سفر الأحبة

11 مارس 2017
+ الخط -
عندي قناعة بأن السفر هو أول معرفة الإنسان وبدايتها، وعلى عكس ما ترتبط به الثقافة لغةً، والتي تحيل كل مفرداتها بلغات عدة إلى الاستقرار، أو الثبات في مكان محدد، فإنه يجيء في بالي أن الانتقال هو أساس الفن والأدب. فهو وإذ يتيح انفلاتا من القيم والأخلاق الثابتة، المرتبطة بالمكان غالبا، فإنه في نفس الوقت يولد شعورا مؤسسا للإبداع الإنساني جميعه، أي الشعور بحنين متواصل إلى مكان أو أمكنة.

في الشعر العربي القديم، ليس السفر موضوعا تتطرق إليه القصائد فحسب، ولكنه مقدمة كل المواضيع، تبدأ به قصائد الفخر والغزل والرثاء والمدائح النبوية، وينطلق منه الهجاء. إنه  الباب الأول الأكثر إحكاما، والذي يفتح على أبواب الشعر الأخرى كلها. وكأن الشاعر إذا استطاع أن يقول شعرا على طلل الحبيب، وأن يصف سفره، يصير مُجازا لحديث عن كل ما عدا ذلك. سفر الشاعر وسفر أحبته عتبة كل ما سواه. والأهم أن اتفاق الشعراء كلهم ضمنيا، على الكتابة في إطار واحد، وثقتهم بأن ذلك لا يفسد الشعر ولا يحيله إلى تكرار ثقيل، فيه إدراك عميق، أن كل قصيدة يمكن أن تصف سفر الأحبة وصفا فريدا. سفر الأحبة باختصار هو التكرار الوحيد الذي لا مفسدة للإبداع فيه.

 وأنا وجدتُ نفسي منذ زمن مرتبطا، وتجمعني وشائج كثيرة، بالإبداع الأدبي والفني حول السفر. أحب كل قصائد المتنبي عن سفره، وتغويني مقدمات المعلقات. أحب أغانيَ لا أحب مغنيها، فقط لأنها متعلقة برحيل الأحبة. أراني أحيانا أتغنى بمقطع ركيك من نص ما، أو أردد نغمات أغنية سوقية رديئة، فقط لأن انتقال الأحبة من مكان إلى آخر هو موضوعها. ومع ذلك، يرتبط معظم أغاني سفر الأحبة في ذهني، برأي واحد، إذ أراها كلها  جميلة، جمالا لا يتعلق بموضوعها أبدا، ولا أظن حكمي عليها متعلقا به.

من "يا مسافر وحدك" بصوت عبد الوهاب، وكذا بصوت نجاة، إلى "خلاص مسافر" لأسمهان، ثم "اوعى تسافر" التي لا أحب لجوليا بطرس غيرها، أجدني مأسورا بصدق في حدود هذه الأغاني، أحفظ كلماتها كلها، وتاريخها بالتفصيل. وعندما يسافر أحباء جدد، أشعر أن علاقتي بهذه الأغاني محكومة بتطور، بوثاقة خارجة عن إرادتي.

علاقاتنا مع الأحبة الذي يسافرون تنطوي على فهم جديد للحياة، وعلى تناقضات كثيرة، على رغبة حاسمة بالتخلص منهم، وعلى خوف قاس من نسيانهم. على شعور بأنهم خانوا العهد، أو على إدراك أنهم اختاروا الطريق الصحيح فعلا. والأهم أن كل صديق جديد يغادر، يطور فهما جديدا عندنا لعلاقتنا مع المكان، ونكتشف أنها علاقة مع الأشخاص قبل كل ذلك.

تقول جوليا بطرس في الأغنية المذكورة: "يا هالضايع مين القلك.. إنو منو هون الكون"، وتجيء عندي رغبة ملحة مع كل مرة أسمع الأغنية فيها بإرسال هذا المقطع لكل الأحبة الذين سافروا، لكنني أعرف للأسف، "إنو منو هون الكون" فعلا، وأن معهم حق لسوء الحظ. 

دلالات