المؤشرات مقلقة لدول الشمال الأوروبي، فبيانات وزارة الدفاع الدنماركية، حول "تصدي الطائرات الحربية 37 مرة لاختراق المجال الدنماركي"، تُقرأ بقلق من قبل مراقبين ومختصين، إذ "مقارنة بعام 2016 ازدادت الخروقات بنحو 50 في المائة". بل ذهبت كوبنهاغن للقول: "عدنا إلى تحركات روسيا نفسها في عامي 2014 و2015، حيث فاقت الطلعات 40 و58 مرة عن كل سنة". وعلى الرغم من صغر مساحة دول البلطيق والدنمارك، إلا أن المتابعين لما يجري يرونه "خطيراً". فدول الشمال تحذر بشكل مستمر من تزايد التحركات العسكرية الروسية وتقرأه كاستفزاز وتهديد.
السويد أيضاً تعيش حالة من القلق لتزايد التحركات، وطالبت وزارة دفاعها المواطنين في مناطق مطلة على البلطيق بالتزوّد بالأغذية والمواد الضرورية للبقاء لمدة أسبوع في الملاجئ. هذا إلى جانب نشر صواريخ مضادة للطائرات محمولة على الكتف، وقد أجرت تدريباً علنياً عليها في منطقة غوتلاند.
تصعيد التسلح
منذ الأسبوع الأول لعام 2018، تستقبل دول البلطيق مزيداً من جنود حلف الأطلسي، ضمن خطط الحلف لنشر أربعة آلاف جندي وعتاد عسكري، بحجة "التصدي لأي محاولة روسية لزعزعة أمن هذه الدول". ويبدو، من بيانات ومعطيات رسمية، أن دول الحلف الأطلسي لم تعد تتحدث فحسب. ويكفي النظر إلى معطى رسمي دنماركي لاكتشاف القلق من "التهديد الروسي"، الأكبر من نوعه منذ انتهاء الحرب الباردة. فلفترة طويلة، ممتدة منذ 2014، بقي جنرالات الجيش يطالبون بتسليح آخر، وعلى اللائحة صواريخ "توماهوك" الهجومية، متذرعين بنشر الروس صواريخ "إسكندر" التي تضعهم في مرمى الجيش الروسي من كالينينغراد.
ظل الجدل قائماً بين مختلف الأحزاب الدنماركية حتى مُررت موازنة تسمح بتسلح كبير، شملت إلى جانب تلك الصواريخ الهجومية شراء طائرات "اف 35" بهدف "تحييد كالينينغراد" بحسب التبرير العسكري، هذا إلى جانب طائرات "سيهوك" وفرقاطتين "لمواجهة أي هجمات من الغواصات الروسية"، فيما اليسار لا يزال يحذر من "عصر سباق تسلح خطير".
ويرى خبراء عسكريون في الأطلسي في نشر صواريخ "إسكندر" في كالينينغراد "محاولة لردع حلف الأطلسي عن تعزيز وجوده في إستونيا ودول البلطيق"، لكن ذلك التعزيز لم يتوقف واستمرّ إرسال الجنود مطلع العام الحالي، ما اعتبره الخبراء "سيحيد كالينينغراد بشكل كامل".
الروس من جهتهم، بحسب مراقبين عسكريين في الشمال الأوروبي، بنوا في كالينينغراد ترسانة عسكرية مقلقة لدول الأطلسي، وهؤلاء يرون أن نشر الصواريخ التكتيكية النووية، والادعاء أخيراً بإضافة صواريخ "اس 400" للدفاع الجوي، و"سيزلر" البحرية، و"سوخوي 24"، سيؤدي إلى تهديد كل منطقة البلطيق وسيدفع حلف الأطلسي إلى مزيد من الطلعات فوقه.
سجال الموازنات
لم يدخل شهر فبراير/ شباط الحالي من دون إقرار كوبنهاغن زيادة في موازنتها العسكرية، لتصل إلى 1,3 في المائة من الناتج المحلي المقدر بـ360 مليار دولار، هذا بالإضافة إلى رفع عديد القوات المسلحة وأعداد المجندين، والقوات الخاصة بشكل محدّد. هذه الزيادة الكبرى منذ انتهاء الحرب الباردة يراها مختصون في الشأن الدفاعي والأمني "مؤشراً إلى اتجاه عام لدى دول حلف الأطلسي"، مرتبط في أغلبه بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، والتهديدات المتزايدة لدول البلطيق واسكندنافيا.
المتخوّفون من خلق سباق تسلح مع روسيا، يتهمون السياسيين بأنهم يستجيبون لطلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في انتقاده لإسهامات الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي، واعتباره "الحلف الدفاعي متقادماً"، مع تهديد ضمني بأن الولايات المتحدة لن تقوم بالضرورة "بالدفاع عمن لا يدفع الفاتورة". والمقصود هنا رفع نسبة التسلّح باثنين في المائة من الناتج المحلي للدول الأعضاء.
الطرف المعارض لسباق التسلّح يُحمّل ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين مسؤولية وضع أوروبا في حالة استنفار وإهدار موازنات وتسلح لا طائل منه، بحسب ما يذكر مصدر في لجنة الدفاع البرلمانية الدنماركية لـ"العربي الجديد". ووفقاً لهذا المصدر، فإن التحوّل الذي جرى في أوروبا تمت ملاحظته عقب قمة حلف الأطلسي في مايو/ أيار 2017 في وارسو، بربط أميركي للبند الخامس، باعتبار أي استهداف لدولة عضو استهدافاً للجميع، بتخصيص وعمل تلك الدول على الـ2 في المائة من الموازنة، "ما جعلنا الآن بحالة عسكرة غير سارة".
أما المؤيّدون للعسكرة، فيشيرون إلى تخوفات السويد وفنلندا والبلطيق في السنوات الأخيرة. ويرى المؤيّدون لزيادة موازنات الدفاع أن "محاولة ترامب اعتبار الزيادات شرفاً له، لا علاقة له بواقع أوروبا". ويشيرون إلى أن التطوّرات بدأت منذ 2015، إثر الخطوة الروسية عام 2014 في أوكرانيا، وحتى الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما تحدث عن أنه "حان الوقت لزيادة الإنفاق الدفاعي في تلك الدول".
واقع الحال يقول إن 23 دولة من الدول الأعضاء الـ28 لم تصل بعد لما هو مطلوب من تخصيصات عسكرية. رسمياً يعترف الحلف الأطلسي بأن زيادة الإسهام الفردي الدفاعي لكل دولة أمر قرره الحلف قبل ترشح ترامب للرئاسة. ففي قمته في ويلز عام 2014، ذهب الحلف إلى إقرار "تخصيص 2 في المائة من الناتج المحلي للدفاع حتى عام 2024". ما يُفهم من نسبة الاثنين في المائة، التي تحوّلت إلى شعار لترامب، أنها ليست نسبة تُدفع لواشنطن أو لمقر الحلف، بل تُخصص لزيادة تسلح الجيوش في كل دولة، لتصبح المساهمة متقاربة.
وفي مقابل هذا الجدل حول النسب المئوية، يرى معارضون لسباق التسلح أن "القضية تتعلق بطلبيات أسلحة وتطوير أخرى، هذا عدا عن التجييش المستمر منذ 4 سنوات، ما يرهق المجتمعات التي تحتاج لرفع الموازنات في قضايا ذات أولوية أخرى، كالصحة والتعليم والتساوي في الثروة.
نسب التسلح الآن
خمس دول فقط من دول حلف الأطلسي تتجاوز في ميزانيتها للدفاع نسبة الاثنين في المائة من الناتج المحلي، وتأتي الولايات المتحدة في المقدمة بـ3,6 في المائة، تليها اليونان وإستونيا وبريطانيا وبولندا بنسب تتجاوز 2 في المائة، فيما يشعر الألمان والفرنسيون بأنهم تحت ضغط تخصيص مزيد من الأموال الدفاعية.
في موازنة 2017 صرفت برلين 1,13 في المائة لمصلحة الحلف، ما يعني انخفاضاً عن 1,22 في المائة لعام 2016. ولا يبدو أن واقع السياسة الداخلية، ومفاوضات تشكيل حكومة جديدة بزعامة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، سيسهل المهمة، التي يعارضها "الاشتراكي الديمقراطي" تماماً. فخطة ألمانيا حتى 2024 تقضي بأن ترفع ميزانيتها الدفاعية من 37 مليار يورو اليوم إلى نحو 72 ملياراً. لكن خلافات واضحة بين الحزبين "الاشتراكي" و"الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، حول أولوية تخصيص النسب المئوية، تدفع باتجاه وقف بدء الزيادة حتى 2021، وفقاً لما ذهبت إليه صحف ألمانية أخيراً.
ولا يبدو الحال أفضل لباريس. فعلى الرغم من أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلن في 20 يناير/ كانون الثاني الماضي خلال لقائه بجنود فرنسيين، عن المزيد من الأموال للموازنة العسكرية هذا العام، لتصل إلى نحو 42 مليار يورو، إلا أن الوصول إلى 2 في المائة أمامه سنوات حتى 2025، وفقاً لما يخطط له الفرنسيون. لكن ذلك لا يعني أن فرنسا وألمانيا ستتراخيان في التسلح والمساهمة في الاستراتيجية التي ترى في سياسة موسكو سبباً أساسياً في زيادة التوتر. وفي الواقع تروّج فرنسا لخيار "تقوية التعاون الاستراتيجي الأوروبي" في المجال العسكري، لكن بحذر، حتى لا يبدو الأمر منافساً لحلف شمال الأطلسي.
أما لندن فليست مسترخية، وفق ما يقول جنرالاتها على الأقل. هؤلاء يخشون مما يسمونه "بناء روسيا لترسانتها على أبواب أوروبا"، وهو قول يتفق معه رئيس أركان الجيوش البريطانية الجنرال نيك كارتر. فقد اعتبر كارتر، في 22 يناير/ كانون الثاني الماضي، روسيا تهديداً مباشراً لبلده، وأن قدرة لندن الدفاعية ستتآكل إن لم تخصص المزيد من الإنفاق العسكري. أمر بالطبع تتفق معه وزارة الدفاع البريطانية، وخصوصاً مع تزايد الشكوك حول قدرتها الدفاعية منفردة بوجه روسيا. وعلى الرغم من أن لندن تنفق أكثر من 2 في المائة على الموازنة الدفاعية، إلا أن المطالب تبدو أبعد من مجرد نسب مئوية، وهو ما يقلق معسكر معارضة زيادة مخصصات التسلح، لما يمكن أن يعكسه على بقية دول القارة في سباق التسلح.
بالنسبة إلى الدول الجارة لروسيا، فإن كل ما تقدّم من اعتبار تحركات موسكو العسكرية "استفزازاً وتهديداً"، يزيد من توجّه دول البلطيق وبولندا نحو زيادة الإنفاق للعام الحالي 2018، مع توسيع واضح للتعاون الدفاعي بنشر مزيد من عتاد وجنود الحلف الأطلسي على أراضيها.