لقرون عديدة، ابتُليت المدن بأزمات متتالية. لقد قتل الطاعون العظيم عام 1665 ما يقارب 70.000 من سكّان لندن، حتى إنّ الملك تشارلز الثاني وحاشيته، هربوا إلى هامبتون كورت، ونُقل البرلمان إلى أكسفورد، كذلك توقفت جميع الأعمال التجارية بين لندن ومدن الطاعون الأخرى، وأُغلِقَت الحدود مع اسكتلندا. وهرب الكثير من المواطنين من المدينة إلى الأرياف، بعدما اعتقدوا أنّ المدينة باتت المهدد الأول لحياتهم.
قبلها بسنوات، وتحديداً في عام 1641، هُرِّب ملك فرنسا لويس الرابع عشر من باريس إلى فرساي خوفاً من وباء الجدري، إذ كانت خيارات الهجرة من المدينة إلى الريف منتشرة جداً. حتى في العصر الحديث، كثيراً ما يخطّط العديد من أفراد المجتمع للهروب من المدينة، عندما تصبح الحياة محفوفة بالمخاطر.
في العصر الحديث، شهد كلّ من الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول وتفجيرات لندن في يوليو/تموز 2005، ارتفاعاً حاداً في شراء العقارات الريفية، والهروب من المدينة، بحسب ما أكّده روبرت سويتنج، رئيس المبيعات الوطنية للعقارات، لصحيفة "ذا إندبندنت" البريطانية، التي أعدّت تقريراً عن تغيّر نمط تفكير السكان بعد انتشار وباء كورونا.
ووفق التقرير، لقد كانت التحوّلات من المدينة إلى الريف مؤقتة إلى حد كبير، خاصة أنّ فرص العمل والثروة والتعليم التي توفّرها المناطق الحضرية تعني أنّ كل جيل من الشباب سيبقى مرتبطاً بالمدن لفترات طويلة، لكن هذا المفهوم يواجه العديد من العراقيل، خاصة بعد انتشار فيروس كورونا. إذ من المرجح أن يشهد العالم تغييراً واضحاً في أنماط العمل، والحياة.
الفيروس غيّر معالم الحياة
لقد نشأ فيروس كورونا في المدينة، وتحديداً في ووهان - الصين، المدينة التي يبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة، وتأثّرت المدينة كثيراً قبل انتقال الوباء إلى باقي المدن. وأظهرت الإحصاءات التابعة لمنظمة الصحة العالمية، تضرّر المدن بشدّة، خاصة تلك التي تعاني من الفقر، والتهميش، إذ لم تكن قادرة على معالجة آثار الفيروس على المجتمعات المحلية.
وأظهرت الدراسات أنّ عمليات الإغلاق سبّبت محاصرة السكّان إلزامياً في بيوت صغيرة، تفتقر إلى مقوّمات ديمومة الحياة. فعلى سبيل المثال، لا يملك الكثير من السكان فرصة استنشاق الهواء النظيف لأنهم لا يملكون أمام منازلهم حدائق صغيرة، أو مساحات خضراء بسيطة، كذلك إنّ كثافة الناس جعلت التباعد الاجتماعي أصعب، وغير قابل للتحقيق، ما أثّر في الصحة النفسية للسكّان، وبالتالي فإنّ خيار العيش في المدينة في ظلّ استمرار كورونا، بات شيئاً فشيئاً أمراً صعباً.
تجارب شخصية
بيتر دي جرافت جونسون (26 سنة)، هو أحد أولئك الذين يفكرون في مغادرة لندن بعد الإغلاق. يعمل جونسون في دور السينما بدوام جزئي، وكان قد انتقل لأول مرة إلى شرق لندن عام 2014. عانى بعد انتشار الفيروس، حيث مكث في البيت الصغير لأكثر من ثلاثة أشهر، عاش خلالها عزلة ذاتية أثّرت بصحته النفسية والجسدية. يقول جونسون لصحيفة "ذا إندبندنت" البريطانية: "إنّ ما جذبني إلى هذه المدينة، أن أصبح جزءاً من مجتمعات الفنون، والثقافة، ولكن على الرغم من الذكريات الرائعة للمدينة، إلا أنّني أفكر في العودة إلى مقاطعة "إيسيكس"، في جنوب شرق إنكلترا، والواقعة بين لندن وبحر الشمال". ويضيف: "أعتقد أنّ الكثير من الشباب يفكّرون في المغادرة، إذ أعطانا الفيروس دافعاً للمغادرة، لأنه سلّط الضوء على التفاوتات الشديدة التي كانت موجودة، والتي ظهرت أكثر مع تفشي الوباء، ومنها عنصرية الشرطة، وازدياد تكاليف المعيشة، والافتقار إلى السكن الآمن بأسعار معقولة".
بدورها، عاشت غريس بول (28 عاماً) في لندن لمدة 6 سنوات، وهي تعمل محرّرة كتب مستقلة. انتقلت إلى منزل والديها في مقاطعة "كنت" بعد انتهاء عقد إيجار منزلها. تقول إنها لا ترى نفسها تعود إلى العاصمة بعد الوباء. وتضيف: "لقد كبرت كشخص في المدينة، وسأكون دائماً ممتنة لذلك، ولكنني لم أتمكن من مواجهة تحديات فيروس كورونا. أصبحت غير قادرة على العيش في لندن بسبب العزلة الاجتماعية، التكاليف المادية، الأسعار المرتفعة، وغيرها الكثير من الأشياء التي تغيّرت، جعلتني أشعر برغبة في مغادرة المدينة".
وجدت لوسي موس (39 عاماً) من مانشستر وزوجها، أنّ الإغلاق جعلهما يعكسان ما يريدانه لعائلتهما. تقول: "لم نضطر حقاً إلى التفكير في الأمر قبل الإغلاق، فقد أبقتنا المدينة مشغولين، ولكن الآن لا يوجد شيء هنا، وبتنا ندرك إلى أي مدى نريد أن نكون أقرب إلى العائلة والأصدقاء، وبالتالي إلى مغادرة المدينة".
أرقام وإحصاءات
لا شك في أنّ النزوح إلى الضواحي ليس أمراً جديداً في عصر كوفيد-19، إذ تظهر أرقام مكتب الإحصاءات الوطنية أنّ 340,500 شخص غادروا لندن خلال 12 شهراً في عام 2018، كذلك نزح منها 336,000 شخص في العام السابق. ويستشهد أنتوني تشامبيون، أستاذ الجغرافيا السكانية، في جامعة نيوكاسل بنموذج "السلّم المتحرك الإقليمي"، الذي يوضح أنّ "من المرجح أن ينتقل الشباب من الخطوط الأمامية في المدينة إلى القرى الريفية، لأنّ التحديات في المدينة باتت أكبر من قدرتهم على المواجهة".
تشير البيانات بعد عمليات الإغلاق إلى أنّ عدد الباحثين عن عمل، الذين يرغبون في الخروج من العاصمة، ارتفع إلى أكثر من الضعف في الأسبوعين الماضيين، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2019. ووفق مكتب خدمات الاستشارات المهنية، Escape the City، من بين 1000 شخص، أراد 51 في المائة الخروج من العاصمة مقارنة بـ 20 في المائة العام الماضي.
وجد استطلاع YouGov، الذي أُجري حصراً مع "ذا إندبندنت"، أنّ العديد من الأشخاص في مجموعات عمرية مختلفة، ومراحل متفاوتة في الحياة يفكّرون في الانتقال إلى أماكن أبعد من العاصمة، خاصة بعد نجاحهم في العمل عن بعد، وبالتالي يرون أنْ لا داعي للبقاء في المدينة.
"لا شك في أنّ التكاليف المعيشية أو الإغلاق العام، تعدّ أسباباً وجيهة لحركة النزوح الداخلية، ولكن هناك أسباب أخرى للأمر، وفق جوليا نيكولز، البالغة من العمر 33 عاماً من كناري وارف، التي تقول "إنّ الوباء جعلها تغيّر طريقة تفكيرها، لقد وجدت أنّ سرعة انتشار المرض والإجراءات الصحية، وغياب المساعدات، جعلت من الصعب السير في حلم البقاء في العاصمة".
لا شك في أنّ النزوح من المدينة باتجاه الأرياف، بات أمراً واقعياً بعد أزمة كورونا، إذ فرض الفيروس أسلوباً جديداً للحياة من الصعب العدول عنه. لقد شهد العالم بشكل جماعي أوجه القصور في المدن في وقت الأزمات، ومع زيادة إمكانية الوصول إلى العمل عن بُعد، فُتح باب يوضح لنا أنّ المستقبل لا يجب أن يكون كما كنّا نعرفه في الماضي.