يتفق معظم أهالي سامراء (129 كم شمال بغداد) أن جميع الأشخاص العشرة الذين طالتهم موجة الاغتيالات الأخيرة بالأسلحة الكاتمة، لم يكونوا سوى موظفين بسيطين، ولم يسجل لهم يوماً أي نشاط يذكر، مما يرجّح نظرية أن تكون حملة الإبادة الجديدة هي الصفحة الثانية من محاولات تهجير سكان المدينة الأصليين، بعد محدودية النتائج التي حققتها المرحلة الأولى والمتمثّلة بمحاولات شراء أكبر كمية من الأراضي والعقارات في المدينة ذات الغالبية السنية، والتي يفتخر وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري بأنه أول من أسس لأكبر وجود شيعي فيها بعد الاحتلال الأميركي للعراق 2003.
الضابط السابق في شرطة مدينة سامراء، والذي يفضل مناداته بلقب "الدراجي"، وهو اسم عشيرته، اتخذ قراراً لا رجعة فيه بترك الوظيفة الأمنية، بعد أن عجز عن تقديم شيء لأبناء مدينته التي ولد فيها، مبيناً أن السلطات الأمنية تريد لجهاز الشرطة أن يكون شاهد زور على جرائم كبيرة تحدث ضمن مخطط واضح يتم تنفيذه بشكل يومي ويستهدف تصفية أكبر عدد ممكن من سكان سامراء.
الدراجي تحدث إلى "العربي الجديد" عن التركيبة الأمنية للمدينة، والمؤلفة من عناصر الجيش العراقي والفرقة الخامسة من الشرطة الاتحادية وفصائل كثيرة تتبع لقوات الحشد الشيعي، فضلاً عن عدة مئات من المقاتلين ينتمون إلى قوات الصحوة العشائرية وتشكيل واسع من الشرطة المحلية، لافتاً إلى أن الفصيلين الأخيرين مؤلفان من أبناء سامراء، ولا يوكل إليهما تنفيذ أي مهمة أمنية، ويراد من الصحوة أن تكون خط المواجهة الأول في حال اقتراب "داعش" من المدينة، بينما يقتصر دور الشرطة على إخلاء جثث الاغتيالات وتنظيم استمارات الوفاة لها.
ضابط الشرطة المنسحب من وظيفته يؤكّد بأن السيطرة الحقيقية والنفوذ في المدينة هو لقوات الحشد الشيعي وحدها، والمؤلفة بناءً على فتوى للمرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني وتتضمن مقاتلين يتبعون لمقتدى الصدر وفصيل العصائب بزعامة قيس الخزعلي ومجموعة تتبع لمنظمة بدر بقيادة هادي العامري والأقرب من غيرها إلى إيران ومجموعة أخرى من الفصائل الأقل شهرة، مبيناً أن هذه القوات لها سلطة تحريك جميع القوات الأمنية الأخرى في مدينة سامراء.
ويوضح الدراجي أن "قوات الحشد" تستقل سيارات مدنية وعسكرية ذات زجاج معتم وجميعها بلا لوحات تسجيل ولها صلاحيات اعتقال أي شخص من البيت أو الشارع، ولا تسري عليها قوانين حظر التجول التي تعلن بين حين وآخر على خلفية عمليات الاغتيال المتكررة وباستخدام الأسلحة الكاتمة للصوت، مضيفاً أن "حجم الصلاحيات الممنوحة لهم جعلت جميع ضباط الجيش والشرطة يخشون الاحتكاك بهم ويفضلون تنفيذ أوامرهم".
الضابط المعتزل يسخر من إعلان قيادة عمليات المدينة القبض على خلية اغتيالات تتبع لداعش في سامراء، ويؤكد أنها قصة ربما تنطلي على الناس في المدن الأخرى وليس على أهالي سامراء الذين يعرفون تماماً بأن مدينتهم تخلو من عناصر "داعش"، والذين لو وجدوا وأتيحت لهم مثل هذه الفرصة فإنهم يفضلون اغتنامها لتصفية خصومهم التقليديين في قوات الصحوة والجيش، وليس اغتيال صاحب أسواق تجارية أو سائق سيارة أجرة أو موظفاً بسيطاً في دائرة كهرباء سامراء، وهي عيّنات من وظائف الأشخاص الذين تم اغتيالهم أخيراً.
الاستيلاء على الوقف السني
تعد مديرية الوقف السني في سامراء محطة مهمة لكل من يريد تتبع خيوط القصة الجارية في المدينة، ولكن مسؤولاً في إعلام الدائرة ينصحنا بالاتصال بموظف تمت ملاحقته أمنياً قبل سنوات وانتقل إلى محافظة كركوك على خلفية نشاطه في جمع وتوثيق أدلة الاستيلاء الممنهج على الأملاك والأوقاف السنية في سامراء، والتي جعلت من علاء زعين العباسي هدفاً محتملاً لرصاصة تنطلق من سلاح كاتم للصوت أو يقبع لسنوات طويلة في سجن، وربما يموت هناك نتيجة "لمضاعفات صحية"، وهي العبارة التي تحملها أغلب وثائق وفاة جميع ضحايا السجون العراقية.
العباسي يشرح لـ "العربي الجديد": "خطة الاستيلاء على الأملاك والأوقاف التي بدأها رئيس الوزراء السابق ووزير الخارجية الحالي إبراهيم الجعفري، حين انتزع ومن دون أي مقدمات ملكية مرقد الإمامين علي الهادي والحسن العسكري من الوقف السني وألحقة بالوقف الشيعي، وتلا ذلك الاستيلاء على جامع سامراء الكبير والمدرسة الدينية ومقرّ هيئة علماء المسلمين وعشرات العقارات الصغيرة التي تم تسجيلها كأوقاف شيعية من دون وجه حق".
يبيّن العباسي أن الاستيلاء شمل واحداً من أقدم المساجد في المدينة، وهو مسجد حسن باشا، في حين تم إغلاق مناطق ضخمة في المدينة، ومنها شارع الشواف وباب القبلة وباب الصحن وجميع الطرق المؤدية إليها ومرآب النقل القديم في سامراء والجسر القديم، وكلها أصبحت متاحة لتجوال الزوار الشيعة فقط ولا يسمح لأهالي المدينة بالاقتراب منها، لافتاً إلى أن جميع تلك المناطق تمّت إحاطتها بجدار خرساني يبلغ ارتفاعة خمسة أمتار، وتنتشر أبراج الحراسة والأسلاك الشائكة عليه.
الموظف الهارب من الاعتقال أو الموت يكشف عن محاولات مستمرة يقوم بها الوقف الشيعي لاستملاك أكبر مساحة من أراضي سامراء وبشتى الطرق، ومنها استقدام قوة عسكرية خاصة في سنة 2012، قامت بتطويق دائرة التسجيل العقاري، وطردت جميع الموظفين وصادرت الأوراق الثبوتية للأراضي المحيطة بمرقد الإمامين، ونقلتها إلى دائرة الوقف الشيعي في بغداد، مشيراً إلى أن العملية كانت ترمي إلى تسجيل 12 من تلك الأراضي كأوقاف شيعية، وأن وزارة العدل ساهمت في هذه العملية.
ويشير العباسي إلى أن عمليات الاستيلاء بالقوة كانت ترافقها دائماً عمليات شراء وبأسعار خرافية لأراضي مدينة سامراء، وأن السعر يرتفع مع اقتراب الأراضي من موقع المرقد، حتى وصل سعر المتر الواحد إلى ثلاثة ملايين دينار عراقي "يعادل 2300 دولار تقريباً"، وهي عملية غريبة ومتناقضة مع مدينة غير مستقرة أمنياً وتشهد عمليات اغتيال بشكل يومي، مختتماً حديثه بأن "التفسير الوحيد لها هو أن اليد التي تغتال بالكواتم وتزرع الرعب في المدينة هي ذاتها التي تشتري أراضيها وعقاراتها".
المال والدم يهددان عشائر صلاح الدين
من جهته يعترف عضو بارز في مجلس عشائر صلاح الدين بأن المخطط الذي يتم تطبيقه في سامراء هو الأخطر من نوعه، بالنسبة للمحافظات والمناطق السنية في العراق، إذ تختلط داخله المغريات المالية مع التهديد بالتصفية الجسدية، وتشرف عليه جهات رسمية تحمل قناعات بأنها تقدم خدمات دينية إلى أبناء طائفتها، مستغلة حالة التفرّد السياسي والأمني التي تسود العراق بعد عام 2003.
الشيخ وسام ناصر البو نيسان يعرض خريطة حديثة قام بتكليف مختصّ برسمها وتظهر بروز مدينة جديدة داخل سامراء حول مرقد الإمامين المستولى عليه والمحاط بالجدار الخرساني، مشيراً إلى أن شركات إنشاءات خاصة تقوم وبحماية مليشيا الحشد الشيعي بتوسيع المدينة الجديدة، بتحريك أجزاء من الجدار الخرساني بضعة أمتار، بمعنى الزحف نحو بيوت السكان والأراضي الخالية القريبة.
البو نيسان شرح لـ "العربي الجديد": "أن شركة البناء وجميع التجهيزات والقوات العسكرية الخاصة، وحتى عوائل كاملة تم استقدامهم بعد وقت قصير جداً من تفجير مرقد الإمامين في شباط/فبراير 2006، إذ تمت المسارعة إلى إنشاء المدينة المغلقة التي يسمح لقوافل الزوار الشيعة فقط بدخولها، وتدار بواسطة رجال دين تم إرسالهم بشكل خاص من مدينة النجف".
الشيخ العشائري يجزم بأن سامراء التي يتم تنفيذها الآن هي مدينة أخرى غير التي عرفها الناس طيلة التاريخ الإسلامي والعراقي، فمعالم المدينة ومنها المئذنة الملوية الشهيرة والمبنية سنة 237 ترتدي قماشاً أسود وتعلوها راية شيعية خضراء تعلن تحريرها من سيطرة "النواصب"، والمرقد الذي كان أهالي سامراء يخدمون زائريه طيلة السنوات الماضية أصبحوا ممنوعين من دخوله أو حتى رؤيته من بعيد، وأفواج السياح الأجانب والعرب الذين كانوا يزورون الآثار سابقاً تم استبادلهم بالزوار الإيرانيين الذين تتم معاملتهم وكأنهم أهل المدينة وساكنوها الأصليون.
ويشير البونيسان إلى أن الطائفية المستشرية لدى الجيش جعلهم يضيّقون سبل العيش على الأهالي إلى أقصى الحدود، ومنها منع السلع الأساسية من الدخول إلى المدينة وقيامهم بإفراغ شحنات الخضروات والفواكه الداخلة إلى سوق المدينة وبعثرتها في الأرض بحجة التفتيش، فضلاً عن ازدراء الأهالي، في حين لا يتم تفتيش أي زائر إيراني أو سؤاله عن أمتعته، والتي لا تخلو أبداً من جرعات الحشيش أو الحبات المخدرة التي يجلبونها لغرض التجارة.
ويلفت الزعيم العشائري إلى أن المخطط الحالي كان يستوجب تغييب أبرز رموز المدينة، والذين يستطيعون تحريك الناس وإثارة الرأي العام، فكانت الملاحقات القضائية من نصيب المشايخ وعلماء الدين، وفي مقدمتهم الشيخ أحمد حسن الطه وأحمد سعيد ومحمد طه حمدون، في حين تكفلت الأسلحة الكاتمة بإسكات الشيخ حمدان السامرائي الذي فضّلت عائلته إقامة مجلس العزاء على روحه في إقليم كردستان، تجنباً لفقدان المزيد من أفراد العائلة في حالة إقامته في سامراء.
ويختم البونيسان حديثه بالإشارة إلى أن سامراء كانت على الدوام ترفد العراق بالكفاءات البشرية، إذ أنجبت آلاف المختصين في جميع المجالات سواء الطبية أو الهندسية أو العسكرية أو السياسية أو الدبلوماسية، وتجاوز الأمر حتى أصبحت سلة غذائية توفر المحاصيل الزراعية المتميزة والثروة السمكية التي كتبت عنها الصحافة الفرنسية بعد دعوة غداء أقامها السفير العراقي في باريس بمناسبة العيد الوطني في مطلع الثمانينيات، مذكراً أن واقعها اليوم هو النقيض تماماً من اسمها الأصلي "سرّ من رأى".