وكان الأسبوع الأول من تولي سعيّد لرئاسة البلاد، حافلاً باللقاءات والمشاورات والمقابلات السياسية والدبلوماسية، جلّها حول التشكيل الحكومي الجديد والعلاقات الخارجية التونسية، غير أنها لم تخلُ من اهتمام بالوضع الأمني والعسكري الذي يعدّ من صميم صلاحيات الرئيس.
وشرع سعيّد في وضع رؤيته وتصوره لمستقبل السياسة الأمنية والعسكرية العليا للبلاد، لا سيما في ما يتعلّق بالتعاون والشراكة مع الدول والمنظمات، وفي سياق الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب وتأمين الحدود، إلى جانب التعاطي مع ملفات عدة عالقة على غرار ملف الاغتيالات السياسية.
وتكشف التعيينات والإعفاءات في المجال الأمني، منحى سعيّد وتوجهه في المجالين الأمني والعسكري. ومن الطبيعي أن يعيّن الرئيس معاونيه ومساعديه فور توليه مهامه، وهو ما فعله سعيّد وترجم بإقالة وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي وتكليف وزير العدل لتسيير الوزارة بالنيابة عنه، إلى جانب تعيين رئيس أركان جيش البرّ الأسبق محمد صالح الحامدي محلّ الأميرال كمال العكروت في منصب مستشار أول للرئيس مكلف بالأمن القومي، وكذلك تعيين العميد خالد اليحياوي مديراً عاماً للحرس الرئاسي خلفاً للعميد رؤوف مرادع. وعمد سعيّد إلى ضخّ دماء جديدة في القيادة العليا لجهاز الأمن القومي. فعلاوة على تجربة المعيّنين وخبرتهم في المجالات العسكرية والتخطيط الاستراتيجي، فقد قام سعيّد بتعيين رجال من الموثوق بهم لمرافقته طيلة ولايته الخماسية.
ويعدّ ملف التعاون العسكري التونسي مع الدول الشريكة، أبرز الملفات الكبرى أمام الرئيس الجديد، خصوصاً مع شركاء تونس التقليديين، إذ تعدّ الولايات المتحدة الأميركية الشريك الأول والمزوّد الرئيسي للبلاد بالسلاح وتليها فرنسا. كما تعتبر كل من النمسا وألمانيا وتركيا وبلجيكا وإيطاليا من أبرز الشركاء العسكريين لتونس، بحسب حجم صفقات شراء وتوريد الأسلحة معها.
ولا يقف التعاون العسكري لتونس مع شركائها عند التسلح والعتاد والدعم اللوجستي، بل يتجاوز ذلك إلى العمليات العسكرية المشتركة والمناورات والتدخلات العسكرية السلمية تحت غطاء الأمم المتحدة من جهة، أو في نطاق التعاون القائم مع "حلف شمال الأطلسي" من جهة ثانية، أو حتى في نطاق القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا "أفريكوم".
كما يتجاوز التعاون العسكري التونسي مع الجزائر مجالات التدريبات وتبادل الخبرات إلى تعاون استخباراتي عسكري تعزّز أكثر منذ الثورة عام 2011، إلى جانب تدخلات عسكرية مشتركة في مجابهة الإرهابيين المتحصّنين في التضاريس الحدودية بين البلدين.
في السياق، اعتبر رئيس اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب، العميد مختار بن نصر، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "التحديات الأمنية والعسكرية المنتظرة كبيرة"، مشيراً إلى أنّ "ملف مكافحة الإرهاب في المستقبل، لا يقتصر على التدخل العسكري الميداني ومحاصرة الإرهاب في مكامنه وتضييق الخناق عليه في مخابئه، بقدر ما يدعو إلى العمل على الوقاية من هذه الظاهرة والتصدي لها، من خلال مقاومة الفكر العنيف والمتطرف الذي لا يزال مسيطراً ومتغلغلاً في عقول عدد من الشباب في تونس". ولفت بن نصر إلى "أهمية الرهان على إنجاح وتنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب، التي تؤسس إلى الوقاية والحماية، ومتابعة هذه الظاهرة لمقاومة ثقافتها وحاضنتها الفكرية وارتدادها المجتمعي".
وأضاف أنّ "الوحدات العسكرية والأمنية سجلت نجاحات في محاصرة الإرهاب والتضييق عليه في الجبال، والرهان الأكبر هو على الإحاطة بهذا الفكر ومقاومته في المجتمع، واجتثاثه من خلال تضافر كل الجهود داخل الأسرة والمدرسة والمعهد والكليات، وفي دور الثقافة والسينما والمقاهي والنوادي".
كذلك ينتظر سعيّد رهان إرسال قوتين عسكريتين مسلحتين للمشاركة في مهمات أممية خلال عهدته الرئاسية، وهو أمر أكثر صعوبة مما حدث في هذا الشأن خلال عهدة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ووزير الدفاع المقال عبد الكريم الزبيدي. وتكمن الصعوبة اليوم في مصادقة البرلمان على إرسال قوات عسكرية مسلحة إلى الخارج، علماً بأنه تم ذلك للمرة الأولى خلال عهدة السبسي في مارس/آذار الماضي بموافقة 111 برلمانياً من أصل 217 على إرسال وحدة جوية غير مسلحة قوامها 75 عسكرياً في إطار الدعم لبعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما)، وسط مخاوف البرلمانيين وقتها من تعرض الوحدة الجوية إلى مخاطر، محملين السبسي مسؤولية ما قد يحدث للعسكريين التونسيين.
وكان الزبيدي كشف في وقت سابق، عن مهمتين أمميتين إضافيتين ستنخرط بهما القوات التونسية. تتمثّل الأولى في إرسال سريّة شرطة عسكرية مكونة من 134 فرداً، يتم تأهيلها من طرف الأمم المتحدة على أن يحدد نطاق تدخلها لاحقاً، وستعمل في مجال حفظ النظام ودعم التحقيقات الأممية وفق ما تحدده المنظمة. أما المهمة الثانية، فتتمثّل في انتشار لفيلق مشاة التدخل السريع، على أن يحدد مكان ذلك لاحقاً، ويتكون من 850 فرداً، وسيتم كذلك تأهيله من طرف الأمم المتحدة.
وتعود هذه المشاركات بمساعدات مالية وعسكرية على الجيش التونسي، غير أنّ الموافقة على إرسال هذا العدد من العسكريين المسلحين يعدّ مسؤولية كبيرة، وإن كان تحت مظلّة الأمم المتحدة، بما يجعل سعيّد أمام قرار صعب وملف ليس بالهين.
كذلك، من بين الملفات الأمنية الكبرى المطروحة على تونس مستقبلاً، توسّع علاقات التعاون العسكري مع واشنطن، وهو خيار أسّس له السبسي انطلاقاً من الانخراط في شراكة جديدة مع القيادة العسكرية الأميركية في شمال أفريقيا "أفريكوم". وقد شرعت تونس منذ ثلاث سنوات في المشاركة في مناورات "الأسد الأفريقي" التي تجري في صحراء المغرب سنوياً، بمشاركة ألفي جندي من 8 دول.
والتحدي الذي ينتظر سعيّد في هذا الإطار، يتمثّل بموافقته على احتضان تونس للمرة الأولى تدريبات "الأسد الأفريقي" خلال شهري مارس/آذار وإبريل/نيسان من العام المقبل في منطقة كاب سيرات بمحافظة بنزرت شمال البلاد. وهو اتفاق سابق جرى مع السبسي، في مقابل موافقة أميركا وقتها على منح تونس بين 3 و4 بالونات مراقبة في إطار برنامج مساعدتها على التدريب على التحقيقات الجنائية الدولية التابع لوزارة العدل الأميركية. كما أعطت واشنطن موافقتها على صفقة تشمل 12 طائرة تدريب من نوع "تكسان تي 6" بقيمة 234 مليون دولار، بحسب وكالة التعاون الأمني الدفاعي الأميركية.
وأوضحت الوكالة الأميركية وقتها أنّ ھذه الصفقة "ستدعم السیاسة الخارجیة والأمن القومي للولایات المتحدة من خلال المساعدة في تحسین القدرات الدفاعية للحلفاء الرئیسیین من غیر حلف شمال الأطلسي، وھو أمر مھم لتحقيق الاستقرار السیاسي والتقدم الاقتصادي في شمال أفریقیا". ولفتت الوكالة إلى أنّ ھذه الصفقة المحتملة "ستوفّر أيضاً فرصاً إضافية للتعاون الثنائي، وتعزيز العلاقات بين الولايات المتحدة وتونس".
ويجد سعيّد نفسه أمام قيادة عسكرية أميركية جديدة بصعود القائد الجديد لـ"أفريكوم" الجنرال ستيفن تاونسند، الذي بادر بزيارة تونس نهاية أغسطس/آب الماضي خلال فترة الانتخابات بمجرد تعيينه في منصبه الجديد. ونقلت بلاغات رسمية نشرت على موقع السفارة الأميركية عن "أفريكوم" أنّ الجنرال تاونسند ركز خلال لقاءاته مع المسؤولين التونسيين في وزارة الدفاع والجهات الرسمية الأخرى على العلاقات الأمنية المشتركة بين البلدين، وكذلك المصالح الأمنية الأميركية في ليبيا المجاورة لتونس.
من بين الملفات الكبرى التي تنتظر سعيّد أيضاً، والتي لم تفلح الحكومة السابقة في تمريرها، قانون بطاقة التعريف البيومترية والذي تعتبره المؤسسة الأمنية وسيلة للوقاية من الإرهاب والجريمة المنظمة من خلال رقمنة البيانات والبصمات، غير أن هذا القانون لقي رفضاً غير مسبوق من قبل منظمات تعنى بحقوق الإنسان اعتبرت في ذلك تعدياً على الأمور الشخصية.
كما تطالب القوات المسلحة التونسية بقانون لمنع الاعتداءات عليها وحماية عناصرها وعائلاتهم، وهو ما لم يستطع السبسي تمريره على الرغم من مطالب الأمنيين المتكررة ودعواتهم في هذا الشأن، في ظلّ رفض الحقوقيين والإعلام والمجتمع المدني لهذا القانون.
إلى ذلك، اعتبر المحلل السياسي التونسي محمد الغواري، في حديث مع "العربي الجديد"، أن هناك ثلاثة ملفات أمنية وعسكرية محرجة على طاولة سعيّد، وهي تعدّ من التركة الثقيلة التي أورثها له السبسي، وسيجد في معالجتها والحسم فيها صعوبات وضغوطا غير مسبوقة.
وأوضح أنّ أول هذه الملفات هو شهداء الثورة وجرحاها والاحتجاجات على عدم تضمين العشرات منهم في القائمة المعلنة من هيئة حقوق الإنسان، على وقع احتجاجات في صفوف الأمنيين ونقاباتهم الغاضبة.
وأضاف الهواري أنّ ما يعرف بالجهاز السري لحركة "النهضة" هو أيضاً ملف لم ينته بعد، ولن يستطيع سعيّد تجاوزه حتى وإن تذرّع بعدم التدخل في السلطة القضائية بسبب إقحام مجلس الأمن القومي في تفاصيله خلال ولاية السبسي، بما يضاعف من حجم مسؤوليته ويعزز الانتقادات في حقه بفتح أبواب المقارنات والمزايدات حول موقفه من هذه القضية.
أمّا الملف الثالث، وفق الهواري، فيتمثّل في الاغتيالات السياسية التي طاولت زعماء سياسيين على غرار القيادييْن في "الجبهة الشعبية" شكري بلعيد ومحمد البراهمي، إضافة إلى المهندس محمد الزواري، والتي كان تعهّد السبسي بفكّ طلاسمها قبل وفاته، لكنه لم يتقدم فيها قيد أنملة، بشكل رسّخ مسؤولية الرئيس والقائد الأعلى للقوات المسلحة والضامن لاستقرار البلاد وأمنها لحلّ هذه الألغاز.