةً لتأكيد هويتها وذاتيتها.
المؤتمرات الأوروبية التي كانت تعقد في القرن التاسع عشر من أجل تقاسم رجل أوروبا المريض، لم يكن العرب سببها، بل إنهم رضوا بالضرائب المفروضة عليهم، من دون خدمات أو حماية، وقبلوا بنتائج الإصلاحات الفاشلة التي أقدمت عليها السلطات العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، وفي الربع الأخير منه باسم "تنظيمات خط شريف"، و"خط هامايون".
في نهاية الدولة العثمانية، كان العرب مصدر ضرائب وأرزاق، وجنود في حروب ضد أوروبا لم تكن من ورائها فائدة. وقد توالت الهزائم والمعاهدات التي تقتضم أجزاءً من الإمبراطورية، في الوقت الذي تحوّل فيه الوطن العربي إلى بقرة حلوب لجلب النقود والضرائب للخزانة الإمبراطورية.
في الوقت الذي أعلن فيه الشريف الحسين بن علي الثورة مع أحرار العرب ضد الوحدويين الأتراك، كانت أوروبا والدول الاستعمارية تتقاسم، بالتتابع، الوطن العربي، ففرنسا بدأت باحتلال الجزائر عام 1832 بحجج واهية مفتعلة. وعاودت احتلال تونس، ومن بعدها الغرب، في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين تباعاً.
أما بريطانيا فقد سيطرت على مصر عام 1882 بعد صراعٍ دامٍ مع الفرنسيين، واحتلت إسبانيا أجزاءً من المغرب العربي، وقسّمت الصومال إلى مناطق بين ثلاث دول أوروبية، واستولت الجيوش الإيطالية على ليبيا.
أما الشرق العربي (ما سمي بـِ الليفانت)، فقد جرى تقسيمه بموجب اتفاق سايكس/ بيكو بين فرنسا وانجلترا. ووفقاً لمذكرات جيرترود بيل، فإن مستشاري ونستون تشرتشل نصحوه بأن يدع لفرنسا كلاً من لبنان وسورية، لكثرة المشكلات فيهما، وأن تستولي بريطانيا على العراق والأردن وفلسطين.
ولم تكن الثورة العربية، وسط هذا التآمر الدولي على تقاسم إرث الإمبراطورية العثمانية، لتقوم على أسس معاداة النظام الجائر في الأستانة (اسطنبول) فحسب، بل كان لها فكر يمزج بين الدين والقومية بشكل معتدل واضح المعالم. لا بد من أن تكون للعرب يقظتهم ودورهم في التاريخ، بعدما تلاشت أحلامهم قروناً عديدة.
لم يكن مفهوم العرب عند من قاموا بالثورة عرقيّاً، بل كان شاملاً كل من يعيش على الأرض العربية، ويتلاحم معها. ولذلك، لم يدخل، في حسبانهم، استثناء أحد، أرمنياً كان أو كردياً، أمازيغياً أم شيعة أو سنةً أو دروزاً، وتقدّم للكتابة المدافعة عن العرب مفكرون مسلمون ومسيحيون. وأكدت أدبيات الثورة على احترام كرامة الإنسان، وعدم المسّ بحقوق كل المكونات، بغض النظر عن عددها. وفهمت، في ذلك الوقت، الدين الإسلامي على أنه دين الوسطية والاعتدال، والشمول، والكرامة، ولم تخلط بين الدين والسياسة، فالدين الإسلامي كان الوعاء الحضاري والثقافي للأمة، أما السياسة فكان تدبير شؤونها ومتابعة أمورها ومصائرها من تقدير وفعل النظم الدنيوية القائمة.
وقد رأى الشريف الحسين بن علي نفسه قائداً للعرب في ذلك الوقت، بسبب امتداد حكمهم أمراء على مكة المكرمة، منذ عام 1622. وكذلك بسبب انتسابهم إلى رسول الله محمد بن عبدالله الهاشمي القرشي. وقد أعطاهم شرعية سياسية ودينية. ولم تكن هنالك أنظمة أخرى في الوطن العربي قادرة على أن تقود الثورة والنهضة العربية، فقد كانت الدول العربية في المشرق والمغرب، في آسيا وأفريقيا، تحت حكم الاستعمار المباشر، أو جزءاً من بقايا الإمبراطورية العثمانية المتهالكة داخلياً وخارجياً.
أمام هذه الحقائق، كانت الثورة العربية التي تحتفل بمرور قرن على انطلاقتها مبرّرة، وقيادتها شرعية. ولكن القوى الاستعمارية لم تكن لتستبدل نظاماً عثمانياً يعاني من سكرات الموت بثورة شابةٍ حديثةٍ، تعيد المجد إلى الأمة العربية التي نشرت دينها وفكرها في العالم. ولذلك، تآمروا عليها.
وما تزال المؤامرة قائمة. من قرارات في الكونغرس لتحميل المملكة العربية السعودية ما جرى في برجَي مركز التجارة الدولي في نيويورك يوم الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، وما نزال نرى ميوعةً وتمييعاً للحلول السياسية العادلة في فلسطين وسورية والعراق وليبيا.
نحن بحاجة إلى روح الثورة العربية الكبرى، وفكرها النهضوي مع التجديد لتلائم طبيعة التحديات والتطورات التكنولوجية، لكن المبادئ العادلة التي قامت عليها يجب أن تبقى.
عودة الروح إلى الأمة، وإحياء الأمل بنهضتها، يبقى التحدي الأساسي الذي نواجهه، حتى لا نبقى نهباً للأمم، ولقمةً سائغةً لمن يطمع في ما لدينا.