زمن الردة العربي الجديد
ما تعرفه، اليوم، المنطقة العربية ينبئ بردة كبيرة على كل ما وعدت به ثورات الشعوب. ولن نتكلم، هنا، عن بشائع "داعش" التي تجر المنطقة إلى الخراب والحروب الطائفية الطاحنة، ولا عن براميل الأسد المتفجرة فوق رؤوس الأطفال والنساء، ولا عن فيالق الحوثيين الذين يحاصرون العاصمة اليمنية. أما الانهيار الكبير للدولة في ليبيا فأصبح غير ذي موضوع، حتى يستيقظ العالم على ظهور خليفة جديد، يخرج من صحراء ليبيا، معلناً قيام دولة الخلافة في الغرب الإسلامي.
بعيدا عن بؤر الانفجارات هذه، سأتحدث عن حالات الردة التي تعيشها دول عربية، تستغل أنظمتها انشغال العالم بالإعداد لحربه على "داعش"، لتجهز على آخر ما تبقى من ربيع عربيٍّ، أصابه اليباس قبل أن تزهر وروده، ويتعلق الأمر بمصر والأردن وتونس والمغرب.
في مصر، لا صوت يعلو فوق صوت الحرب على كل صاحب رأي مخالف، يغرد خارج جوقة التطبيل للانقلاب. فمن الحرب على جماعة الإخوان "الإرهابية"، إلى الحرب على المجتمع المدني المستقل. وبعد الاعتقالات والمحاكمات غير العادلة لنشطاء المجتمع المدني، يسعى النظام إلى التضييق القانوني على حركة منظماته غير الحكومية وحريتها. ويتجسد خطر هذا التضييق الكاتم للأنفاس في "مشروع قانون الجمعيات الأهلية" الذي طرحته وزارة التضامن الاجتماعي، ويسعى النظام إلى تمريره في غياب أية مؤسسة تشريعية.
مشروع القانون هذا احتجت عليه أكثر من 23 جمعية مدنية مصرية، يقول نشطاؤها إنه يسعى إلى تأميم المجتمع المدني، وتدجينه والتحكم فيه وجعله في خدمة النظام، ويهدّد كل خارج عن "الإجماع" على مباركة الانقلاب بالسجن. وقد نفذت السلطة فعلاً تهديداتها، حتى قبل أن يولد مشروع القانون، وأحالت عاملين في هيئات المجتمع المدني التي أصبحت تصفها احتقاراً بـ"الكيانات" للمحاكمة والسجن.
وغير بعيد عن مصر، تشهد الأردن حملة قمع للمعارضة ليست جديدة، لكن الجديد ما تتضمنه تعديلات مقترحة لـ"قانون منع الإرهاب" تهدّد حرية التعبير. وقد استغل القانون الجديد تصاعد خطر المد الإرهابي في المنطقة، لفرض مقاربة أمنية متشددة في التضييق على الحريات، بدعوى مكافحة الإرهاب، ووافق عليه مجلسا الأعيان والنواب، وينتظر مصادقة الملك عليه، ليصبح ساري المفعول. وهو يتضمن عبارات فضفاضة، قابلة أكثر من تأويل، مثل "الفتنة" و"سلامة المجتمع" و"الإخلال بالنظام العام" و"تعكير صلات المملكة بدولة أجنبية"، وكلها تدخل في خانة الأعمال الإرهابية. وحتى قبل دخول هذا القانون حيز التطبيق، اعتقل العام الماضي والعام الحالي أردنيون على خلفية أنشطة يمارسونها عبر الإنترنت، أو لأنهم علقوا شعار رابعة الذي أصبح يرمز إلى مناهضة الانقلاب العسكري في مصر. وبحسب القانون الجديد، مثل هذا التصرف قد يؤول بأنه عمل إرهابي، من شأنه "تعكير صلات المملكة بدولة أجنبية"!
وفي تونس، مهد ثورات "الربيع العربي"، تُشن حملة إعلامية تقودها لوبيات النظام القديم، التي تتحكم في ماكينات الإعلام، ضد النشطاء السياسيين المستقلين عن سلطة الحزب والدولة. وتستهدف شعبية هؤلاء الفاعلين ومصداقيتهم، من أجل تحييدهم وإضعاف تأثيرهم على الرأي العام. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، يتم نعت الفاعلين المستهدفين بـ"المتطرفين" لبث نوع من الخلط لدى عامة الناس بين كل أنواع التطرف.
النموذج الرابع للردة العربية الجديدة نسوقه من المغرب التي أعلنت فيها السلطة حملة رسمية ضد جمعيات من المجتمع المدني، بعد تصريحات لوزير الداخلية المغربي، وصف هذه الجمعيات بـ"الكيانات الدخيلة"، واتهمها بتلقي تمويل أجنبي لاتهام القوات الأمنية بـ"ارتكاب التعذيب ضد المواطنين" خدمة "لأجندة خارجية". وهو ما رأت فيه أكثر من 47 هيئة مدنية مغربية بداية "مخطط سلطوي يستهدف الحقوق والحريات الأساسية بالمغرب تحت ذريعة مواجهة التهديدات الإرهابية".
وتأتي هذه الهجمة من السلطة على هيئات المجتمع المدني، وطالت، أخيراً، حتى أنشطة منظمة العفو الدولية في المغرب، إثر تصعيد هذه الهيئات حملتها ضد ممارسة التعذيب في المغرب، ما ترتب عنه، حسب وزير الداخلية، "إضعافاً للقوات الأمنية، وضرباً لها، وأحدث تشككاً في عملها".
وأخيراً، منعت السلطات المغربية عدة أنشطة للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وهي أكبر منظمة مغربية حقوقية ذات مصداقية، كما منعت عقد ندوات عن حرية الرأي والتعبير، ورفضت الترخيص لمنظمة "الحرية الآن" التي تدافع عن حرية الصحافة، والشيء نفسه تكرر مع نقابة حديثة، انشق أعضاؤها الذين يطالبون بديمقراطية وشفافية واستقلالية العمل النقابي عن نقابة موالية للسلطة.
هذه نماذج لما يبشرنا به زمن الردة العربي الجديد، بعد أن انتصرت الأنظمة على الشعوب. فالأنظمة التي نجحت في احتواء ثورات شعوبها أو القضاء عليها، استفادت من أخطائها السابقة في "التقصير" في تكميم الأصوات ومحاسبة النيات ومراقبة الأفكار وقمع الاحتجاجات. وما هو آت أعظم!