31 أكتوبر 2024
روسيا وثورة سورية... من تستنزف طاقته أولاً؟
تدمج روسيا في استراتيجيتها الحربية ضد ثوار سورية تجربتين حصلتا في العقدين الأخيرين، وفي إطار ظروف وبيئات تتقاطع مع بعض، وليس كل ما هو حاصل في سورية، وتذهب التقديرات الروسية إلى أن هذا المزيج كفيلٌ بإنهاء الثورة السورية، وإحداث واقع جديد يتطابق مع التصورات الروسية لسيطرتها في المنطقة.
الأولى، تجربة الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، وهي التي استنسخها نظام الأسد، وجعلها الأساس لخطته الحربية، بإضافة تطويراتٍ تؤدي إلى تبيئتها في الواقع السوري. حينذاك، كان ينقص هذا الواقع وجود واضح للطرف الإسلامي المنظّم، وهو ما عمد إلى تركيبه في المشهد السوري بشكل عنفي، عبر جملة من التكتيكات الإستخباراتية التي عملت على حافة الحرب المذهبية، وصولاً إلى صناعتها واقعاً حقيقياً. بالنسبة للأسد، تعنيه التجربة الجزائرية من زاوية أنها جعلت العالم يتقبل الرواية الرسمية القائمة على محاربة الإرهاب، وتجاوز حقيقة أن القضية في أساسها اغتيال للديمقراطية، إذ يكفي وضع عنوان محاربة الإسلاميين، ثم تدوين ما شئت من ارتكابات ومجازر تحت هذا العنوان.
بالنسبة لروسيا، ما يهمها في التجربة الجزائرية أن السلطة أخرجت معارضتها من المدن والحواضر إلى الصحراء والأرياف، وهناك جرى التحكّم بهم عبر محاصرة خطوط الإمداد ووضعهم في ساحات مكشوفة، سهّلت من عملية تدمير هياكلهم، وبعثرة جهودهم، وتحويلها إلى مجرد عمليات صغيرة بلا فائدة إستراتيجية.
التجربة الثانية، هي تجربة روسيا نفسها في غروزني (الشيشان)، والتي غدت من التجارب الشهيرة في مجالات قمع الخصوم، عبر استخدام استراتيجية "السجادة المطوية" التي تقوم على تقسيم المدينة إلى مربعات، ثم تدميرها مربعاً بعد الآخر، إلى حين تحقيق الحسم، في مقابل عجز الثوار في غروزني عن التأثير في هذه الاستراتيجية، والسؤال: كيف يمكن مواجهة هذه الاستراتيجية في الواقع السوري، أم إن أوان مواجهتها قد فات؟
في السابق، راهن كثيرون من داعمي الثورة وأركانها على أن روسيا سيكون نفسها قصيراً،
وستكون مستعجلة على إحداث تغييراتٍ على سطح الحدث، من أجل تحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية في مواجهة منافسيها الدوليين، وأنها لن تحارب كرمى لعيون الأسد. تبدو اليوم هذه الرهانات غير حقيقية، ومن التضليل الاستمرار في نشرها. ولم يعد مجدياً التركيز على البيانات الاقتصادية الروسية المتهاوية، وتراجع التنمية وهبوط سعر صرف الروبل، تلك مؤشراتٌ، على أهميتها، لا تنعكس على موقف روسيا وقوتها في سورية.
في المقابل، راهن ثوار سورية على قدرتهم على امتصاص الصدمة، ومرونة هياكلهم الثورية، وحجم انتشارهم. وفوق ذلك، قوّة الحق الذي تستند إليه قضيتهم ومحفّزات المظلومية التي يقاتلون تحت عنوانها، وقدرة ذلك كله على إنتاج دينامياتٍ ثوريةٍ، تنتصر على أي محاولة لكسرها.
غير أن المعطيات التي كرّستها كل من روسيا وإيران، عبر تغييرٍ ليس فقط معادلات الصراع من خلال الزجّ بقوتيهما إلى أقصى الحدود، بل ومن خلال التغيير المستمر لمسرح الصراع وحيثياته، عبر تأسيس حيثياتٍ لهما على الأرض، سواء على شكل قواعد ومرتكزات عسكرية، مثلما فعلت روسيا، أوعلى شكل إنشاء أهلّة استيطانية في المناطق الاستراتيجية الحاكمة للعاصمة والخواصر الحدودية مع لبنان، وقد ساهم ذلك كله في تدعيم توليد طاقتهما الصراعية، وخفض التكاليف إلى درجة متدنية، بما يجعلهما (روسيا وإيران) قادرتين على تحمل الصراع مدة أطول.
في المقابل، أسهمت إجراءاتهما الحثيثة بنزع طاقة السوريين بدرجةٍ كبيرة على الاحتمال، فقد حطمت الحواضن الاجتماعية، واستنزفت قدرتها على توليد الفعل الثوري، والاستمرار بالصمود، حتى باتت هذه المجتمعات مستعدةً للقبول بتسوية مع النظام، ولو على حساب الثورة.
إذاً، التحدي المطروح اليوم أمام الثورة السورية، كيف يمكن الحفاظ على الطاقة التشعيلية للثورة، وكيف يمكن ابتداع محرّكات جديدة لاستمرارية الثورة، شريطة تحقيق الجدوى وتقليل حجم الاستنزاف، بما يؤدي إلى عكس الأزمة إلى الطرف الآخر.
طالما راهن الثوار على كثافتهم العددية أكثر من رهانهم على أسلوب العمل وطرائقه، وقد استطاع الطرف الآخر إلغاء هذه الميزة من خلال استقطابه آلافاً مقابلة من دول الجوار، أو من خلال استخدام الكثافة النارية التي تضمن تعطيل فاعلية الأعداد وإلحاق الأضرار الكبيرة بها. وبالطبع، من الإجحاف القول إن التكتيكات التي استخدمها الثوار فشلت. هذا جلد للذات غير حقيقي، بدليل أن الثورة استنزفت قوة نظام الأسد، ومن خلفه إيران وحزب الله والمليشيات العراقية، وإنْ لم يكن هذا هدف الثورة، ولا طموحها، بقدر ما كان تحقيق الانتصار على نظام الاستبداد.
تتغير المعطيات اليوم، وتنقلب المعادلات، بما يحتّم على الثوار تغيير الإستراتيجيات، وعلى الثوار أن يوظّفوا معطيات كثرتهم العددية، ومحرّك الحماسة لعدالة قضيتهم في إطار الصياغة الجديدة لاستراتيجياتهم، لا أن يركنوا عليها عناصر وحيدة للنصر.
وعلى الرغم من أن ثمة فوارق بين التجربتين، الجزائرية والشيشانية، والتجربة السورية، وبالتالي، استحالة انطباق نتائجهما على سورية، وخصوصاً لفرق المساحة مقارنة بالشيشان، وحجم التسليح والدعم والعدد، مقارنة بتجربة الجزائر، إلا أن روسيا تحاول ليّ عنق المعطيات وسحبها بهذا الاتجاه، ولا يمكن تغيير الموجة وعكسها إلا من خلال ضخ مزيد من الطاقة في شرايين الثورة، ولعل البداية تكمن في إنهاء تشتت القوى الثورية، وتنظيم الموارد البشرية المقاتلة، وتوجيهها ضمن خطط تعكس رؤية استراتيجية للميدان السوري بكليته.
الأولى، تجربة الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، وهي التي استنسخها نظام الأسد، وجعلها الأساس لخطته الحربية، بإضافة تطويراتٍ تؤدي إلى تبيئتها في الواقع السوري. حينذاك، كان ينقص هذا الواقع وجود واضح للطرف الإسلامي المنظّم، وهو ما عمد إلى تركيبه في المشهد السوري بشكل عنفي، عبر جملة من التكتيكات الإستخباراتية التي عملت على حافة الحرب المذهبية، وصولاً إلى صناعتها واقعاً حقيقياً. بالنسبة للأسد، تعنيه التجربة الجزائرية من زاوية أنها جعلت العالم يتقبل الرواية الرسمية القائمة على محاربة الإرهاب، وتجاوز حقيقة أن القضية في أساسها اغتيال للديمقراطية، إذ يكفي وضع عنوان محاربة الإسلاميين، ثم تدوين ما شئت من ارتكابات ومجازر تحت هذا العنوان.
بالنسبة لروسيا، ما يهمها في التجربة الجزائرية أن السلطة أخرجت معارضتها من المدن والحواضر إلى الصحراء والأرياف، وهناك جرى التحكّم بهم عبر محاصرة خطوط الإمداد ووضعهم في ساحات مكشوفة، سهّلت من عملية تدمير هياكلهم، وبعثرة جهودهم، وتحويلها إلى مجرد عمليات صغيرة بلا فائدة إستراتيجية.
التجربة الثانية، هي تجربة روسيا نفسها في غروزني (الشيشان)، والتي غدت من التجارب الشهيرة في مجالات قمع الخصوم، عبر استخدام استراتيجية "السجادة المطوية" التي تقوم على تقسيم المدينة إلى مربعات، ثم تدميرها مربعاً بعد الآخر، إلى حين تحقيق الحسم، في مقابل عجز الثوار في غروزني عن التأثير في هذه الاستراتيجية، والسؤال: كيف يمكن مواجهة هذه الاستراتيجية في الواقع السوري، أم إن أوان مواجهتها قد فات؟
في السابق، راهن كثيرون من داعمي الثورة وأركانها على أن روسيا سيكون نفسها قصيراً،
في المقابل، راهن ثوار سورية على قدرتهم على امتصاص الصدمة، ومرونة هياكلهم الثورية، وحجم انتشارهم. وفوق ذلك، قوّة الحق الذي تستند إليه قضيتهم ومحفّزات المظلومية التي يقاتلون تحت عنوانها، وقدرة ذلك كله على إنتاج دينامياتٍ ثوريةٍ، تنتصر على أي محاولة لكسرها.
غير أن المعطيات التي كرّستها كل من روسيا وإيران، عبر تغييرٍ ليس فقط معادلات الصراع من خلال الزجّ بقوتيهما إلى أقصى الحدود، بل ومن خلال التغيير المستمر لمسرح الصراع وحيثياته، عبر تأسيس حيثياتٍ لهما على الأرض، سواء على شكل قواعد ومرتكزات عسكرية، مثلما فعلت روسيا، أوعلى شكل إنشاء أهلّة استيطانية في المناطق الاستراتيجية الحاكمة للعاصمة والخواصر الحدودية مع لبنان، وقد ساهم ذلك كله في تدعيم توليد طاقتهما الصراعية، وخفض التكاليف إلى درجة متدنية، بما يجعلهما (روسيا وإيران) قادرتين على تحمل الصراع مدة أطول.
في المقابل، أسهمت إجراءاتهما الحثيثة بنزع طاقة السوريين بدرجةٍ كبيرة على الاحتمال، فقد حطمت الحواضن الاجتماعية، واستنزفت قدرتها على توليد الفعل الثوري، والاستمرار بالصمود، حتى باتت هذه المجتمعات مستعدةً للقبول بتسوية مع النظام، ولو على حساب الثورة.
إذاً، التحدي المطروح اليوم أمام الثورة السورية، كيف يمكن الحفاظ على الطاقة التشعيلية للثورة، وكيف يمكن ابتداع محرّكات جديدة لاستمرارية الثورة، شريطة تحقيق الجدوى وتقليل حجم الاستنزاف، بما يؤدي إلى عكس الأزمة إلى الطرف الآخر.
طالما راهن الثوار على كثافتهم العددية أكثر من رهانهم على أسلوب العمل وطرائقه، وقد استطاع الطرف الآخر إلغاء هذه الميزة من خلال استقطابه آلافاً مقابلة من دول الجوار، أو من خلال استخدام الكثافة النارية التي تضمن تعطيل فاعلية الأعداد وإلحاق الأضرار الكبيرة بها. وبالطبع، من الإجحاف القول إن التكتيكات التي استخدمها الثوار فشلت. هذا جلد للذات غير حقيقي، بدليل أن الثورة استنزفت قوة نظام الأسد، ومن خلفه إيران وحزب الله والمليشيات العراقية، وإنْ لم يكن هذا هدف الثورة، ولا طموحها، بقدر ما كان تحقيق الانتصار على نظام الاستبداد.
تتغير المعطيات اليوم، وتنقلب المعادلات، بما يحتّم على الثوار تغيير الإستراتيجيات، وعلى الثوار أن يوظّفوا معطيات كثرتهم العددية، ومحرّك الحماسة لعدالة قضيتهم في إطار الصياغة الجديدة لاستراتيجياتهم، لا أن يركنوا عليها عناصر وحيدة للنصر.
وعلى الرغم من أن ثمة فوارق بين التجربتين، الجزائرية والشيشانية، والتجربة السورية، وبالتالي، استحالة انطباق نتائجهما على سورية، وخصوصاً لفرق المساحة مقارنة بالشيشان، وحجم التسليح والدعم والعدد، مقارنة بتجربة الجزائر، إلا أن روسيا تحاول ليّ عنق المعطيات وسحبها بهذا الاتجاه، ولا يمكن تغيير الموجة وعكسها إلا من خلال ضخ مزيد من الطاقة في شرايين الثورة، ولعل البداية تكمن في إنهاء تشتت القوى الثورية، وتنظيم الموارد البشرية المقاتلة، وتوجيهها ضمن خطط تعكس رؤية استراتيجية للميدان السوري بكليته.