تشكل ساحة جامع الفنا في مدينة مراكش المغربية، إرثا ثقافيا وإنسانيا، فهي تعتبر، بتصنيف اليونيسكو، إحدى أهم الساحات التقليدية عالميا، التي ما تزال تحافظ على العروض الحية للفنون الشعبية والحكواتية في الهواء الطلق.
تقول المحكيات التاريخية إن الساحة كانت في الماضي مكانا للعقاب، فهنا كانت تُجرى في عهد الدول الوسيطية التي حكمت المغرب، عمليات الإعدام للمخالفين والمعارضين واللصوص، ولذلك سميت الساحة بـ"ساحة الفناء"، أي ساحة الإعدام.
لكنها مع الوقت تحولت من ساحة للموت إلى مكان يهب الفرح والحياة، ويخرج الناس من المدينة القديمة المسورة إلى هذا الفضاء كي يكسروا روتين يومياتهم.
وبقدر ما أغرم بها السياح الغربيون الباحثون عن الدهشة، بقدر ما شكلت مادة خصبة للكتّاب والأدباء والرسامين والسينمائيين من مختلف بلدان العالم.
هكذا جد كاتبا مثل الكاتب الألماني إلياس كانيتي، الذي زار المغرب مرارا، يجلس جنب الساحة وفي عمق حركتها، وهو يحتسي كأس الشاي بالنعناع، مندهشا من حركة البشر في المساءات، عندما تتحول الساحة إلى مكان ينغل بالأصوات والروائح والوجوه والتعابير والتهويمات.
اندمج كانيتي كليا في الفضاء المغربي، من خلال المحاولة الموفّقة التي قام بها في قبضه على أجواء أشهر ساحة في العالم التي لا تزال تقام بها الفرجة الشعبية، وهي ساحة "جامع الفناء".
ثمرة هذا التمثُّل كانت روايته الشهيرة "أصوات مراكش"، التي عبّر فيها عن هذا التداخل البشري في هذه الساحة الغريبة، التي يهجم عليها البشر من كل الأنحاء، قبل أن تبتلعهم في
لكن كاتبا آخر، هو خوان غويتيسولو، جعل من مراكش مدينة للإقامة، بعد أن بدأ البريق الدولي يخفت عن طنجة.
جاء غويتيسولو إلى مراكش، وأقام في المدينة القديمة قرب ساحتها الشهيرة، ومن هناك في جلساته الهادئة في مقهى فرنسا، كان يرقب الناس ويتعرف إلى المغاربة وعاداتهم، كما كان يزوره أصدقاؤه من الأوروبيين، للتمتع بهذا الفردوس الأرضي المخبوء.
يقيم غويتيسولو المعروف بنزعاته الإنسانية ستة أشهر في مراكش، والباقي يقضيه متنقلا في أنحاء العالم، وهو من أشد المدافعين عن الثقافة العربية، وعن حضورها كثقافة مؤثرة، سواء في إسبانيا أو العالم.
يكتب من هذه المصادر المشتركة العربية الإسبانية، أو لنقل الموريسكية، ما يمنح كتابته طابعا خاصا. ونجد ذلك على وجه التحديد في روايته "أسابيع الحديقة"، التي تطرح قضايا ميتافيزقية، كما هو شأن الكثير من أعمال هذا الكاتب. وتدور أحداث الرواية في مدن مثل إشبيلية ومليلية وطنجة والدارالبيضاء ومراكش، في مرحلة الحرب الأهلية الإسبانية. وهو نفسه لا ينجو من الرؤية الغرائبية التي يضفيها على الواقع المغربي، في تلك الفترة من أربعينيات القرن الماضي، من خلال حديثه عن الأضرحة والأولياء. بل إنه حتى في نصوصه المتأخرة، مثل "البستان"، يمضي عميقا في العمل على قضايا الحرية الفردية والمصائر المجهولة ومرايا الذات التي تبحث عن خلاص، خلاص لا يجده إنسان اليوم، في ظل الحروب وهيمنة الشمال على قيم وثقافات وخيرات الجنوب.
إقرأ أيضا:المهدي بن بركة: سجل اغتيال معلن