فبعد توجيه الاتهام إلى رئيس البرلمان، المقرب من الرئيس إيمانويل ماكرون، ريشار فيران، ثم الاستماع إلى حليف كبير للرئيس، وهو رئيس حزب "موديم"، فرانسوا بايرو، ونائبته مارييل دي سارنيز، في ما يخص شبهات تتعلق بصرف أموال البرلمان الأوروبي في أغراض حزبية وداخلية، وهي استدعاءات وجهت إلى العديد من قياديي حزب "التجمع الوطني"، اليميني المتطرف، ثم محاكمة السياسي العجوز، وعمدة مدينة لوفالوا في الضاحية الباريسية باتريك بَالكاني، وزوجته إيزابيل، وهي نائبته في البلدية ومرشحة لخلافته في الانتخابات البلدية القادمة سنة 2020، بِتُهم كثيرة، منها التهرب من الضريبة، وصدور أحكام بالسجن الفوري في حق العمدة، وهو ما اعتبره محاميه إيريك دوبون موريتّي بـ"منتهى اللامعقول القضائي"، وبالسجن أيضاً في حق زوجته، يأتي دور زعيم حركة "فرنسا غير الخاضعة" جان لوك ميلانشون والعديد من رفاقه في الحركة للمثول، يومي الخميس والجمعة القادمَيْن، أمام القضاء بِتُهم "التمرد، واستفزاز السلطة القضائية"، والمتجلية في شبهات عرقلة ميلانشون وبعض رفاقه القضاء في تفتيش مقراته السياسية ومقر سكنه. وتصل العقوبات إلى عشر سنوات سجناً، و150 ألف يورو (أي نحو 165 ألف دولار أميركي) غرامة.
جولة سياسية طويلة
واستباقاً لهذه المحاكمة، وبمناسبة الدخول السياسي لجان لوك ميلانشون، الذي لم يشارك في اجتماع حركته في هذا الدخول الجديد، بسبب وجوده خلال شهرين في أميركا اللاتينية والجنوبية، حيث حظي هناك بلقاء زعماء سياسيين، من بينهم الرئيس الحالي لجمهورية المكسيك، مانويل لوبيز أوبرادور، والرئيسة السابقة للأرجنتين، كريستينا كيرشنر، والرئيس السابق للأوروغواي، خوسيه موخيكا، ثم الرئيس البرازيلي الأسبق لولا داسيلفا في محسبه، أصر على تسليط الضوء على محاكمته، التي اعتبرها "سياسية"، والغرض منها "تدميره" وتدمير المعارضة السياسية التي تمثلها حركته السياسية لحكومة إيمانويل ماكرون وسياساته.
ولا شك أن ميلانشون عاد من زياراته الأخيرة بهالة سياسية أكبر مما كان عليه سابقاً، أي أكثر مما كان عليه حين راهَن على النظام البوليفاري في فنزويلا وعلى الراديكاليين اليونانيين، الذين خذلوه في قراراتهم السياسية والاقتصادية لمعالجة الأزمة في اليونان.
وكان ثمرة هذه الجولة السياسية الطويلة التوافق مع الرئيس البرازيلي الأسبق والسجين لويس إيناسيو لولا داسيلفا ومع سياسيين أوروبيين، من بينهم زعيم حركة "بوديموس"، بابلو إغليسياس، وعاملين على بيان نشر بعدة لغات، يطالب بوقف "المحاكمات السياسية"، وقد حظي البيان بآلاف التواقيع من مختلف بقاع الأرض.
ويتحدث البيان عن بعض المحاكمات السياسية، ومنها ما يتعرض له الرئيس البرازيلي الأسبق، ورئيس الإكوادور السابق، رافائيل كوريا، ورئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر، والموريتاني بيرام الداه أعبيدي، والمحامي المصري معصوم مرزوق، وهو معارض لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، وآخرون، ومنهم الفرنسي جان لوك ميلانشون، الذي يورد البيان أنه "متابَعٌ من دون أي أدلة وسيحاكَم بتهمة التمرد".
ويعرف البيان ما يجري في هذه المحاكمات بأنه نوع من "الحرب التي تَستخدِم القضاء"، ويرى أنها تسجُن النقاشات في محاكم القضاء، وتعطّل سير الانتخابات.
ولم يكتف زعيم "فرنسا غير الخاضعة" بـ"الاستنجاد" بالزعيم لولا، كما يقول خصومه الذين يرون نوعاً من البلاغة والادعاء حين يقارن بين وضعه في فرنسا، بلد القانون وحرية القضاء، والبرازيل، حيث يحكم اليمين المتطرف وحيث عُيِّنَ القاضي الذي أمر بسجن لولا وزيراً للعدل، بل وأطل، أيضاً، على الفرنسيين بكتاب يصدر يوم المحاكمة، يوم الخميس القادم، بعنوان طريف: "هكذا دواليك". وفي الكتاب عرض لما يراه ميلانشون براهين على أن محاكمته سياسية صرف، لأنه يمثل زعيم المعارضة الأقدر على إزعاج الرئيس ماكرون وسياساته.
وكل هذه البراهين حاول ميلانشون أن يصدح بها في كل لقاءاته، سواء مع جمهوره، أو أمام وسائل الإعلام. وهي لم تتغير منذ الأيام الأولى التي شوهد فيها وهو ينفعل أمام عشرات من رجال الشرطة أتوا لتفتيش بيته، وهو ما يشرحه وليدُ مدينة طنجة المغربية بمزاجه "المتوسطي".
وفي آخر لقاء له مع صحيفة "لوجورنال دي ديمانش"، يواصل ميلانشون هجومه، فهذا السياسي، والخطيب المفوّه، يعرف أن الهجوم أفضل طريقة للدفاع، وهو هجوم شامل على المؤسسة القضائية، التي "لا أثق فيها"، "أي عدالة؟ يتعلق الأمر بحرب سياسية"، لا "قانون، ولا عدالة، هي فقط تصفية سياسية"، والغرض منها "الإضرار بنا خلال أطول فترة ممكنة".
ولا يتهرب ميلانشون من انتقاد سياسيين، ومنهم وزيرة العدل نيكول بيلوبي، لمقارنته بين الأوضاع في فرنسا وبلدان أخرى، ليست العدالة فيها دائماً بخير، ويؤكد أن "فرنسا أدانتها منظمة الأمم المتحدة والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان"، ويصف الوضع بـ"الخطير"، معللاً "عنف بوليسي وقضائي ضد السترات الصفراء أو ضد النقابيين، موت زينب رضوان (أول ضحية في حراك السترات الصفراء وقتلت بسبب مقذوف للشرطة داخل بيتها في مارسيليا)، وغرق الشاب ستيف مايا كانيسو، والسجن لمن اقتلع بورتريهات ماكرون، إلخ، الانحراف السلطوي موجود هنا".
واعتبر ميلانشون أن "النقابات واليمين المتطرف يسيطران على الشرطة الفرنسية". وطالب بالتظاهر، "يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول ضد الرئيس ماكرون"، متسائلاً "أين وزير الداخلية وأين وزيرة العدل؟".
واعترف ميلانشون بتأثير هذه الحملة "السياسية" على حركته وعلى أدائها السياسي وعلاقتها بالشعب. وتساءل عن سر توقيت هذه الاستحقاقات القضائية مع الانتخابات الأوروبية، وعن سرّ تسريباتها في الصحافة، قبل أن يكون هو ورفاقه ومحاميه على علم بها؟
كما اعترف بنجاح هذه "الضربة" في وقف مسار حركته في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، قائلاً "كنا نعول على أن نكون جسراً بين السترات الصفراء والطبقات المتوسطة، كما حدث في الانتخابات الرئاسية، فقامت الحكومة بتخويف الطبقات المتوسطة عبر شيْطَنَة السترات الصفراء، وعبر تشويه صورة صلة الوصل الأساسية بين هاتين المجموعتين، وهي حركة فرنسا غير الخاضعة".
الحزب الإيكولوجي
ولا شك أن ميلانشون، الذي اعترف بالهزيمة التي حصلت في الانتخابات الأوروبية، والتي حققت فيها حركته 6.31 في المائة، بعدما قارب نسبة 20 في المائة في الدورة الأولى من رئاسيات 2017، واعٍ بضرورة استرجاع رأسمال سياسي ثمين كان في جعبته، ولا شك أن انفعالاته "المتوسطية" في وجه الشرطة أثناء تفتيش بيته ومقراته الحزبية، ساهمت في تبديده وهو ما تجلى في انصراف الكثير من المتعاطفين معه عنه.
ولكنه يدرك أن القدرات ليست كما كانت عليه في السابق، أي بعد نتائج الانتخابات الأوروبية، كما يعترف قائلاً "ولكن التحدي يظل قائماً: كيف نستطيع توحيد الشعب؟ إذا كان الأمر يتطلب حواراً مع الإيكولوجيين، الذين لهم تأثير مباشر مع الطبقات المتوسطة العليا، فسنفعل. ولكن توحيد الشعب لا يعني تجميع أسماء أحزاب".
يبقى أن يدرك ميلانشون أن الحزب الإيكولوجي، بعد نتائجه الأخيرة والجيدة، شبّ عن الطوق، وأصبح يمارس الهيمنة ذاتها التي كان يتعامل بها ميلانشون بعد نتائجه في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية السابقة على الأحزاب اليسارية الأخرى. وليس أدلّ على ذلك من تصريحات يانيك جادو، رئيس لائحة الإيكولوجيين للانتخابات الأوروبية، والتي لم يعد يعترف فيها بتموقع حزبه في اليسار. وهذا يعني أن حركة ميلانشون ليست في أفضل حال. وهو ما يفسر قلة الدعم الذي يحظى به، إذا استثنينا تأييد أوليفيي بوزانسنو، القيادي في حزب "الحزب الجديد المناهض للرأسمالية"، اليساري المتطرف.