يبدأ حجاب الرؤية من زلزلة السؤال إلى شرنقة اللذّة
تبدأ هشاشة الحال من عُري الأرض إلى تلصّص المطر
سيقان الريح دونها رعشةٌ وتيهٌ دونَه تيه
■ ■ ■
الفتى يقرأ في الشُّبهات آيات الطمأنينة
الفتى يرشق في الأفق الخيبات الهاربة
الفتى يراكم في الظلّ المهمل هفوات العمر
الفتى يتأوّه في الحجرات البعيدة
■ ■ ■
سِرْ سِرْ سِرْ وتنفّسْ سِرْ سِرْ سِرْ
على ظهر الحصان جلس الفارسُ
عاريًا إلّا من تاج يلمع تحت الشمس
■ ■ ■
البراري غبارٌ تذروه الليالي
لم أر غير جَملٍ وامرأة جالسة وقطفة حبق
هادئاً ورقيقًا يغشى العينَ غيمٌ الحزن
■ ■ ■
يتلوّى الهمس الخائف في فلوات الوحشة
فخورةً تقف النخلات بأثدائها الصغيرة
الناقة تسير إلى فراغ شاسعٍ
تغرب الشمس نعسانة في أصواتُ الطير
■ ■ ■
في مرآة الشمس يتقلّب الليل
بين خيط الضوء وخيط العتمة غربال الرؤيا
الكائنات تدخلُ السماء من بوابة الأوهام
■ ■ ■
يؤوب القمر يصعد إلى سريره يحدّق في الفراغ طويلاً
تقدّمْ أيّها الخريف مدّ ساقيك على حصير أصفر
فأنا ضفدع صحراء يُدحرج الوقت
■ ■ ■
حين وضعتُ صرختي على صدري لم ينتبه العصفور فوق الغصن
البحر السكران يهزّه موج من فوقه موج
القلبُ الفارغ لا يتوقّف عن تثبيت أزرار سكينته
■ ■ ■
يقذف البحر الماكر زَبَده على المرأة المستلقية
لم يبق من شظف الجسد إلّا لذّته القرمزية
إلى جسدها جاءت الأسماك وغنّت
الفتى خاتلَ حارسَ الليل وغاب في الطريق
كأن العروس حقل زعفران
أدهشتِ البحّارَ انزلاقةُ القارب الناعمة على الرمل
■ ■ ■
أصابع الطمأنينة تُطلقُ في الهواء فراشات العشية
في القبر الأول جسدان
في القبر الثاني هفوات
في القبر الثالث سراج
■ ■ ■
البومة بلا حراك
مَنْ يسمع الآتي مَنْ يسمع الراحل
تركني النسيان وحيدًا أتذكّر حاشية الثوب
وكيف سقطَ جسدها الرشيق على سجّادة الكون
لا صوت أُشارك به جوقة الكائنات
لا أقدام تسبقني ولا أيدٍ أُبعد بها الألم
■ ■ ■
كلّ صباح أصعدُ طريق الشمس
أقطفُ الحصى المتناثر في البرية
يدهشني ذوبان الأصوات في الفضاء
لا أُبقي منها إلا رجفة طفيفة في أجفان الليل
■ ■ ■
لأنّها ساذجة تبوح بأسرارها
جبلٌ يجلس في ظلّه
كثيبُ رمل يسرق من شجرة تين رائحتها
على بابها يقف حصانان هائجان
الليل غربال النسيان
المدينة ألف إصبع يتحسّس المطر
■ ■ ■
المارون الشامتون الصامتون على مضض
الحاملون نعوشهم على ظهورهم
السابحون في عبادات اللسان
المارقون الساجدون تمشي أمامهم خطاياهم
■ ■ ■
عليها أن تستلقي عارية تغازل النجوم
عليها أن تحفر عميقًا في لسان الكون عن أصواته
عليها أن تُبعد أحلامه
عليها أن لا تنفض أبدًا من على سريرها غبار الليل
■ ■ ■
لطائري الحجري أربعة أجنحة ومنقار ذهبي وحكايات طويلة
عن نساء هائجات
عن أطفال وضحكات وبحر عن آهات حزينة ولهب
عن مقابر في صحارى بعيدة وأنين
عن بيضة كانت لأبي أتوسّدها حين أنام
■ ■ ■
كلّ شتاء يبني الظلّ بيته يجمع آهاته
يرفعها عاليًا في السماء يطهّرها بغيمة أو بعض يقين
هو يعلم أنّ العمر قبضةُ يدٍ فارغة
■ ■ ■
ضُمّي إليكِ أيتها اليرقة البارعة خواء النور
ضعي ختمك على فم اللهفة
انظري كيف يحرق الشعراء اللّذّة وكيف يطحنون ماء الرغبات
■ ■ ■
مخيفة الأرض غارقة في الغفلة
وأليفة ضربات النحّات الأعمى
لقد صار رأسي ناب عاج وعيناي حبّتَيْ فول
لكن وقفتي لا تستقيم إلّا بنبيذ أحمر
وذاكرتي لا تذكر من ليلها إلا هذا الحطام
■ ■ ■
سطّر الحالمون أغنياتهم
أعطوا لكلّ زهرة اسمها ولكلّ ريح شراعها
وُجد في سِفر قديم أن السلحفاة (رحمة بالعالمين) قد أخفت في الفراغ العظيم بكاء الأنبياء
■ ■ ■
أهذه خلوات للمحو أم حجرات لّلذة الماكرة؟
كنتُ قبل التمساح وقبل السلحفاة ملكًا على الماء وعلى الطين
في عيني نام الوقت طويلاً وكان الفراغ مركبي في وحشتي الأبدية
على الحجر تركت نابين وانتفاخين ينبضان على مهل
■ ■ ■
طاش سهمي وانفتحت البطحاء أمامي
تلمّسْتُ نتوء الذلّ وحوّمْتُ آن استطعتُ على عرش السوسنة
قبر السمكة حجر وشمس وهواء
إلى أين رحل البحر وماء البحر؟
هزّت عظام ذيلها قليلاً ونظرت بعينين متعبتين
الماء هناك في الأعلى أزرق
أعرفه لا يبقى على حال
■ ■ ■
قال الجالس أمام البحر لرفيقته الناعمة: انظري
فرعون بكامل عدّته ندبةُ الحرب على جبهته ومراهمُ العطّارين السميكة
على صدره وفخذيه خصلاتُ شعره ملفوفة بخيط حرير أحمر
هذا ما تفعله الريح بفرعون وبقبلات العذارى
■ ■ ■
مثلما للأصبع بصمته كذلك للحجر بصمته
حجر الرمل حجر الشجرة وحجر الماء
أعمى يتلمس في القبو خطواته
وحجر يتلمّس خطوات الليل على الجدران
■ ■ ■
يصعد المعنى في جسد الكلمة مثلما يصعد الماء في جسد الشجرة
لكن الحيرة تبني أعشاشها وتنتظر هناك في آخر الطريق
■ ■ ■
مستلقيًا قربها على فراش التين وأوراق الصنوبر
ورداتها أغلقت أبوابها ورداؤها القرمزي يهتك سرّ عريها
■ ■ ■
"إلى البحر" قال كبير الكهنة
"إلى البحر القوا بهما وارتدّوا على أعقابكم ستدخلهما
الريح الهائجة سرّة الكون"
قال كبير الكهنة وهو يلوّح بيده المرتعشة
■ ■ ■
ثلثاي رأس والثلث الآخر ذيل
غرّتي قوس واسع
عيناي أين عيناي؟
طين لازب وتخاريف نار
■ ■ ■
في قعر الوادي على حاشية الماء وفي أعلى ساق طائر الحناء
صوتٌ خيّرني بين موت في سقيفة ظليلة أو موت في حانة
كنتُ سكران وكانت الموسيقى في أول الديوان الكبير
■ ■ ■
قالوا رأسي حبّة عدس لكنّي ملك
اخترتُ الجبل سكنًا ومستقرا وطائر البوبشير لي رمزًا
أعلّق على كتفي الأيمن مشبكًا من ذهب
أطلق جيادي مع مجيء الفجر الأبيض
ولا أستقبل الليل إلا سكران
طوبى لي وطوبى لمملكتي
■ ■ ■
على الجانبين تنهار الموجات واحدة إثر أخرى
رايات كثيرة ملونة عالية وأنا ببطء شديد افتح عينًا واحدة
وببطء أشدّ أقضم قضمة من عنق زهرتها وأغرق في النوم
■ ■ ■
لأنجو من بحر الرمل ألتصقُ أكثر
أدوّر نعومة الرمل تحت الصدر وتحت البطن
أجعل درجًا على بسطة كلّ رجفة
■ ■ ■
تحدق مقاعد الحديقة الطيبة في الفراغ
تخاطب الطفلةُ في الفستان الوردي قطتها السابحة في الهواء
تنهمر أغاني الربيع من صومعة الجامع
ترنو باسمة في عليائها السموات
نرقص ونملأ الكأس تلو الكأس إلى أن يفضح الديك رسول النهار
■ ■ ■
من نافذتي يمكنني أن أعرف كم مرّة غطس عقرب الماء العظيم!
يقف على حراشف قدميه الخلفيتين يرفع أذرعه الثمانية يقوّسُ صدره وبطنه
ثم يلتفت نحوي ملوّحًا بقرنين أسودين طويلين
■ ■ ■
في الحضرة يأخدني الأرجواني الوديع
في السكْر يأخدني الجناحان المستسلمان إلى رائحة القرنفل
في الشهقة يأخدني خيطها الحريري إلى استدارة الصباح
في الظلمة يأخدني الوهم إلى حرب جديدة
■ ■ ■
تطلُّ بأعناقها هادئة كأن المساء لم يعبر بوابة الظلال
فوق كلّ نخلة حمامة وفوق كلّ حمامة سماء
غاب النوم والنافذة مفتوحة على الصحراء
■ ■ ■
بيديّ أُدوزن ماءها
غربان الأمس لم تأت لعلّها رحلت معهم!
عندما تهدأ الكائنات تنسلُّ في الليل عفاريت الريح
في التيه تتداعى الكلمات تتباعد جذوع النخل تتقارب الأحلام
■ ■ ■
الطريق إليها أحجار حمراء وظلال شاحبة
الذين مرّوا تركوا روائحهم
الذين بقوا أخذهم النسيان
في الصيف تزدهي قبّتها البيضاء
■ ■ ■
نتوء في الريح معلّق هكذا
وغبار خطواتهم يبحث عن صدى أغانيهم
رأس الملكة وعنقها الطويل على النهر
والنهر يلقي سجادته الذهبية قاربًا لقتلاه
■ ■ ■
جاءوا بحملين كبيرين من تمر وتين
جاءت دواب البرّين رَمَتْ النظرات الحزينة على وجه الماء
عندما ارتفع رأسها قليلا ورنت بعينيها نحو الجنوب
اهتزت الأرض وانتشر الظلام
على قضيب يستريح حجر
■ ■ ■
هذا ما تبقى من قيظ ظهيراتي
جِرار خمر وصدى كلام عابر
الحجر أفشى أسراري وهرب مع الهاربين
هذه بوابة التعب العظيم وهذه نافذة اليقين
قُرب دورق مكسور ظِلّ عقرب جائعة
فناء مليء بالعويل والعرق
هذه آخر بواباتي أين المفر؟
■ ■ ■
دخلوا بقبعاتهم الطويلة المدبّبة
بتنانيرهم القصيرة المشقوقة من الجانبين
بلحاهم المضمّخة بزيت الزيتون
بصنادلهم الملوّنة من جلود السنور والتماسيح
في أيديهم أوراق ومن خواصهم تتدلّى محابر وأقلام
دخلوا صامتين
■ ■ ■
إطلاق نار متقطّع الرجل النحيف يضحك
لم أتوقع سقوطه كان يتكلم بلا توقف
بين أغصان عارية نصبتِ الطيور شراكها
هوىً ساهرٌ بين مكحلتها وانزلاقة الحرير
أطلق قذيفته لمحَ طيف صديقه يهرول نحوه
ميتان في وادٍ غير ذي زرع
■ ■ ■
ركبوا الحافلة على عجل
تمايل السكران ألقى السلام على عجل
ضاربو الطبول جاءوا من كلّ مكان
أنهى أُغنيته الحزينة الولد الوراء السور
فتح الكتاب انتزع السيف من يد القتيل
همسٌ حميم رافقه إلى آخر المدينة
قوس الظهيرة خيط لا يكاد يبين
■ ■ ■
من كوة في أعلى الحائط يختلس السجين شذرات حياة
يراقب تنهيدته تصعد سماء الله
أغمض عينيه لم يشأ إعادة الجملة مرتين
■ ■ ■
أصفق بيدي في الظلام لم أتوقف منذ خانني الشِعر
أُحبُّها يدي لأنّها مسحت الكلام عن الكلام
أتألم لأن النوم يأتي قبل أن أسمع أغنية الطائر
أتأمّل مليّاً أسئلة السماء وأشهق برؤية طفولتي البعيدة
■ ■ ■
كلّما جاء خاطر بلا دعوة أنْصَتُّ بانتباه إلى البلاغة الساذجة
ورقة الحبق الطريّة في فنجان الشاي تستلقي كإلهة ليبية قديمة
أتبعُ أثر الطائر فقط لأسمع لحنه الكونيّ
في الخريف أحدُّق كثيرًا في السحب العابرة
■ ■ ■
لعلّي ذات خريف أفهم طائر الحنّاء
مطر على نافذة المطبخ
من خزانة الريح تأتي رائحة شجرة التين العجوز
صوت الناي يرتجف سماء تتكئ على حزنها
هوى المنقّبة ريشةٌ تتقلّب في الحيرة
■ ■ ■
"لقد غادر الصيف" يقول العجوز الذي جاء مع البحر
حين صعدتُ الجبل توقفتُ حزيناً لم أسمع نباح كلابهم
رأيتهم بين العتمة والماء
المرأة والصبيّ والأعمى الذي نسي الكلام
■ ■ ■
في السهل الشاسع
في أيدي الرجال الملتحين
في حكاية الراوي البليغ
حبّة خردل لا أكثر
* شاعرٌ ليبي مقيم في النرويج