يقبع عدد كبير من الشباب العربي في سجون الهجرة، بسبب جرائم وجنح كثيرة، ربما الجامع بينها هو الجهل التام بالقوانين في المجتمعات الجديدة، في حين تتبلور صورة نمطية عن المهاجرين العرب، بكونهم "عشاق سجون" وخريجي جريمة.
شهادة من الداخل
في زيارة إلى أحد سجون بريطانيا، تشاهد وتسمع قصصاً أدت بالعديد من الشباب العربي لقضاء أعوام من العمر وراء القضبان، ومنهم من لا يزالون عاجزين عن استيعاب الأسباب، خصوصاً حين تغيب الأدلّة.
في قاعة الانتظار، تسنى لي تبادل أطراف الحديث مع امرأة، بدا الألم جلياً في عينيها وهي تحبس الدموع. كانت تقارب الستين من العمر، التفتت نحوي وراحت تتحدث بالعربية قائلة: "تزوّج ابني من فتاة أوروبية، وأنجب منها ثلاثة أطفال، وذات يوم، وبعد شجار بسيط في المساء، داهمت الشرطة مكان عمله، وأبلغته بأنّه قيد الاعتقال، بعد أن زعمت زوجته أنّه اغتصبها". وتتابع: "لا أفهم كيف يغتصب رجل زوجته ويسجن؟".
في القاعة الكبيرة، حيث يجلس كل سجين في مكانه حول طاولة مستديرة تضم ثلاثة كراس إضافية ثابتة، يسمح بالزيارة لثلاثة أشخاص فقط.
هناك، أخبرني مراد (اسم مستعار)، السجين الذي قصدته، عن وجود العديد من الشباب العربي في الداخل، ولأسباب قد نعتبرها تافهة في مجتمعاتنا.
الرواية الأكثر إيلاماً كانت لرجل تجاوز السبعين من العمر. فرّ الرجل وعائلته من هول الحرب في سورية، وما أن شعر بالأمان في بريطانيا، حتى جاءته المصيبة من حيث لا يدري. اتّهمته امرأة بالتحرّش الجنسي، وعلى الرّغم من نفي الرّجل لذلك، وتأكيده على عجزه جنسياً، فضلاً عن غياب أي دليل يدينه، حكم عليه بالسجن لسنوات.
"إنّه حكم بالموت وليس بالسجن على مسن في عمره، لا أعتقد أنّه سيخرج من هنا حياً"، يقول مراد.
أمّا الرواية الثانية فتعود لسوداني (40 سنة)، متزوج وأب. تختلف الظروف هنا، كونه دخل إلى أحد مواقع المواعدة، وبدأ مراسلة فتاة. يقول إنّها كتبت على بروفايلها أنّها في العشرينيات من العمر. وبعد أيّام من التواصل معها، وصلته من حسابها رسالة تقول: "ابتعد عن أختي فهي قاصر لم تتجاوز الثالثة عشرة من العمر". قد تكون جريمته أنّه لم يأبه بتلك الرسالة. ويتابع أنّ الفتاة فتحت الكاميرا، وكانت بالفعل قاصراً، لكن لم تمض دقائق، حتى دخلت أختها وهدّدته بالتبليغ عنه. وصلت قضيته إلى المحكمة وها هو يقضي عقوبته في السجن.
"كان يشعر بالندم لعدم استيعابه خطورة التواصل مع قاصر"، يخبرنا مراد، ويكمل أنّ الرجل "في حالة اكتئاب شديد".
من جهة أخرى، يبدي مراد تعاطفاً مع شاب سعودي في أوائل العشرينيات من العمر، ويقول إنّه متوتر وقلق بشكل دائم، "يحاول أن يبقى معي طوال الوقت وكأني أمثّل الأمان بالنسبة له. وتهمته أيضاً لا تبتعد عن نطاق التحرّش، التي ينكرها وينفيها".
يتابع مراد "تبقى الطعنة الأكبر تلك التي تأتيك من الأقارب والأهل، حين تستغل نساء بلادنا قوانين هذا البلد التي أنصفت المرأة، فيزيفنّ الحقائق لإرسال أزواجهنّ أو أقاربهن إلى السجون بحجّة العنف المنزلي، أو موضة التحرّش الجنسي الرائجة في بريطانيا خلال هذه الفترة".
وأمام السجن أخبرني شاب لبناني بأنّ أحد معارفه قدم بزيارة لمناسبة تخرّج ابنه من الجامعة، حكم عليه بالسجن. فأثناء الرحلة زعمت فتاة أنّه حاول التقرّب منها، وقدّم لها هدية. وما أن هبطت الطائرة حتى أبلغت عنه وألقي القبض عليه.
قد لا يكون جميع هؤلاء الشباب أبرياء، بيد أنّ الاختلاف الشاسع في التقاليد وقسوة القضاء في بريطانيا في التعامل مع هذه القضايا توضح الكثير.
تفسير ومسؤوليات
في الدنمارك، يقضي اليوم المئات من المهاجرين واللاجئين أحكاما تراوح بين المؤبد والأشهر. ففي حالة ماهر، الذي حضر قبل عامين، وجد "مذنبا بالعنف ضد زوجته ومحاولة خطف الأطفال". لا يفهم ماهر "الحكم القاسي بسبب كف"، كما يقول. ويضيف "كيف يحكمون علي لأني أريد تربية أطفالي بطريقتي؟". ليس فقط القادم الجديد من يجد نفسه خلف قضبان الدنمارك والسويد والنرويج وألمانيا وغيرها من دول غرب أوروبا التي استقبلت في السنوات الأخيرة أكثر من مليون ونصف لاجئ/ مهاجر.
فلا يختلف الأمر بالنسبة للشاب إبراهيم (25 سنة)، الذي ولد في البلد ويقضي محكوميته اليوم في سجن مفتوح، وبالنسبة له "الدخول للسجن مرة أو مرتين يجعلك عالقا في حلقة مفرغة".
هي ليست المرة الأولى التي يسجن فيها إبراهيم لكنها أخطرها "تهديد الشهود" في قضية مخدرات، ويقضي الآن عقوبة 6 أشهر. إبراهيم يعتبر نفسه محظوظا "لأني ولدت هنا ولدي جنسية، وإلا لحكم علي بالترحيل".
"الحلقة المفرغة" التي يتحدث عنها "أني كبرت في تجمع سكاني عربي، وأنه يجب أن تكون قويا، وتورطت في أعمال جنائية مع بعض الشباب وأنا في سن السادسة عشرة. مرت 8 سنوات الآن على دخولي وخروجي، حملت الكثير من مواقف العداء ضد المجتمع الذي اعتبرته يرفضني ويمارس عنصرية بحقي وحق من هم ليسوا دنماركيين بالأصل".
زيادة أعداد الشبان الذين يقضون سنوات من عمرهم في "الطريق الخطأ"، بوصف صديق إبراهيم "زياد"، يرده مستشار في قضايا الدمج مارتن إبلغوورد، إلى "فشل الدمج وشعور الشبيبة بأنهم جزء من المجتمع".
مارتن يشرح لـ"العربي الجديد"، أن "مخاوف مجتمعية كثيرة تترافق وارتفاع النسبة المئوية، وخصوصا للقصر الذين يقضون أحكاما في مؤسسات تأهيل مغلقة".
يخبر إبراهيم وصديقه زياد أن "رفض المساومة للعمل كمخبرين للشرطة" جعلهما هدفا للتوقيف المستمر "على أتفه الأسباب". وتسري بين المراهقين قصص كثيرة عن استخدام الشرطة "تجنيد" البعض للتجسس على محيطهم. ناشط عربي في جمعية تعنى بالشباب في آرهوس، يقول لـ"العربي الجديد"، إن "بعض الشباب وجدوا أنفسهم بالفعل متورطين بتقديم معلومات للشرطة كنوع من المساومة، وهو ما تفاعل مع الوقت إلى أن ظن بعض اليافعين أن بإمكانهم عمل أي شيء بدون ملاحقة قضائية، وقد انفجرت بعض القضايا بوجه الشرطة نفسها".
واليوم يخوض كل من إبراهيم وزياد برنامج "تأهيل تشرف عليه البلدية ومصلحة السجون، فنحن الآن ندرس الثانوية بعد كل هذه السنوات للدراسة في الجامعة، وللأسف كان الانخراط في العصابات هو البديل عن شعورك بالرفض من المجتمع". ويضيف زياد "لكن حين أفكر، بعد رحلة التأهيل، بطبيعة المجتمع، فأنا أفكر بأني كنت على خطأ، فلم نخرج أصلا من إطار مجتمع الهجرة، أي لم ننخرط في المجتمع الأوسع، وأهلي وأهل رفاقي يتحملون مسؤولية في ذلك".
اللاجئة الشابة "لانا" (18 سنة)، يعتبرها مارتن إبلغوورد "نموذجاً لسوء فهم القادمين الجدد لكيفية التصرف، الذين تساهم نسبة الحكم عليهم في ارتفاع نسب المسجونين من أصل غير غربي، فهي قامت بتهديد رجال الشرطة شفهيا بالذبح، وبالطبع دون أن تقصد، لكن القانون وجدها مذنبة، فحكم عليها بالسجن وسحب إقامتها، وهي الآن قيد الترحيل". وتذكر "لانا" لـ"العربي الجديد"، أنها لم تفهم بعد عام ونصف من اللجوء "كيف خرجت مني تلك الجملة دون قصد، فهي عادية في مجتمعنا، وحظي السيئ أن بعض رجال الشرطة يفهمون العربية أحسن مني، وكان كلامي بفورة غضب".
ويربط الطبيب النفساني المختص بالسلوك الإجرامي، ميكال هلومكفسيت، بين "محاولة الاحتماء بهوية الجماعة عند أمثاله من اليافعين بدل هوية الطبقة والمجتمع، بل بعضهم يخالف القانون نكاية بالمجتمع الذي يعتقدون أنه عنصري ويرفضهم".
عن هذا الواقع، يتحدث لـ"العربي الجديد" أحد الرجال العرب في جهاز الشرطة الدنماركي (مفضلا أن لا يذكر اسمه)، عن أنه "من الصحيح وجود عنصريين وتمييز بحق من هم ليسوا غربيين، وأسمع مثل هذا حتى بين زملائي، لكن إن فكرت بعمق ستجد أيضا أن ثمة ممارسات مترابطة وتؤثر ببعضها البعض".
يسوق هذا الشرطي أمثلة عن تزايد أعداد الشباب في السجون "منذ صيف العام 2017 قتل أشخاص بتبادل إطلاق نار مستمر بين العصابات، وجرى اعتقال 36 شابا في أواخر السنة الماضية، في ديسمبر/ كانون الأول 2017، هؤلاء بالتأكيد انضموا إلى القائمة، وباتوا أيضا مثار نقاش في وسائل الإعلام، لا يمكن للأهل توقع انفلات الوضع وعدم متابعة تربية الأبناء وعدم محاسبة الأبناء قانونيا، بغض النظر عن رأينا في فشل سياسة الدمج".
ويمضي شارحا رأيه "إن فكرت بالأمر مربوطا فقط بفشل الدمج، فلن نتحرك إلى المستقبل، ما دخل الدمج في التنافس على تسويق المخدرات؟ وأين؟ في التجمعات التي يقطنها المهاجرون، وهؤلاء للأسف يحاولون فرض قوانينهم على المجتمعات المحلية المهاجرة".
نسب لافتة
وتفيد الإحصاءات بأنّ العنف يشكّل أعلى نسب الجرائم، حيث بلغت 25 بالمائة، تليه الجرائم الجنسية والسرقة والمخدرات التي تسجّل حوالي 15 بالمائة من مجموع الجرائم.
وفي نهاية عام 2016، كانت المجموعات العرقية غير البيضاء تزيد عن ربع عدد السجناء، وبقيت هذه النسبة ثابتة منذ عام 2005، حيث بلغت 12 بالمائة من عامة السكان و25 بالمائة من عدد السجناء في ديسمبر/ كانون الأول 2016.
ووفقاً لبيانات المكتب الإحصائي للجماعات الأوروبية، كان لدى إنكلترا وويلز 146 سجيناً لكل 100 ألف مواطن، ما يجعلها تحتل المرتبة 11 لأعلى معدّل في أوروبا والأولى بين دول أوروبا الغربية. بينما تأتي اسكتلندا في المرتبة الثانية عشرة، بمعدل 145 سجيناً لكل 100 ألف شخص. أمّا إيرلندا الشمالية فيبلغ معدّل المساجين فيها 93 لكل 100 ألف من السكان، وتحتل المرتبة 22 في أوروبا.
الصورة النمطية
بالنسبة للأستاذ الجامعي في قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة أودنسه، جنوب الدنمارك، ميهمت اومت ناصيف، فإن هناك رابطا قويا بين البطالة والعيش على هامش المجتمعات وتنامي الأعمال الجنائية في صفوف أبناء المهاجرين. ويرى ناصيف أن المجتمعات "لم تكن قادرة على التعامل بشكل جيد مع مسلميها، وهي حلقة مفرغة قاتلة تؤدي إلى استمرار دوران الإرث الاجتماعي في الحلقة ذاتها".
في المقابل، يرى كثيرون، بمن فيهم عرب ومسلمون، أن "الصورة النمطية للمسلمين في أوروبا تؤدي إلى تعميم يستغله اليمين المتشدد"، فيما أحزاب يسارية وجماعات مهاجرين ترى أن "الإجحاف وعدم فتح الأفق أمام الشبيبة" يؤدي ببعضهم إلى البحث عن الانخراط في جماعات تمارس أعمالا غير قانونية "كتعويض عن الهوية". ويحذر هؤلاء من أن "الزج بكل هذه الأعداد في السجون يعزز الصورة النمطية ويؤدي بالشباب للوقوع فريسة التشدد واستغلال البعض لهم". ويرى الباحث في مؤسسة روكوو لارس أندرسنل "علاقة وثيقة بين التعليم وانخفاض نسب الجريمة".