ماذا تعرف عن مدينة نيجني نوفغورود: العاصمة الثالثة لروسيا، كما يسميها الروس؟ لا شيء إطلاقاً! طبيعيٌّ ذلك: كانت ممنوعةً على الأجانب حتى سقوط الاتحاد السوفييتي.
فإذا كانت - كما يقول الروس- سانت بيترسبورغ رأسَ روسيا، وموسكو قلبَها، فنيجني نوفغورود محفظَتها المالية: ففيها أهمّ المصانع الاستراتيجية: طائرات، ذرّة، سفن، سيارات، أسلحة؛ اختُرعت هناك صواريخ الكاتيوشا كتصغير تحبيبيّ لـ كاترينا.
ثم هي مشحونة بالتاريخ: كانت من أهمِّ مدن شمال أوروبا في العصور الوسطى. فيها يتعانق نهرا الفولغا والأوكا. وفيها قصورُ كريملين؛ شاسعة محصّنة لم تسقط يوماً لغازِ. وفيها تراثٌ معماريٌّ متميّز، لا سيّما بيوتها الخشبية التقليدية التي يوشك البناء الحديث على محقِها. تصنّفها اليونيسكو ضمن قائمة المائة لأهمّ مدن تراث الإنسانية. تبعد حوالي 400 كيلومتر عن موسكو، و300 كيلومتر عن قازان عاصمة جمهورية تاترستان الروسية، هناك حيث كانت اللغة التتارية تكتب بحروف عربية حتّى 1924.
عرف عددٌ مهمٌّ من المدن، خلال القرن العشرين، شقلبات في الأسماء وإعادة تعميد بأخرى: استعادت ستالينغراد اسمها: فلغوغراد في 1961. وبعد تمزّق الاتحاد السوفييتي مباشرة، عاد الاسم الأصلي لنيجني نوفغورود، بعد أن سُمِّيَت في عصره: غوركي (باسم الأديب البولشوفي والسوفييتي الملتزم، مكسيم غوركي، الذي ولد فيها)، وكذلك استعادت لينينغراد اسمها القديم: سانت بيترسبورغ.
ليست هناك سوى ظاهرة عكسيّة مثيرة: مدينة كالينينغراد الروسية، حيث ولد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط وعاش. كانت ألمانية قبل طرد الروس لسكانها الألمان في نهاية الحرب العالمية الثانية. وما زالت تحافظ على اسم الرئيس السوفييتي "التافه" ميخائيل كالينين الذي أطلقهُ ستالين عليها، بدلاً من اسمها الألماني: كونيغسبيرغ. وثمّة إشكالية شهيرة في الرياضيات على اسمها: "جسور كونيغسبيرغ السبعة".
إلا أن صراع الأسماء في نيجني نوفغورود، كان بنكهة ساخرة مثيرة، وسبق سقوط الاتحاد السوفييتي بكثير. ففيها حُكم على أندريه ساخاروف، عالِمُ الذرّة الروسي الشهير (النوبلي في 1975)، بالإقامة الجبرية لموقفه الرافض للغزو السوفييتي لأفغانستان. ولأن اسم ساخاروف بالروسية يعني: حلو، واسم غوركي يعني: مرّ، فقد كان المعارضون للنظام السوفييتي يطلقون على مدينة غوركي اسم: ساخاروف.
اقرأ أيضاً: قبلة على خد البرمجية
أزور هذه المدينة كل بضع سنوات، منذ التسعينات، وأتذكّر حدثاً ممتعاً حصل معي: زرتُ متحف الفلك (بلانيتاريوم)، الأحدثَ والأكبرَ في روسيا. دخلتُ سفينةَ فضاء غاغارين القابعة فيه. أخرجتُ هاتفي لأعطيهِ لزميل، لتخليد هذا الحدث بصورةٍ شخصيةٍ يلتقطها لي داخل السفينة. في اللحظة نفسها وقع نظري على إيميل طازج وصلني من موقع مثير على الإنترنت، لأحد المشعوذين يبشِّر العالم بأنه "المهدي المنتظر"!
شعرتُ بدوار، ولم أستطع منعَ نفسي من كتابة منشور فيسبوكي، من داخل المتحف، بالصورة والإيميل، لِتفجير تأمّل القارئ في التباين الفاحش بين عقليتين؛ علمية وكهنوتية تتعايشان اليوم، هوسهما المشترك هذا الفضاء الشاسع الذي يحيط بنا من كل الجهات: السماء.
غير أن أوّل زياراتي للمدينة، في معمعان الفوضى أو "الشواش" (Chaos) الذي عرفتْهُ روسيا عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، هي الأغنى بالعبرات الجيوسياسية والتاريخية.
كان "شواشاً" تاريخياً: بلدٌ يلهثُ بالاتجاه المعاكس، نحو أحضان عدوِّه: الغرب. يريدُ تقليدَه في كل شيء ولا شيء، بإعجابٍ طائش. المافيا في كل مكان، تتقاسم الشوارع.
كان عليّ في نهاية إقامتي أخذ القطار الليلي الأخير من نيجني لموسكو، لمحاضرةٍ صباحية، ودعوةٍ مسائية لأوبرا البولشوي الميثولوجي الشهير. حشرتني إدارة الجامعة في قطارٍ ليليٍّ مهيب، ممتلئ بعسكر وسياسيين رفيعي المستوى، ذاهبون جميعاً لحضور دورة في البرلمان الروسي "الدوما"، تمسّ مستقبل دائرتهم الفيدرالية: الفولغا.
كنت في عربة لنفرين، مثل العربات المجاورة، يحيطها اهتمام خاص. ويرافقني فيها أهم مسؤولٍ مدنيّ في المدينة، وفي العربات المجاورة كبار العسكر. لم يتوقف جاري الروسي طوال الرحلة عن الإعراب عن إعجابه بالغرب بشكلٍ طفولي ساذج، وعن تكرار التعبير عن سعادتهِ لأن يوم ميلاد زوجته يصادف يوم اكتشاف كولومبوس لأميركا.
قبل النوم، اجتاحتني رغبةٌ تلصصيّة عنيفة: رحت أتنقّل قرب أبواب العربات المجاورة حيث يقطن عسكر متقدّمون في السن، خالون من البشاشة والطلعة الأنيقة، وصلوا القطار ببدلات عسكرية مهيبة مفزعة، أمّا هنا: فكانوا جميعاً قد خلعوا بدلاتهم، يتحرّكون ببيجامات نومٍ يستعرضونها كعارضات أزياء. منظرٌ مدهشٌ لا أنساه: لكل واحد بيجاما حريرية، هي عبارة عن فانيلة وشورتٍ قصير بألوان فاقعة. على صدر العسكري الأوّل صورة دعائية ضخمة لكوكا كولا، على صدر الثاني: ماكدونالد، وصدر الثالث: بيبسي كولا!
مسرحُ عرائسٍ حقيقي بملابس طرطورية، يُشبِهُ مسرح عرائس نيجني نوفغورود الشهير، أبطالهُ أحفاد من هزموا هتلر!
فاستحضرت هذه العبارة التي أذهلتني، لطالب صيني من طلابي: "عندما طلب الأميركان منّا في تسعينات القرن الماضي التغيير الجذري لِنظامنا الاقتصادي والسياسي معاً، قلنا لهم: لا، لدينا فلسفة عمرها 7000 سنة، ونعرف بفضلها طريقنا. فيها الاقتصاد: يونج، والسياسة: يين. وتغييرهما معاً يؤدي إلى السقوط والانهيار، كما برهنت الأحداث بعد ذلك في الاتحاد السوفييتي الذي حاول تغييرهما معاً. يمكن أن يُطوِّع أحدُهما الآخر، لا غير. لذلك غيَّرنا الاقتصاد أولاً فقط ليصير أكثر رأسماليةً من الاقتصاد الغربي، وحافظنا على السياسة وقواعد حياتنا اليومية، كما هي".
لكلّ شيء وجهان في الفلسفة الصينية، يرمز لهما بـ"اليين واليونج": الظلّ والضوء، الذكر والأنثى، وهكذا. يسكن اليين في اليونج، والعكس صحيح. كلاهما وجه للكينونة المركّبة نفسها. ويحاول كل منهما الاستحواذ على الآخر والهيمنة عليه.
وتعارض هذه الفلسفة بشدّة السعي لطمس أحد الوجهين وإنهاءه تماماً. توصي بدل ذلك بتطويعه وتكييفه لخدمة الآخر.
النتيجة اليوم، بعد ربع قرن من انهيار الاتحاد السوفييتي: الصين تتقدّم بخطوات عملاقة لتكون القوّة الأولى، وروسيا تشبه "فتوّة" عجوز، يشعر بالإهانة لتنحّيه القاهر من ناصية الأمم، يحنّ إلى التحرّشِ ودعم الأنظمة المجرمة وعصر الحرب الباردة، لا يجد طريقاً يبشّر بغد واعد بمستوى أحلامه وتاريخه ومكانته الطبيعية والثقافية الجليلة.
فإذا كانت - كما يقول الروس- سانت بيترسبورغ رأسَ روسيا، وموسكو قلبَها، فنيجني نوفغورود محفظَتها المالية: ففيها أهمّ المصانع الاستراتيجية: طائرات، ذرّة، سفن، سيارات، أسلحة؛ اختُرعت هناك صواريخ الكاتيوشا كتصغير تحبيبيّ لـ كاترينا.
ثم هي مشحونة بالتاريخ: كانت من أهمِّ مدن شمال أوروبا في العصور الوسطى. فيها يتعانق نهرا الفولغا والأوكا. وفيها قصورُ كريملين؛ شاسعة محصّنة لم تسقط يوماً لغازِ. وفيها تراثٌ معماريٌّ متميّز، لا سيّما بيوتها الخشبية التقليدية التي يوشك البناء الحديث على محقِها. تصنّفها اليونيسكو ضمن قائمة المائة لأهمّ مدن تراث الإنسانية. تبعد حوالي 400 كيلومتر عن موسكو، و300 كيلومتر عن قازان عاصمة جمهورية تاترستان الروسية، هناك حيث كانت اللغة التتارية تكتب بحروف عربية حتّى 1924.
عرف عددٌ مهمٌّ من المدن، خلال القرن العشرين، شقلبات في الأسماء وإعادة تعميد بأخرى: استعادت ستالينغراد اسمها: فلغوغراد في 1961. وبعد تمزّق الاتحاد السوفييتي مباشرة، عاد الاسم الأصلي لنيجني نوفغورود، بعد أن سُمِّيَت في عصره: غوركي (باسم الأديب البولشوفي والسوفييتي الملتزم، مكسيم غوركي، الذي ولد فيها)، وكذلك استعادت لينينغراد اسمها القديم: سانت بيترسبورغ.
ليست هناك سوى ظاهرة عكسيّة مثيرة: مدينة كالينينغراد الروسية، حيث ولد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط وعاش. كانت ألمانية قبل طرد الروس لسكانها الألمان في نهاية الحرب العالمية الثانية. وما زالت تحافظ على اسم الرئيس السوفييتي "التافه" ميخائيل كالينين الذي أطلقهُ ستالين عليها، بدلاً من اسمها الألماني: كونيغسبيرغ. وثمّة إشكالية شهيرة في الرياضيات على اسمها: "جسور كونيغسبيرغ السبعة".
إلا أن صراع الأسماء في نيجني نوفغورود، كان بنكهة ساخرة مثيرة، وسبق سقوط الاتحاد السوفييتي بكثير. ففيها حُكم على أندريه ساخاروف، عالِمُ الذرّة الروسي الشهير (النوبلي في 1975)، بالإقامة الجبرية لموقفه الرافض للغزو السوفييتي لأفغانستان. ولأن اسم ساخاروف بالروسية يعني: حلو، واسم غوركي يعني: مرّ، فقد كان المعارضون للنظام السوفييتي يطلقون على مدينة غوركي اسم: ساخاروف.
اقرأ أيضاً: قبلة على خد البرمجية
أزور هذه المدينة كل بضع سنوات، منذ التسعينات، وأتذكّر حدثاً ممتعاً حصل معي: زرتُ متحف الفلك (بلانيتاريوم)، الأحدثَ والأكبرَ في روسيا. دخلتُ سفينةَ فضاء غاغارين القابعة فيه. أخرجتُ هاتفي لأعطيهِ لزميل، لتخليد هذا الحدث بصورةٍ شخصيةٍ يلتقطها لي داخل السفينة. في اللحظة نفسها وقع نظري على إيميل طازج وصلني من موقع مثير على الإنترنت، لأحد المشعوذين يبشِّر العالم بأنه "المهدي المنتظر"!
شعرتُ بدوار، ولم أستطع منعَ نفسي من كتابة منشور فيسبوكي، من داخل المتحف، بالصورة والإيميل، لِتفجير تأمّل القارئ في التباين الفاحش بين عقليتين؛ علمية وكهنوتية تتعايشان اليوم، هوسهما المشترك هذا الفضاء الشاسع الذي يحيط بنا من كل الجهات: السماء.
غير أن أوّل زياراتي للمدينة، في معمعان الفوضى أو "الشواش" (Chaos) الذي عرفتْهُ روسيا عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، هي الأغنى بالعبرات الجيوسياسية والتاريخية.
كان "شواشاً" تاريخياً: بلدٌ يلهثُ بالاتجاه المعاكس، نحو أحضان عدوِّه: الغرب. يريدُ تقليدَه في كل شيء ولا شيء، بإعجابٍ طائش. المافيا في كل مكان، تتقاسم الشوارع.
كان عليّ في نهاية إقامتي أخذ القطار الليلي الأخير من نيجني لموسكو، لمحاضرةٍ صباحية، ودعوةٍ مسائية لأوبرا البولشوي الميثولوجي الشهير. حشرتني إدارة الجامعة في قطارٍ ليليٍّ مهيب، ممتلئ بعسكر وسياسيين رفيعي المستوى، ذاهبون جميعاً لحضور دورة في البرلمان الروسي "الدوما"، تمسّ مستقبل دائرتهم الفيدرالية: الفولغا.
كنت في عربة لنفرين، مثل العربات المجاورة، يحيطها اهتمام خاص. ويرافقني فيها أهم مسؤولٍ مدنيّ في المدينة، وفي العربات المجاورة كبار العسكر. لم يتوقف جاري الروسي طوال الرحلة عن الإعراب عن إعجابه بالغرب بشكلٍ طفولي ساذج، وعن تكرار التعبير عن سعادتهِ لأن يوم ميلاد زوجته يصادف يوم اكتشاف كولومبوس لأميركا.
قبل النوم، اجتاحتني رغبةٌ تلصصيّة عنيفة: رحت أتنقّل قرب أبواب العربات المجاورة حيث يقطن عسكر متقدّمون في السن، خالون من البشاشة والطلعة الأنيقة، وصلوا القطار ببدلات عسكرية مهيبة مفزعة، أمّا هنا: فكانوا جميعاً قد خلعوا بدلاتهم، يتحرّكون ببيجامات نومٍ يستعرضونها كعارضات أزياء. منظرٌ مدهشٌ لا أنساه: لكل واحد بيجاما حريرية، هي عبارة عن فانيلة وشورتٍ قصير بألوان فاقعة. على صدر العسكري الأوّل صورة دعائية ضخمة لكوكا كولا، على صدر الثاني: ماكدونالد، وصدر الثالث: بيبسي كولا!
مسرحُ عرائسٍ حقيقي بملابس طرطورية، يُشبِهُ مسرح عرائس نيجني نوفغورود الشهير، أبطالهُ أحفاد من هزموا هتلر!
فاستحضرت هذه العبارة التي أذهلتني، لطالب صيني من طلابي: "عندما طلب الأميركان منّا في تسعينات القرن الماضي التغيير الجذري لِنظامنا الاقتصادي والسياسي معاً، قلنا لهم: لا، لدينا فلسفة عمرها 7000 سنة، ونعرف بفضلها طريقنا. فيها الاقتصاد: يونج، والسياسة: يين. وتغييرهما معاً يؤدي إلى السقوط والانهيار، كما برهنت الأحداث بعد ذلك في الاتحاد السوفييتي الذي حاول تغييرهما معاً. يمكن أن يُطوِّع أحدُهما الآخر، لا غير. لذلك غيَّرنا الاقتصاد أولاً فقط ليصير أكثر رأسماليةً من الاقتصاد الغربي، وحافظنا على السياسة وقواعد حياتنا اليومية، كما هي".
لكلّ شيء وجهان في الفلسفة الصينية، يرمز لهما بـ"اليين واليونج": الظلّ والضوء، الذكر والأنثى، وهكذا. يسكن اليين في اليونج، والعكس صحيح. كلاهما وجه للكينونة المركّبة نفسها. ويحاول كل منهما الاستحواذ على الآخر والهيمنة عليه.
وتعارض هذه الفلسفة بشدّة السعي لطمس أحد الوجهين وإنهاءه تماماً. توصي بدل ذلك بتطويعه وتكييفه لخدمة الآخر.
النتيجة اليوم، بعد ربع قرن من انهيار الاتحاد السوفييتي: الصين تتقدّم بخطوات عملاقة لتكون القوّة الأولى، وروسيا تشبه "فتوّة" عجوز، يشعر بالإهانة لتنحّيه القاهر من ناصية الأمم، يحنّ إلى التحرّشِ ودعم الأنظمة المجرمة وعصر الحرب الباردة، لا يجد طريقاً يبشّر بغد واعد بمستوى أحلامه وتاريخه ومكانته الطبيعية والثقافية الجليلة.