تكتسب رحلة الاقتصادي السوري البارز محمد سعيد الزعيم إلى ليبيا عام 1957 أهمية خاصة، كونها تعد واحدة من الشهادات القليلة حول ليبيا بعد الاستقلال وقبل "ثورة" القذافي.
في هذه المرحلة الدقيقة كانت ليبيا تتلمس خطواتها نحو البناء وتكريس وحدة الأقطار الثلاثة برقة وطرابلس وفزان، التي شكلت المملكة الليبية المتحدة.
كان هدف رحلة الزعيم المعلن زيارة دول المغرب العربي والمستقلة أو حديثة الاستقلال، والوقوف على أوضاعها الحقيقية، ومحاولة بناء أواصر علاقة معها في مرحلة مصيرية من تاريخها، أما الهدف الثاني المعلن جزئياً فكان البحث في إمكانيات إنشاء فروع للبنك العربي في هذه الأقطار، وقد صرّح كاتب هذه الرحلة بذلك في ختام حديثه عن زيارة مراكش ولقائهم العاهل المغربي محمد الخامس.
ولد محمد سعيد الزعيم في حماة أواخر ذي الحجة سنة 1322هـ، 1905م. واعتقل والده إبان حكم جمعية الاتحاد والترقي بسبب مساندته الجمعية المحمدية التي اتهمت بالارتجاعية، أي إعادة السلطان عبد الحميد إلى السلطنة وخلع أخيه محمد رشاد.
وكان من أبرز الشخصيات الوطنية في العشرينيات، إذ ساهم في الثورة السورية الكبرى وقاوم الاستعمار الفرنسي ووضع في ذلك كتاباً عنوانه (كتاب مع ثورة حماة لسنة 1925 وفي غياهب سجونها وخواطر عن الحركة الفكرية القومية في مدينة أبي الفداء)، الذي صدر في حلب عام 1962م.
وقد عرف عن الزعيم حبه للعلم وتشجيعه للأدب العربي، إذ كان أول رجل أعمال سوري يخصص مبلغاً مالياً لجائزة أدبية عام 1931م. خلاصة هذه المسابقة أن الزعيم أعلن عن عزمه على تخصيص خمس ليرات ذهبية عثمانية للفائز في دراسة موضوعها "الأدب العربي ماضيه وحاضره. مبلغ تأثره بالآداب الغربية. وما هو المدى الذي ينبغي ألا يتجاوزه تطور الأدب العربي بتأثره بآداب الغرب". وقد استجاب سامي الكيالي صاحب مجلة الحديث للدعوة. وأعلن عن المسابقة في العدد الثامن من السنة الخامسة (آب 1931)، على أن يكون المتسابقون من حلب وحدها. وقد شكلت بعد ذلك لجنة تحكيم مؤلفة من الأب أغناطيوس سعد وأمين هلال والدكتور علي الناصر وسامي الكيالي، اجتمعت في الحادي عشر من تشرين الثاني 1931، وقررت منح الجائزة مناصفة بين ايزاك موسى شموس ونديمة المتنقاري (صاحبة مجلة المرأة آنذاك).
وبالإضافة إلى اهتمام الزعيم بتشجيع الأدب عرف عنه نشاطه في المحاضرات والمنتديات الثقافية والفكرية والتي كان يشارك فيها من خلال محاضرات علمية يبذل الجهود الكبيرة في الإعداد لها، وقد حفظت لنا غرفة تجارة حلب نصاً لمحاضرتين ألقيتا في خمسينيات القرن العشرين الأولى حول "وضع الاقتصاد العربي والحواجز الجمركية بين البلاد العربية"، والثانية "نمو الاقتصاد العربي وتوجيهه للصمود في وجه إسرائيل".
وأهمية هذه الرحلة تكمن في أهمية كاتبها، وكذلك في الزمن الذي تمت فيه، حيث كانت المشاعر القومية العربية تتسم بالرومانسية، والشعارات كانت تحجب قتامة الواقع والظروف المعقدة للدول العربية بعد الاستقلال، ولعل رحالتنا محمد سعيد الزعيم ورفيقه عبد الحميد شومان كانا من أوائل الشخصيات العربية التي فكرت بالوحدة الاقتصادية وتنبها إلى أهميتها مبكراً.
من الإسكندرية إلى بنغازي
بدأت رحلة الزعيم إلى ليبيا من الإسكندرية صباح الجمعة في 29 تشرين الثاني 1957 برفقة الاقتصادي الفلسطيني عبد الحميد شومان مؤسس البنك العربي. وقد وصلا على متن سيارتهما في مساء اليوم ذاته إلى امساعد وهو أول مركز ليبي يخفق عليه علم ليبيا، الذي يرمز إلى الشعار السنوسي والأقطار الثلاثة التي تؤلف المملكة الليبية المتحدة: برقة وطرابلس وفزان، وفي وسطه الهلال والنجمة، وبعد اجتياز 145 كم في طريق كلها معبدة، يصلان إلى طبرق المدينة التي يقول إنها جميلة وصغيرة رابضة على خليج باسمها ترسو به بعض السفن، وعلى جنبات المرفأ يقع قصر الملك إدريس الأول ملك ليبيا الذي يقيم فيه.
ويقول: "الحديث عن طبرق يعود أيضاً إلى ذكر معارك الصحراء التي كانت للفريقين المتحاربين معارك كر وفرّ ونصر وهزيمة لا تزال آثارها بادية للعيان. ويعتبر خليج طبرق من أمنع المواقع في حوض الأبيض المتوسط، بفضل التحصينات التي أنشئت فيه خلال الحرب الأخيرة". ويضيف بالقول إن الملك إدريس يفضل طبرق على غيرها بسبب هدوئها ودفئها وقربها من صحراء برقة مرابع طائفته وجماعته.
بعد سير ساعتين ونصف من طبرق مساء، يصلان إلى درنة وقد نزلا إليها من الصحراء انحداراً حتى بلغاها على البحر، وحلّا في فندق أسسه الإيطاليون وسموه باسم الجبل الأخضر بعد أن قطعا في ذاك اليوم 850 كم. وبعد أن يخبرنا بأن المدينة ذكرت في حروب طرابلس وبرقة بين الأتراك والبرقاويين والطليان، يؤكد أن مظاهر الحياة الحديثة تشع منها، ففيها تجارة ومتاجر ومكتبات عربية. ويشير إلى وجود سور يحيط بدرنة من جهة الجبل بناه الإيطاليون لصد هجمات المدافعين العرب الأحرار القادمين من الصحراء، كما يقول.
الجبل الأخضر
ويضيف قائلاً: "رحنا من درنة نصعد إلى الجبل الأخضر، في طريق معبّدة أحسن تعبيد، وهندستها تدل على كفاءة نادرة والأشجار الحراجية تكسو الآكام والحزون، وقد أقام الإيطاليون في الجبل الأخضر مزارع منظمة يستثمرها العرب اليوم، ولكن فلاحتهم كلها بدائية بوساطة الجمال والحمير والأبقار.. ويحوي الجبل آثاراً ظاهرة من بقايا الإغريق، وتستعمل مراكز إصلاح الطرق التي تركها الإيطاليون مدارس لتعليم أبناء القرى، وما أجمل قوافل الطلاب الفلاحين في الصباح تمشي زرافات ووحداناً لانتهال مناهل العلم والعرفان. وسكان الجبل هم من بقايا قبائل بني سليم الذين توارثوا عن أجدادهم الحياة بعاداتهم القبلية وتربية الماشية".
البيضاء... مصيف الملك
يتابع وصفه للطريق: "مررنا بالبيضاء وهي مصيف الملك، من أجمل المدن في الجبل معروفة بأبنيتها البيضاء والغابات المنتشرة من حولها، ثم مررنا بمسة واجتزنا جسور وادي الكوف العظيمة ذات العلو الشاهق التي تصل بين جبلين في وادٍ سحيق، وهذه الجسور من إنشاء الإيطاليين. ثم مررنا بالبياضة ثم بمدينة المرج وتحيط بها سهول منبتة متصلة بالساحل إلى أن وصلنا بنغازي مدينة برقة الجميلة المنسقة أحسن تنسيق وحللنا في فندق البرنيتشي الضخم الذي يدار اليوم لحساب البلدية، وقد بناه الإيطاليون على مرفأ المدينة في موقع جميل جداً".
وحول مدينة بنغازي يقول: "تعد مدينة بنغازي ستين ألف نسمة، وتعد من أجمل مدن ليبيا، فيها مطار مدني وآخر بريطاني، وحيث إن نظام المملكة يقضي بتناوب مركز الحكومة الفدرالية بين طرابلس وبنغازي كل عامين، فقد صادف وجودنا هناك انتقال الحكومة العليا بوزرائها ونوابها ومحكمتها الأولى إلى بنغازي.
وسهلت لنا الدعوة الكريمة التي دعا إليها السيد عبد الله حامد السنوسي ابن عم الملك الوزارة جميعها لحفلة غداء في بيته العربي الكبير، إلى التعرف برئيس الوزراء السيد عبد المجيد كعبار وإلى سائر الوزراء، وكلهم من الشباب النير، وإلى التزود بكثير من المعلومات المختلفة".
ويضيف: "بنغازي خمائل أشجار الزيتون من طرف وزرقة البحر الصافية من جهة أخرى. تحوي المدينة الكثير من الصناعات اليدوية، ولاسيما النسيجية، والبعض منها صناعة سورية الأصل، نقلها إلى ليبيا تجار وصناع سوريون أذكر منهم السادة آل خزام الحلبي المنبت. وليس في بنغازي صناعات كبيرة آلية تذكر، ولكن فيها بعض الصناعات من أثر الإيطاليين. وغرفتها التجارية غرفة ناهضة تدعو لدعم الصلات التجارية مع الخارج، ورئيسها السيد عوض لنقي من كرام الأسر البرقاوية. ويُبنى في بنغازي الكثير من دور الحكومة الليبية المركزية، كما يقام فيها أثر تذكاري كبير فخم للشهيد عمر المختار، يليق بذكرى سيد شهداء ليبيا، أوصى به الملك إدريس وفاء لحق هذا الرجل الأبي العظيم على الوطن الليبي".
طرابلس الغرب
يغادر سعيد الزعيم بعد ذلك بنغازي بعد ظهر الاثنين من مطار بنينة الذي يبعد عن المدينة سبعة عشر كيلومتراً، على متن طائرة شركة مصر للطيران في وسط سماء غائمة متلبدة متكهربة، كما يقول. وبعد ساعتين وأربعين دقيقة نزل في مطار إدريس، وبعده عن مدينة طرابلس الغرب 29 كم. ويشير إلى أن الطريق بينهما آية في الجمال تسير وسط بحر من غابات الزيتون والكرمة.
ويصف طرابلس بالقول: "البلدة جميلة جداً وعدد سكانها يتراوح بين 180 و200 ألف نسمة. يتجلى فيها العمران الحديث، أوجد فيها الإيطاليون ساحات عامرة وأسواقاً منسقة جامعة، وشوارع عريضة منظمة فهي مدينة أوروبية وبها قصور ومنازل ضخمة فخمة ذات حدائق غناء، ومنظر الكورنيش على البحر بين أشجار النخيل بهي وأخاذ. أما المدينة القديمة داخل السور فإنها تحافظ على طابعها الشرقي الجميل. والسور المحيط بها يعود بتاريخه إلى الفينيقيين والرومانيين والعرب والإسبان والأتراك، وزرت مبنى إدارة البنك الليبي الوطني داخل السور، وهو بنك الإصدار، مبني بالمرمر المختلف الألوان وهو في هندسته وعظمته تحفة غالية. وفي المدينة القديمة أسواق مسقوفة كأسواق حلب ودمشق لبيع الصناعات المحلية من نسيج وجلود وغيرها".
ويتابع وصفه: "من القصور الكبيرة في طرابلس قصر الخلد وهو القصر الملكي اليوم، وقد كان مقراً للماريشال بادليو. بناه الإيطاليون على الطريقة المغربية الأندلسية فجاء عجباً سخر له بناته مهرة الصناع الإيطاليين وأعطوه منتهى حذقهم الهندسي والبنائي وفرشوه بأغلى الرياش، وفيه حديقة غناء تحاكي أعظم حدائق القصور الملكية في أوروبا. وقد زرت والي طرابلس السيد طاهر باكير، وهو رجل فاضل ومن قدامى رجال التعليم، وقد قضى في دمشق ثماني سنوات مهاجراً عن بلده وهو يحفظ لسورية كل جميل. كما زرت الغرفة التجارية التي أسسها الطليان ويديرها اليوم التجار العرب وهي غرفة فخمة ذات أثر كبير في التوجيه الاقتصادي ويسعى رئيسها والأعضاء للأخذ بأيدي التجار الليبيين ليحتلوا المكانة اللائقة بهم، كما أن لهم جهوداً كبيرة في توثيق عرى الصلات القومية والأخوية مع البلاد العربية كلها، وقد لقيت منهم ومن ممثليهم في البرلمان كل إكرام وحفاوة وود صادق".
ويقول الزعيم إنه "من الكلمات المألوفة في طرابلس كلمة باهي بمعنى جيد، وما زال بمعنى أيضاً أو تابع، وراجي بمعنى انتبه أو تأنَّ. وفي المأدبة المنزلية التي أقامها لنا السيد علي نور الدين الفكيني من كرام الأسرة المجاهدة الليبية قدم الطشت والإبريق على مائدة الطعام لغسل الأيدي بالصابون حسب العادات المحلية، وقدم لنا الشاي ثلاث مرات عقب الأكل.. وتضم المدينة فنادق ضخمة من الدرجة الأولى، منها فندق المهاري وقد أكرمنا فيه رجال غرفة التجارة بمأدبة كريمة، وفندق كراند أوتيل وكلها مبنية على البحر، وتحوي كل وسائل اللهو، وهي ملتقى رجال الطبقات الراقية في طرابلس. وبالقرب من طرابلس المطار الأميركي الضخم، وكانت الطائرات النفاثة دائمة الحركة فيه. وقمت بزيارة لمبنى البرلمان الليبي، بصحبة الأخ الصديق السيد عبد العزيز الزقلعي نائب طرابلس، وهو مبنى جامع لمجلس النواب ومجلس الشيوخ، وكان يوم الزيارة معداً نفسه للانتقال إلى بنغازي".
الزراعة وتربية المواشي
وحول الزراعة في ليبيا يقول الزعيم: "الحمضيات موفورة في طرابلس، ويقدر إنتاج البرتقال والليمون بحوالي 50 ـ 60 ألف صندوق يصدر منها عشرة آلاف فقط. أما عدد أشجار الزيتون فهو حوالي 7 ـ 8 ملايين شجرة، منها في الشواطئ الثلاثة أرباع وفي الجبال البقية. وثمانون في المائة من زيتون الشواطئ للطليان و5% لليهود و15% للعرب، أما زيتون الجبال فكله للعرب. وقدر إنتاج الزيت عام 1957 بنحو 18 ـ 20 ألف طن. وفي ليبيا ملايين من أشجار النخيل ويقدر الإنتاج منه في منطقة طرابلس بكمية 20 ـ 25 ألف طن، وفي فزان 7 ـ 10 آلاف طن.. أما عدد الأغنام في ليبيا فيبلغ 180 ألفاً تقريباً والجمال 25 ـ 30 ألفاً والأبقار 40 ألفاً وهي مدار حياة القبائل ومعظم السكان العرب".
الأحوال التجارية والاقتصادية والمالية
وحول أوضاع ليبيا الاقتصادية يقول: "بلغت أرقام الاستيراد في ميزان التجارة الخارجية عام 1956 مبلغ 16.601.000 جنيه، والصادرات 4.265.00 فيكون العجز 12.447.000 جنيه. وتبلغ قيمة المواد الغذائية نسبة 28% من مجموع قيمة الواردات، لأن الأرض الليبية لا تفي بحاجات سكانها من الغذاء.. ومن أهم صادرات ليبيا المواد الخام غير الصالحة للأكل وتبلغ نسبتها نحو 7/56%، كما أن منها الفول السوداني والمعادن ونبات الحلفا الذي يستعمل لصناعة الورق ولإنتاج مواد السيلولوز، ويقدر إنتاجه السنوي بنحو 35 ـ 40 ألف طن يشحن معظمها إلى إنكلترا".
ويشير الزعيم إلى أن إيطاليا تحتل الصدارة في التجارة مع ليبيا، تأخذ من الصادرات الليبية 2/38% وتورد لها بنسبة 9/29% من مجموع الاستيراد، وتليها إنكلترا. لافتاً إلى أنه "ليس بين ليبيا والبلاد العربية تبادل تجاري يذكر، غير ما هو قائم بينها وبين مصر بفضل المعاهدة التجارية المعقودة بين البلدين المتجاورين. وتعتبر ليبيا ثاني بلد بعد السودان يستهلك صادرات مصر من النسيج الذي يدخل معفياً من الرسوم.. أما التجارة بين سورية وليبيا فإنها لا تزيد عن 36 ألف جنيه ليبي، منها 25 ألفاً ثمن مواد غذائية و11 ألفاً ثمن مواد مصنوعة. وتصدر ليبيا إلى سورية بمبلغ 7 آلف جنيه مواد خامية".
ويردف قائلاً "ليبيا اليوم في بدء مرحلة التصنيع، والصناعة اليدوية هي السائدة في صناعة النسيج والجلود المزركشة والأواني النحاسية. أما الصناعات الحديثة فهي تتناول تحضير المنتجات الزيتية وصنع المعكرونة وتعليب الخضر والفواكه والأسماك وأهمها الطون والسردين، ويقدر محصول هذه الأسماك بنحو 6400 طن من الطون الضخم و13 ألف طن من المتوسط و28 ألف طن من السردين".
ويؤكد الزعيم احتمال اكتشاف البترول في ليبيا، حيث يشير إلى وجود عدد من الشركات الأميركية والإنكليزية والفرنسية تقوم بأعمال التنقيب لهذا الغرض. ولم تجر حتى الآن أية دراسة جيولوجية للبلاد، غير أن الدلائل تشير إلى أنه لا يوجد هناك كبير أمل في اكتشاف ثروات معدنية".
الأتراك وشيء من التاريخ
بعد ذلك يروي الزعيم شيئاً من تاريخ ليبيا عند إعلان الإيطاليين الحرب في 29 أيلول 1911 على السلطنة العثمانية، حيث تعرضت ليبيا في شهر تشرين الأول لأول غزوة إيطالية، واحتل الإيطاليون أهم المدن الساحلية. ويقول: "جاء من استانبول ضباط كبار مثل فتحي وأنور ومصطفى كمال وعزيز علي المصري، الذين قادوا فلول الجيوش التركية زمناً مع القبائل الليبية في حرب مع المستعمر، استشهد فيها الكثيرون من أبطال برقة وطرابلس".
ويشير إلى أنه مع الحرب العالمية الأولى، عاد الترك في غواصات ألمانية ومعهم نوري باشا أخو أنور، الذي اتصل بالسيد أحمد الشريف السنوسي والتحق به وكانت عاصمته جغبوب.
ويقول إن "غرض الأتراك من حملتهم هذه إشغال الإنكليز في مصر من الجانب الغربي، وإشغال الإيطاليين عن حليفتهم النمسا. ولكن الخطة فشلت واضطر السنوسي للتخلي عن حكم برقة للسيد إدريس، وذهب الأول في غواصة إلى استانبول. وفي عام 1918 إثر انكسار الأتراك وتوقيع الهدنة وسفر واليهم عثمان والضباط الألمان، جمع سليمان باشا الباروني المجاهد الكبير مؤتمراً قومياً في 16 تشرين الثاني 1918 في مسلاتة، وأسس جمهورية طرابلسية لها مجلس إدارة. وكانت إيطاليا تتظاهر بحب التفاهم مع الوطنيين، ولكنها نظرت إلى هذه الجمهورية في طرابلس وإلى إمارة إدريس السنوسي في برقة نظرة الخداع. وأخيراً تنكرت للاتفاقيات التي أجرتها مع المجاهدين وحنقت على البيعة الاجتماعية، التي تمت في مؤتمر غريان للأمير السنوسي، فباشرت بأول إجراء حربي لاكتساح ليبيا كلها مرة ثانية. فاحتلت في تشرين الثاني 1923 ميناء قصر أحمد للوصول إلى مصراتة التي كانت فيها حكومة وطنية برئاسة أحمد السويحلي. وكان الجنرال غرازياني قد غدر من قبل ببطل جبل نفوسة العظيم خليفة ابن عسكر، وكان يتفاوض معه بأرض الوطيه فاعتقل وأعدم شنقاً في الزاوية عام 1922".
ويتابع الزعيم: "عندما سافر الأمير إدريس إلى القاهرة لأمور صحية، وأناب لشؤون إمارته أخاه السيد الرضا، أسند قيادة الجيش بالوكالة للسيد عمر المختار، وكان من أشهر الإخوان السنوسيين علماً وتقوى، وإخلاصاً وشجاعة".
ويضيف: "بعد أن تفرغت إيطاليا من إنهاء المقاومة في طرابلس تحولت للاستيلاء على برقة، فلقيت من عمر المختار وجنده كل ثبات، وكانت أودية الجبل الأخضر وكهوفهُ وغاباته خير مسعف لهم بإفناء الفرق الإيطالية.. وفي سنة 1929 وفي زمن بادوليو والي ليبيا، الذي رأى أن فزان مهمة بالنسبة للعرب المجاهدين، أعدت حملة لاحتلال فزان، وبعد الجهاد المر، الذي قام به المجاهدون تمكنت الحملة من احتلال العاصمة مرزوق، وبذلك انتهت مقاومة فزان.
وفي سبيل تطويق عمر المختار الخاضع لأوامر السيد إدريس في القاهرة، أجلا غرازياني والي برقة قبائل الجبل الأخضر عن أراضيها، وحصرها كلها في أراضي العقيلة، وهي صحراء ومجردة من الشجر والنبات والماء، وكان يقصد إبادتها مع مواشيها.. واستمر عمر المختار يناضل هو ورجاله الفدائيون إلى أن كانوا ذات يوم وقد نفد بتأثير الحصار المفروض عليهم كل قوت وذخيرة، عندما فوجئوا سنة 1931 بكمين إيطالي في بعض أودية مسة بالجبل الأخضر، فناضلهم عمر المختار وإخوانه حتى نفق جواده فسقط به على الأرض، وكان شيخاً قد جاوز الستين، فأسره الطليان وحوكم في بنغازي، وأعدم شنقاً بمحلة سلوق أمام القبائل رضوان الله عليه. وانتهت بنهايته آخر المقاومات المسلحة في برقة".
ويقول رحالتنا إنه "في عهد الفاشيست صودرت جميع الأراضي الساحلية الخصبة من الليبيين، وجلب بادوليو عام 1935 عشرات الألوف من الأسر الإيطالية، حيث اقتطعوا الأراضي للفلاحة، وبمساعدتهم عُمرت القرى وغرس الزيتون وكروم العنب واللوز وحفرت الآبار الارتوازية، وانتشر العمران في عموم ليبيا، وجهزت البلاد بالكهرباء وأنابيب الماء، كما مدت الطريق الساحلية من حدود تونس إلى حدود مصر وطولها حوالي 1900 كم، وقد جند الإيطاليون أهالي ليبيا عام 1935 لغزو الحبشة، ثم في الحرب العالمية الأخيرة لمقاتلة الحلفاء، وفرضوا على الأربع ولايات التي أوجدوها وألحقوها مباشرة بإيطاليا الجنسية الإيطالية، وكانت كل المشاريع العمرانية تقام لحساب ومنفعة المستعمرين دون أبناء البلاد".
الحكم الوطني
ويلفت الزعيم النظر إلى أنه "بعد الحكم الإيطالي، أسست في كل من طرابلس وبرقة حكومات عسكرية بريطانية، وفي فزان حكومة فرنسية عسكرية". ويلفت النظر كذلك إلى وصول لجنة تحقيق مشتركة من أميركا وروسيا وبريطانيا وفرنسا، إلى ليبيا عام 1948، حيث أجمع الليبيون على إعلان رغبتهم في الحرية والاستقلال، وبعد عدة مفاوضات أعلنت هيئة الأمم المتحدة في 21 شباط 1949 قيام دولة ليبية ذات سيادة في فترة لا تتجاوز أول عام 1952.