يتوارث أبناء مدينة صور في جنوب لبنان صناعة المراكب الخشبية أباً عن جد، وغالباً ما يطلبها صيادو الأسماك، بالإضافة إلى المؤسسات السياحية والأفراد. ترتبط صناعة المراكب في مدينة صور بحكايات عشقٍ مع البحر بدأت منذ أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة عام، يوم جاب الفينيقيون البحر المتوسط بتجارتهم المختلفة المحمولة على المراكب التي كانوا يصنعونها بأيديهم.
إيليا بربور (85 عاماً) أمضى أكثر من سبعين عاماً في تطويع الخشب، والتفنن بصناعة أشكال مختلفة من المراكب الخشبية التي تحاكي عهداً تربّعت على مجده مدينة صور. مارس عمله اليومي في محترفه عند مدخل حارة المسيحيين المواجهة لميناء الصيادين، حيث ترسو مئات المراكب. هي مهنةٌ ورثها عن والده، وصار خلال الأعوام الماضية المعلم الوحيد الذي يصنع المراكب ويرمّمها في شاطئ مدينة صور، وبات محله الضيق المكدّس بالأخشاب المحلية قبلةً لطالبي مراكب الصيد والنزهة.
وقد ورّث المهنة لأبنائه الأربعة بعد تقاعده، إلاّ أنه ما زال يزور محترفه يومياً. يقول لـ "العربي الجديد": "كنت أصنع سنوياً أكثر من خمسة مراكب من أحجام مختلفة، يطلبها صيادون من صور وغيرها، أمّا اليوم فبالكاد تتمّ صناعة مركبٍ واحد نتيجة تراجع الطلب عليها من الصيادين الذين يعاندون الصعاب للحفاظ على مهنة رزقهم من أجل الاستمرار بممارستها".
ويوضح بربور "أن كلفة المركب الصغير "الشختورة" تبلغ ستة آلاف دولار أميركي قابلة للارتفاع بحسب طوله، وتحتاج عملية تصنيعه من 3 إلى 6 أشهر، فهناك مراكب يبلغ طولها سبعة أمتار، وقد يصل لعشرة أمتار للصيد وبين 12 و20متراً للنزهة".
قدّم بربور الحرفة بأشكال متعددة فدخلت العالمية من جديد عبر المركب الفينقي الذي صنعه بمواصفات فينيقية: مقدمته عبارةٌ عن رأس ورقبة حصان، أمّا في الخلف فذنب حورية بحر. المركب الذي صنعه بناء لطلب وزارة التجارة اللبنانية فاز بالمرتبة الثالثة في معرض للمراكب أقيم في دولة البرتغال عام 2000. واستطاع بفضل مركبه الفينيقي أن يُعيد المجد لحرفته التي أدخلها في عمق السياحة المستجدة، ويقول: "لقد صنعته بالتعاون مع أولادي، يتوق زوّار صور لجولة على متن المركب لتنشّق التاريخ الفينيقي واستذكار الشعب الذي صنع لصور مجدها واسمها".
ويُضيف بربور "استقطب مركبي زواراً كثراً، فهو منفذ للإطلالة على حضارة الفينيقي، وهذا بحد ذاته إرث تراثي سيرتبط بمدينة صور" ويتابع: "لم أُخطط ليكون مجرّد مركب، بل أردته أن يُجسّد كل شيء على شاكلة زمان".
ويُفسّر: "كنّا نأتي بأخشاب الـ "ايروكو" من إفريقيا لتصنيع المراكب، ولكنّ تعذّر الأمر، بسبب ارتفاع ثمنها وكلفة شحنها إلى لبنان، بالتالي بتنا نعتمد على الخشب المحلي، ولا سيما "الزنزلخت" و"الكينا" و"السرو" وسواه".
كما يتذكر صيّادو صور كيف أنّ إيليا بربور تكفل إثر الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1982 بإصلاح كل مراكب الصيادين التي تضررت بمعظمها جراء القصف على المدينة، وذلك على نفقته الشخصية.